عباس بيضونالزميل والشاعر عباس بيضون في المستشفى. خبر مؤسف. لكن حاله لا تدعو إلى القلق، وقد استقر أمس وضعه الصحي، بعد تعرضه لحادث صدم قوي في بيروت. توافد للاطمئنان عليه في مستشفى الجامعة الأميركية، حيث يتلقى العلاج، العديد من أصدقائه وزملائه ومحبيه.

ولعل ورود اتصالات كثيرة من لبنان والخارج، كان له أن يُشعر أسرته وعائلته في «السفير» بالفخر والتعاطف وفيض المحبة، ويُشعرنا بتفاؤل وارتياح.
وإذا كنا نأمل أن يعاود زميلنا الكتابة في أقرب وقت، نشكر كل الذين خضهم الحادث، وآلمتهم جروح كاتب يجترح الكتابة من عمق فكر، وسعة ثقافة وشعرية أثبتت حضوراً عربياً وعالمياً.
نحن في الجريدة، وأصدقاؤه الذين ينتظرون مقالاته وقصائده، نتمنى ألا تتأخر عودته، وأن يستعيد صحته كاملة.

*****

إلى عباس بيضون:
لنفقأ عين السيكلوب
بيار أبي صعب

عباس بيضون
"لم يكن عليه إذاً أن يفعل شيئاً/ كان عليه أن يتسلق إلى طرف الطريق/ تاركاً وراءه/ حبلاً من الخطى التي فكّها عن قدميه/ وأن يقف هناك كالصاري (...)/ ويترك المصابيح تظلم بالترتيب/ خلف كتفيه». لم يكن عبّاس، ليلة الثلاثاء، يريد أن يفعل أكثر من بطل قصيدته القديمة. حاول أن «يتسلّق» إلى الضفّة الأخرى من «الرينغ» في الظلام الدامس، لأسباب مجهولة وغامضة طبعاً. لكنّه هذه المرّة، لم يتأخّر «بضع دقائق فقط»، كما هي العادة، عن موعده (الثالث) مع السيّارة التي صدمته... دائماً يخرج عبّاس بيضون من جسده ليكتب. يعطينا انطباعاً أنّه يكتب من خارج جسده، أنّه يعيش خارج حياته. يهيم فوقها كالأرواح، يتلصّص على نفسه كما نتلصّص على الآخرين. حياته ليست ملكه: يمكن أن يعيرها، أن يرثيها، أن يهجرها، أن يستبدل بها أخرى، أن يبدّل فيها قطعاً، فهو ميكانيكيّ حياته. «يستيقظ كالعادة/ فيجد الحياة هربت/ لكن الأمر لا يهمّ/ هناك قطع غيار بديلة/ ولا يحتاج إلى كلّ هذه الوفرة ليعيش/ الحياة كثيرة عليه»،

ما الذي أخذك إلى جسر فؤاد شهاب في مثل هذا الوقت يا عم عبّاس؟

كما كتب لبسّام حجّار. الحياة؟ لعلّها أفلتت منه في يوم بعيد، ثمّ تعوّد الفكرة. كان عليه أن يحاول استعادتها في القصيدة، بشكل عابر. أن «يعيرها لخدمه يعيشونها عنه». كان عليه أن يمضي وقته في استعادة كل ما يفلت منه: الوقت، المعنى، المشاعر، الصور، الأفكار الكبيرة، الذكريات. الألم. ملفّ الأخطاء. الوجوه الهاربة التي تسيل في دمه. النص الذي لا يقفله عادة، وكثيراً ما ينسى إكمال الجمل، إذ تضيع التتمّة في غياهب اللغة - الفكرة، تغرق في خضمّ الصور والمفاهيم. النص، كما حياته، يتركهما مشرّعَين على تأويلات واحتمالات كثيرة، مؤجّلة غالباً.

