عباس بيضون
(لبنان)

عباس بيضونينبهني الزميل اسكندر حبش إلى الذكرى المئة لميلاد ياتيس ريتسوس. ربما لأكون لائقا لمناسبة يعتقد فيها من يعتبرونني، عن حق، قريبا لصيقا في العائلة العربية لريتسوس. هذه ليست عائلة صغيرة على كل حال، ثم إنها ليست متخفية ولا مغمورة. لذا يكفي أن يدق اسكندر الجرس ليطل الريتسيسيون من مساكنهم وليغدو الاحتفال بريتسوس حقيقياً. لا بد أن شعراء عالميين سوى ريتسوس استحالوا أعمدة في شعرنا ولا بد أن جانبا منه قام على قراءتهم وترجماتهم وسيكون على الباحثين أن يفسروا كيف استحالت ترجمات لطاغور وغوته ولوركا وحكمت واليوت وبرس وبريفير وويتمان وريتسوس أحداثا في شعرنا ودواوين ومدارس. كيف فعلت هذه ما لم تفعله أحيانا الأصول. سيكون على الباحثين ومؤرخي الأدب أن يتتبعوا كيف تحولت الترجمات أصولا أكثر من الأصول. وكيف انحصر ذلك في عدد دون سواه. كيف راقت عبارة برس مثلا لشعراء العربية وهل كان الامر سيبقى كذلك في غير ترجمة أدونيس. ولماذا سار ريتسوس في ذاكرتنا رغم أن بعض ترجماته (سوى ترجمة سعدي) كانت فظة ومعاكسة لشعره. وكيف فعل لوركا وحكمت وبريفير وويتمان، رغم أننا نكاد نجهل الآن ترجماتهم، يبقى على الباحثين أن يجدوا تلك الحلقة المفقودة بين الترجمة والنتاج الأصلي. يعنيني ذلك لفهم الطرق الغامضة للأدب والطرق الأكثر غموضا لتحقيق أصالة أدبية، فالأرجح أن تنكر النصوص وافتتانها بالركاكة وميلها الى الكلام الأقل سوية وشغفها بالهجنة والاختلاط وغيرتها من لغات أخرى تعرضها أو تتخيلها محاكاتها لإيقاعات صحيحة أو غير صحيحة في لغات حقيقية أو غير حقيقية. الأرجح أن أمورا كهذه قد تفعل في تحقيق »أصالة« أدبية ما تفعله الفصاحة والعمود اللغوي والتبحر في التراث وتملك الإيقاعات الموروثة. ليست بالطبع مسألة تأثر وتأثير إلا في الحد الأدنى وليست بالطبع في باب التقليد أو المحاكاة، إنها أكثر من ذلك، لنسمها الانحراف الى ما ليس القوة ولا السوية ولا الجزالة. الانحراف الى الضعف والركاكة، الانحراف عن العمود الى الابتذال والعادية فلهما ايضا غوايتهما، وثمة في القوة والعمود ما يضجر ويثقل وما يهدد بقوة مستعارة وبشبه قوة أو بطنين قوة وطبل قوة. ثم ان هناك حقا فتنة الآخر، لعل الترجمة، والقراءة في الأصل الأجنبي هي بالنسبة لمن يكتب العربية ترجمة بطريقة بأخرى، لعل الترجمة ذات غواية أكيدة. غواية وانجذاب الى تلك اللغة الأخرى، المضمرة والمتخيلة وراء النص. المترجم، لغة لا يعرفها القارئ لكنه يعرف انه يقرأ ايضا في غير لغته وانه موجود في لغة ثانية عليه ان يتخيلها، وهو حين يفعل ذلك يخترع لغة وسيطة. ستكون في جانب منها من صنعه. مسألة كهذه عريقة وجديرة في أدب كأدبنا ذي تاريخ مزدوج فهو يبدأ، وهي إحدى بداياته، من لحظة احتكاك بالغرب.

ريتسوس في ذكراه المئة فعل ذلك عن طريق لغات وسيطة، من ترجموه فعلوا ذلك عن الفرنسية أو الانكليزية، ومن قرأوه قرأوه في ترجمة لا في أصل. بيننا وبينه لغات عدة، الأصل الغائب والأصل المستعار والأجنبية المخترعة، انه يصل إلينا وقد عجن وخبز مرارا. أي ريتسوس اذاً صنعنا. اذا تكلم أحد عن ريتسوس عربي فله الحق، لكن من هو ريتسوس اذاً. ألن يكون شخصا آخر في ثقافة، الفصام إحدى دعائمها.

25-3-2009