اتصلت جميلة صباح أمس لتقول إنّ صديقنا في المستشفى (مهلاً، قرأت ذلك في قصيدة سابقة). صدمته سيارة، وهو يجتاز جسر فؤاد شهاب، الذي يصل بين البيروتين. ما الذي أخذك إلى جسر فؤاد شهاب في مثل هذا الوقت يا عم عبّاس؟ حتّى قنّاصة الحروب الماضية لا يعملون في الليل. من سريرك المسيّج بجمهوريّة الأصدقاء، سيكون عليك الآن أن تصمد، وأن تتحلّى بالشجاعة. هذا طلب شخصي. لا بدّ لنا من أن نستمرّ قليلاً ريثما نفقأ معاً «عين السيكلوب". (عن الاخبار البيروتية).

المحرر الثقافي لصحيفة الاخبار
pabisaab@al-akhbar.com

***

الزاوية المصدومة

احمد بزون
(لبنان)

هذه الزاوية اخترعها عباس بيضون، وقد اتفقنا مؤخراً ألاّ تذهب في إجازة مع صاحبها، وألاّ تنتظره ليعود، أو تخضع لمزاجه. هذه الزاوية وجدت ليبقى نبضها وتستمر مشاغبتها وضحكها ونقدها وسخريتها السوداء والبيضاء والرمادية. اليوم موعد عباس في «الإشكال». كنا نذكّره به عندما يصل يوم الأحد إلى المكتب، وغالباً ما كان يضرب رأسه بيده شاتماً ذاكرته المثقوبة، ويقول امهلوني عشر دقائق ويكون النص معكم، ولا ينسى أن يقول: «صرت مهنياً زيادة على اللزوم»... اليوم لم يكتب عباس بيضون «إشكاله» ولم ينسَ، لكننا نحن ضربنا رؤوسنا، وضرب كفاً بكف العديد ممن ينتظرون دبابيس نقده وسخريته، خائفين أو مهللين.

كان يمكن لعباس أن يكتب «إشكاله» من المستشفى، لو أن الأطباء فكوا عن دماغه رباط المورفين. فهو لا يحتاج إلى الوقوف أو الجلوس كي يكتب، فوجع الظهر المزمن صالحه مع الكتابة ممدداً على السرير، أو على صوفا المكتب.
أملنا أن عباس لن يتأخر عن الكتابة، اطمئنوا، أصدقاء وخصوماً، إنْ خانته رجلاه في معاودة «المشي المقدس»، فإن يده معه، ونحن حواليه، وسوف يكتب عن حادث «تافه» عاكس رياضته المسائية، أو عن قضية كبرى تخرج من تفصيل بسيط في السرير. وسوف لن يترك للثقافة وحدها أن تلوّن حبره، فالسياسة متربعة أيضاً في ذاكرته وله فيها قول كثير، لأنه، أساساً، لا يطمئن عليها في أحضان السياسيين، ولا بين أقلام المحللين السياسيين.

لن يتأخر عباس عن الكتابة، خصوصاً كتابة هذه الزاوية، التي أرادها مشاكسة، ومساحة «للزعرنة» أحياناً، ومسرحاً للأسئلة المفتوحة على السخرية والغضب وصيد الهفوات، والغوص الحر في شؤون وشجون الثقافة، حتى لو أدت الحرية إلى بعض الفوضى، فلا بأس ببعضها، الذي يكون أحياناً أهم من النظام، بحسب عباس.

لا نستطيع أن نسلّم هذه المساحة لأصدقاء عباس، فصفحات الجريدة كلها لا تكفي ليعبروا يومياً عن علاقتهم به، وحاجتهم إليه، وتمسكهم بصحته، والدعاء له بالشفاء، ورغبتهم في أن يسمعوا ويقرأوا، في أقرب وقت، تعليقاته الساخرة التي تتفتق بالضحك.

هذه الزاوية تنتظر عباس بيضون بشوق ولهفة وتعطش. هي زاوية مصدومة مثله، ومثل أصدقائه، الذين لم نكن نتخيل أن يصلهم هول الحادث بهذه السرعة، وأن تنقله وسائل الإعلام، وتتناقله الوسائط الالكترونية بهذا الأسف وهذا الحب.

لن نخفيك يا عباس أن كثافة الاتصالات، منذ الصباح الأول الذي طلع على وجهك المثلّم بالألم، كانت أكثر من طاقتنا على التحمّل، وأن المتصلين من لبنان وأنحاء العالم، على مدار الساعة، لم يكن يهمهم إلا الاطمئنان على صحتك وقلمك وروحك وجسدك وضحكتك. ونحن موعودون بأن عينيك وضحكتك سوف تتفتح معاً، وردَ وفاء لأصدقائك ومحبيك وقرائك ومريديك.. والجميلات التي تعبر قبلاتك فوق خدودهن.

السفير
26 يوليو 2010

* * *

الزاوية المصدومة

احمد بزون
(لبنان)

هذه الزاوية اخترعها عباس بيضون، وقد اتفقنا مؤخراً ألاّ تذهب في إجازة مع صاحبها، وألاّ تنتظره ليعود، أو تخضع لمزاجه. هذه الزاوية وجدت ليبقى نبضها وتستمر مشاغبتها وضحكها ونقدها وسخريتها السوداء والبيضاء والرمادية. اليوم موعد عباس في «الإشكال». كنا نذكّره به عندما يصل يوم الأحد إلى المكتب، وغالباً ما كان يضرب رأسه بيده شاتماً ذاكرته المثقوبة، ويقول امهلوني عشر دقائق ويكون النص معكم، ولا ينسى أن يقول: «صرت مهنياً زيادة على اللزوم»... اليوم لم يكتب عباس بيضون «إشكاله» ولم ينسَ، لكننا نحن ضربنا رؤوسنا، وضرب كفاً بكف العديد ممن ينتظرون دبابيس نقده وسخريته، خائفين أو مهللين.

كان يمكن لعباس أن يكتب «إشكاله» من المستشفى، لو أن الأطباء فكوا عن دماغه رباط المورفين. فهو لا يحتاج إلى الوقوف أو الجلوس كي يكتب، فوجع الظهر المزمن صالحه مع الكتابة ممدداً على السرير، أو على صوفا المكتب.

أملنا أن عباس لن يتأخر عن الكتابة، اطمئنوا، أصدقاء وخصوماً، إنْ خانته رجلاه في معاودة «المشي المقدس»، فإن يده معه، ونحن حواليه، وسوف يكتب عن حادث «تافه» عاكس رياضته المسائية، أو عن قضية كبرى تخرج من تفصيل بسيط في السرير. وسوف لن يترك للثقافة وحدها أن تلوّن حبره، فالسياسة متربعة أيضاً في ذاكرته وله فيها قول كثير، لأنه، أساساً، لا يطمئن عليها في أحضان السياسيين، ولا بين أقلام المحللين السياسيين.

لن يتأخر عباس عن الكتابة، خصوصاً كتابة هذه الزاوية، التي أرادها مشاكسة، ومساحة «للزعرنة» أحياناً، ومسرحاً للأسئلة المفتوحة على السخرية والغضب وصيد الهفوات، والغوص الحر في شؤون وشجون الثقافة، حتى لو أدت الحرية إلى بعض الفوضى، فلا بأس ببعضها، الذي يكون أحياناً أهم من النظام، بحسب عباس.

لا نستطيع أن نسلّم هذه المساحة لأصدقاء عباس، فصفحات الجريدة كلها لا تكفي ليعبروا يومياً عن علاقتهم به، وحاجتهم إليه، وتمسكهم بصحته، والدعاء له بالشفاء، ورغبتهم في أن يسمعوا ويقرأوا، في أقرب وقت، تعليقاته الساخرة التي تتفتق بالضحك.

هذه الزاوية تنتظر عباس بيضون بشوق ولهفة وتعطش. هي زاوية مصدومة مثله، ومثل أصدقائه، الذين لم نكن نتخيل أن يصلهم هول الحادث بهذه السرعة، وأن تنقله وسائل الإعلام، وتتناقله الوسائط الالكترونية بهذا الأسف وهذا الحب.
لن نخفيك يا عباس أن كثافة الاتصالات، منذ الصباح الأول الذي طلع على وجهك المثلّم بالألم، كانت أكثر من طاقتنا على التحمّل، وأن المتصلين من لبنان وأنحاء العالم، على مدار الساعة، لم يكن يهمهم إلا الاطمئنان على صحتك وقلمك وروحك وجسدك وضحكتك. ونحن موعودون بأن عينيك وضحكتك سوف تتفتح معاً، وردَ وفاء لأصدقائك ومحبيك وقرائك ومريديك.. والجميلات التي تعبر قبلاتك فوق خدودهن.

السفير
26 يوليو 2010

* * *

إلى عباس بيضون

رامي الأمين

يصعب عليَّ الذهاب إلى المستشفى، والوقوف هناك، إلى جانب الأصدقاء، حول السرير الذي ينام فيه عباس بيضون مضرّجاً بألمه بعدما دهسه الشعر مسرعاً على الطريق.
لا، لم تكن سيارة تلك التي صدمت عباس بينما كان يقفز من جهة إلى أخرى من جسر "الرينغ".
لم يكن شيئاً أو أحداً أطاح الشاعر وحطّم جسده الذي "كشجرة تشبه حطّاباً".
ربما كان "الوقت بجرعات كبيرة"، أو أنها القصيدة التي كتبها عن انتحار ابن اخته زاد.
لا يهمّ، لكنني لن أصدّق أن سيارة دهسته، مع أنه صرّح غير مرة، وآخرها في لقاء مع جوزف عيساوي في برنامجه، بأنه يرى نهايته في حادث سير، تماماً كما انتهى الأمر بوالده.
هو ليس حادث سير ما حصل مع عباس، الذي بقي طويلاً حتى استطاع حسم هويته، وقبل بلقب "الشاعر"، ترضية عن لقب "المفكر" الذي كان يطمح إليه.

كيف للمفكّر أن ينتبه إلى القصيدة المسرعة في الطريق؟
كيف له أن يفطن إلى "حمار الفنون" كما يسمّيه، وهو الممتطي جواد الفكرة التي لا تتوقف عن القفز فوق الحواجز؟
اقول، ربما السبب في حذائه. ربما لم يذهب منذ مدة إلى "كلارك" في الحمراء ليغيّر الحذاء الذي أنهك قدميه المشّاءتين.

أتذكر حينما رافقت عباس لشراء حذاء من الحمراء، بعدما مشينا من بيته في الصنائع إلى الشارع الذي كان يركض فيه غير آبه باحتمالات التحطّم، متأبطاً كتاباً أو جريدة، باحثاً في الواجهات عن انعكاسه الذي يبقى طويلاً، حتى حينما يمضي إلى واجهات أخرى.
من البيت إلى الحمراء، حديثنا عن زكي الذي سافر للتوّ إلى فرنسا، حتى وصلنا إلى واجهة "كلارك"، حين راح عباس يبحث عن حذاء جديد، الى أن أعجبه واحد، فجرّبه على قدميه ثم اشتراه. حين سأله الموظّف في المتجر ما إذا كان يرغب بأخذ الحذاء القديم معه، أم أنه يبقيه كي يهبه إلى أحد الفقراء، أجاب عباس: "آخذه معي، لا أريد للفقير أن تؤلمه قدماه".
ربما كان الألم لا يزال في قدمَي عباس. ربما الحذاء الجديد صار قديماً، وفي حاجة إلى تغيير.

قم يا عباس من السرير لنذهب إلى "كلارك".
قم نشتر حذاءً جديداً للجري السريع في المدينة البطيئة.
خذني معك إلى فكرة جديدة، امسك يدي ولتعبر بي من ضفة إلى أخرى، ولن أخاف، معك، أن تصدمنا القصيدة.

النهار الثقافي

*******

النوم

عباس بيضون

لا أنام في سرير، لا أذهب إلى فراشي في الساعة نفسها تقريباً كما يفعل الجميع. لا أذهب إلى فراشي بتاتاً ولا أفكر في أن أذهب، لعلمي أنني إذا فعلت ذلك لا أنام. إذا دعوت النوم وتحضرت لن يحضر، إذا دخلت تحت اللحاف وسويته فوقي، بعد أن أكون خلعت ثيابي ووضبتها ولبست البيجاما، إذا وضعت رأسي على الوسادة وأطفأت النور بعد أن أكون تأكدت من إغلاق النوافذ، لن أنام. لقد طردت النوم بكل هذه الحركات. جعلته أبعد فأبعد حركة بعد حركة. لو فعلت ذلك سيطير النعاس من عينيّ تماماً. لن يأتي النوم بقدمه إلى هذا الفخ. هذا الترتيب سيجعله يهرب. ما أفعله حتى أعود في ساعة غير محددة من الليل هو التمدد أمام التلفزيون بثيابي، وفي الحر بثيابي الداخلية. التمدد لا يخيف النوم، فأنا أتمدد غالباً وليس للرقاد وحده. أضع رأسي على وسادة فوق ذراع الكنبة وأتطلع إلى التلفزيون وأنظر في كتاب. اللمبة مضاءة والبيت مشع والتلفزيون والع وأنا فقط أتفرج. ليس لدى النوم ما يخشاه إذاً. بوسعه أن يخرج ويتسلل. أنا لا أنتظره لكني وسط الفيلم أدير رأسي على الوسادة ولا أعرف كيف أكون نمت. أنا كمن لم ينم. حتى وأنا غاف لست نائماً حقيقياً. لا زلت في ثيابي ولست في فراشي. لا بد أن التعب خطفني. التعب فقط وإن كان نوماً.
في ساعة مبكرة أستيقظ، فأجد الليل بدأ ينحل والعتمة مكسورة بظل خفيف. هذه ساعة أخافها كما يخافها مصاصو الدماء، أجد نفسي وحيداً للغاية فيها. أنسحب إلى فراشي هذه المرة وألوذ به. أطلب النوم قصداً لكنه لن يأتي. أضع نظاراتي وأقرأ. لست تعباً وإن يكن جسدي متكسّراً قليلاً بفعل الرقاد على الكنبة، بفعل النوم المرائي والناقص، لست تعباً، أنا صاح تماماً ولن أحاول بعد النوم. إذا قرأت بالعربية قد أستيقظ أكثر، بالفرنسية هناك خطر أكبر في أن أعاود تعبي. وبدون أن أشعر به، بدون أي بادرة واضحة أو إشارة يسرقني نوم لم أنتظره، كأنني اختفيت برهة عن الزمن. حين أفتح عينيّ يكون النهار قد ملأ العالم، وأنا مروي من الصحة والصحو.
في التاسعة أو العاشرة، كنت أستيقظ في تلك الغرفة التي ننام فيها سوية، أبي وأمي وأنا وأخي وأختي. كان السقف من ألواح خشبية لم تعد متماسكة بما يكفي، ومن وقت لآخر تهبط نسمة خفيفة من التراب الناعم، بسلام، على سريري، وعلى وجهي. كنت وحيداً في ذلك السرير القديم الذي ارتخى رفاصه وتجوّر تحتي، لكن ذلك لم يكن شيئاً، لطالما تمتعت بهبوط سريري وحتى بتلك النسمة الترابية. كان ذلك لي وحدي وأنا اتمتع فيه بخصوصيتي كما لو كان امتيازاً. أسوق سريري كما لو كان قارباً، وأنتظر هبة السقف كما لو كان سماء. في أخريات العتمة أستيقظ وحدي لأتابع تفكيري في الموت، أستيقظ في هذا الوقت ليتسنى لي أن أفكر وحدي في هذه المسألة. أشعر بالموت قريباً وأرتجف من فكرة الرقاد الطويل تحت التراب. إذ كان الموت يعني لي ذلك أولاً. أظل هكذا إلى أن تبدأ الظلمة في الانحلال وتغدو الرؤية ممكنة فيطير رعبي.
مع ذلك لم أكن أخاف من هذه اليقظة المبكرة، لا أحسد أهلي على نومهم، ولا أشعر بأني هكذا وحيد في أفكاري. كنت أجد في ذلك فرصة إضافية. لم يعطوها، لأواجه قدري. لأفكر في مصير لا يبدو أنهم دارون به. يسعدني أن أستيقظ لأفكر وأحسّ أن التفكير في أي شيء سعادة. كنت على سريري أجد سحراً ما في أن أسير مع أفكاري. حتى ارتجافي من فكرة القبر الأبدي كان أيضاً شيئاً لي. لم أشك في أن الآخرين يموتون لكن تفكيري في الموت يخصني وحدي. ربما حسبت هكذا أنني قد أصل إلى حل. إلى نوع من تسوية أو اتفاق. ربما حسبت أن تفكيري في الموت حوار، بل مساومة، معه، وأنني ربما حصلت على رعاية خاصة منه. كأن تقوم القيامة بعد ساعتين من وفاتي أو حينها، كأن نكون في نهايات العالم. لم يكن هذا حلاً لكن الوقت أمامي. لا زلت طفلاً وأمامي عمر، ولا بد أن هذا لن يكون بلا فائدة. كان الموت موجوداً لكن العمر لم يبدأ بعد. الموت موجود لكن ليس أمامه ما يفعله.
لا أعرف متى علمت أني أفكر، ولم يكن التفكير حتى في أمور مزعجة، شقياً أو مؤلماً. كنت أسافر وأسبح في أفكاري ولا يخطر لي أن التفكير يؤذي أو قد نتأذى من فكرة. حتى في أسوأ أفكاري كنت أتقدم ولا يمنعني الخوف. أتابع إذ لا بد من أن أتابع. كنت على ظهر نسمة لا تتوقف وتبتعد باستمرار. أفكر كأني أحلم. كنت مدمن تفكير. متعتي وخوفي يتزايدان معاً وبالقوة نفسها. لم تكن زيارة شبح ولا كابوس. كنت بسهولة عجيبة أتغلغل ولا أستطيع أن أتراجع.
لا أعرف ما الذي تأسس في هذه السياحة. لا أعرف في أي عمر كنت آنذاك. التاسعة أو العاشرة، لا يهم. ليس لهذا أي دلالة إذ لم أكن مرة في عمري ولا أعرف كيف يكون الواحد في عمره. لا أفهم أن يقال إن هذا من عمل الطفولة أو عمل الشباب. علمت، في ما بعد، أن التاسعة من الطفولة، لكني بقيت عمري أجتهد في أن ألحقها. لم أكن بالتأكيد صغيراً آنذاك، كنت أفكر بطاقة جبل. في مراهقتي وشبابي سعيت لأفكر أقل. ذكرياتي، على كل حال، بلا تواريخ. حين أجد الناس يقولون إن هذا حدث في سن ما، أعرف أنهم يقصدون أنه حدث في وقته، وأنهم عاشوا حياتهم كما هي. أما أنا فعشت غالباً خارج عمري. حتى أمراضي لا أعرف لها عمراً. جسدي يتأخر دائماً عن فهم هذه المسألة.
ابتعدت كثيراً عن حديث النوم. سبقت إلى القول إنني لا أنام تقريباً، فما أفعله كل ليلة ليس النوم تماماً. الآن لا يهمني كثيراً أن يكون نومي خالصاً. لا بأس في أن يختلط باليقظة. لا بأس في أن أنام نصف صاح، أن أستيقظ بعد كل كبوة نوم وأبدل أماكن وأوضاعاً، طوال الليل، إلى أن يحسم الصباح الأمر. لا يهم ذلك الآن. لم يعد حالي كحال ماكبث الذي يعوي أنه قتل النوم.
قتل ماكبث النوم لفرط ما قتل من بشر، ولم يعرف أنه كان يقتل راحته خلالها. عاقبته نفسه وصارحته بأنه قاتل، وأجبرته على أن يبقى نصب جريمته، منعته من أن يدخل معها إلى النوم، وأن يتخلص منها فيه. أليست هذه هي الفكرة. هذا الأرق ليس أرقي ولا أرق الآخرين. من ينامون لا تحاسبهم أنفسهم على أمر فعلوه، بل، في الغالب، على أمر لم يفعلوه، أو لم يملكوا القوة والعزم لفعله. إذا لم يريدوا إهانة مثلاً لن يناموا. إذا أسيء تقديرهم لن يغمض لهم جفن. إذا لم تسعفهم البديهة بجواب صحيح، إذا فاتهم كلام مناسب. فإنهم يقضون الليل في تذكره وإعادة تذكره، بتأليفه وإعادة تأليفه. إذا خاطبهم رئيس بعبارة توجسوا أنها تلومهم، إذ خمنوا أن كلام مرؤوسيهم يقفز فوق مقامهم. إذا تناولهم أحد تناولهم بنكتة، إذ كانوا لسبب ما، موضوع ضحكة. إذا أجازوا السخرية تتم بدون أن يصدوها. إذا انصرفت الحبيبة إلى زائر آخر. إذا طغى عليهم في حضورها جليس ثان. إذا أكلهم الانتظار ولم يطيقوا صبراً. لم يكن الأرق بسبب شيء فعلته، كان أكثر بسبب شيء لم أفعله أو لست قادراً على فعله. لو قتلت كماكبث لنمت ملء الجفنين. لو استطعت أن أجد الإمعان أو أجد الجواب أو أزيح منافسي، بأي طريقة كانت، لنمت فوراً. لا بد أن ما يؤرق ماكبث ليس سوى خوفه من أن لا يستطيع قتل كل المتآمرين، أو عجزه عن أن يعرف كل من يتآمرون.

([) مقتطع، غير منشور، من كتاب للزميل عباس بيضون بعنوان «مرآة فرانكشتاين» يصدر قريباً عن «دار الساقي»، تليه مقاطع أخرى في هذه الزاوية، ننشرها تباعاً، إلى أن يتعافى شاعرنا وكاتبنا، ويمسك قلماً وورقة.

*****

طلال سلمان

عباس بيضون نهر الإبداع الباحث عن مصب
بين عباس بيضون وبيني ذلك الود العميق الذي يربط بين مختلفين.
فأنا، بداية، أحبه كإنسان رقيق، عنيد، متدفق موهبة، مشاكس حتى التصادم إذا ما اقتضى الأمر، مبدع، مجدد، صريح في رأيه حتى القسوة دون تخوّف من الإحراج، ودود ولكنه لا ينافق ولا يقبل النفاق من غيره.
إنه هو عباس بيضون. لقد تعب مع زمانه حتى بنى نفسه بنفسه، كتاباً كتاباً، في الدين كما في التراث، في الثقافة كما في السياسة، في الأدب شعراً ونثراً، في حياته الاستثنائية التي تحس في لحظات أنه قد أقام بناءها بيديه، باندفاعاتها وتدرجاتها، بالرغبة والمزاج الخاص كما بالانتقاء الذي يملك التبرير المقنع لخياراته فيه.
قرأ كثيراً كثيراً وهو ابن البيئة الثقافية العاملية حيث تقرر مجرى الحياة الأمهات قبل الآباء، ومجالس النجفيين قبل المدارس، ومناخ التحدي الذي فرضته الهزيمة في فلسطين بكل ارتداداتها على الوطن العربي عموماً، وعلى لبنان مجتمعاً وإن كان لجنوبه حصة إضافية لها نكهتها الخاصة حيث تختلط المرارة بالتصميم، وحيث تعنف روح الثورة على الواقع المهين، بالموروث العاقر فيه وإرادة التغيير ولو بالسلاح إلى جانب الفكر الذي يملك مفاتيح باب المستقبل.
لقد أمضى عمره الأول يقرأ، وأمضى عمره الثاني يقرأ، وأمضى عمره الثالث يقرأ، ومع أنه كان يكتب على هامش قراءاته، إلا أنه كان دائماً يسعى لأن يمتلك لغته الخاصة، أسلوبه الخاص، منهجه الخاص.
سافر في التراث إلى ما خلف الجاهلية، وأقام زمناً في القرآن والحديث وكتب التفسير ومناقشات العامليين الذين عادوا من النجف بعدما علموها الشعر والجدل الفكري انتفاعاً بباب الاجتهاد المفتوح. ثم اندفع مع حركة التجديد والتجدد حتى صار منها وفيها.
وكما الغاوون فقد اتبع الشعراء. جلس بينهم يتعلم. ووقف بينهم يجادل. أطلق شعره نهراً. هزوا رؤوسهم إعجاباً، وعندما أرادوا أن يمتحنوه صفق الباب خلفه ومضى يبني نفسه مجدداً وقد أخذ عنهم أكثر مما أخذ منهم، ثم عكف على نحت لغته الخاصة.
ومنذ أن جاء إلى «السفير» كاتباً ـ شاعراً ـ ناقداً وصاحب رأي أثار عواصف كثيرة وهو يكتب قناعاته التي كثيراً ما كانت تتعارض بل تتصادم مع قناعات زملائه و«المسؤولين» عن صفحات الثقافة التي كان يريدها مفتوحة على الاختلاف، لا تحبس نفسها في نمطية معينة، ولا تمنع عنها من تعتبره خارجاً على خطها.
ولأنه عنيد، ومتميز، وصاحب موهبة فقد استحق موقعه كمدير للتحرير ـ مسؤول عن الثقافة في «السفير»، وبخاصة الملحق الثقافي الذي رعاه بنور عينيه.
ولأن لكل منا رأيه وقناعاته واجتهاداته السياسية فقد كنا نختلف كثيراً، ولا نكاد نتلاقى إلا على البديهيات. وكنت أستمتع (ولعله هو أيضاً كان يستمتع) بالجدل وبتدفق عباس بشروحاته وبيناته الدالة على صحة موقفه. وأظنه كان يستمتع باستعراض حججه التي يراها منطقية قبل أن ينصرف وقد امتلأت الأرض بجثث «ناقصي الموهبة» أو «سارقي إبداعات غيرهم» أو «خطباء المناسبات بالسجع السياسي».
كنت أخرج من معظم المواجهات مهزوماً.. فهو موسوعي المعرفة، متعمق في التراث العربي، شعراً ونثراً وتفسيراً وسيرة، ومتابع لينابيع الثقافة الغربية وحركة تحولاتها التي تجاوزت الكلاسيكيات وأبدعت جديداً لم يقطع مع الموروث تماماً ولكنه لم يصنمه ولم يقف عنده تائهاً، وإن كان قد تخطاه مفيداً من حركة التطور الإنساني وتدفقاتها العلمية الهائلة التي غيّرت الكون فصغّرت العالم وربطت بين أنحائه فارضة عليه لغتها الجديدة ومفاهيمها الثورية التي يلهث أبناء العالم القديم خلفها محاولين استدراك ما فاتهم، ولو بكلفة عالية قد تدفعهم أحياناً إلى التنكر لحقائق تكوينهم.
في غيابه المؤقت الآن والذي أرجو ألا يطول اكتشفت كم أحب هذا الصعلوك الملكي في مواقفه، وكم أقدّر هذا النهر من الثقافة الذي يتدفق غزيراً، لا توقفه «عصمة» الموروث، ولا تحد من اندفاعاته مجاملات الأصدقاء والزملاء كتاباً وشعراء وروائيين. لقد اختار خطه وانتهى الأمر.
من باب «الاستغابة» التي لن يعاتبني عليها بعد خروجه من المستشفى سليماً معافى، بإذن الله، يمكنني هنا أن أكشف واحداً من أسرار عباس بيضون الذي صمد رأسه أمام الصدمة لكثافة ما يحويه من ضروب الثقافة ومن دواوين شعر لا تنتظر غير إملائها.
السر يتلخص في واقعة يعرف القراء ظاهرها فقط، أي أن «السفير» قد نشرت حتى تاريخه نحو مئة وخمسة وعشرين كتاباً، في سلسلة «كتاب للجميع»، وهي الهدية التي توزعها «السفير» بالاشتراك مع «دار المدى»، ومعها وبعض الصحف العربية الأخرى في الأسبوع الثاني من كل شهر.
أما ما لا يعرفه القراء فهو أن عباس بيضون قد كتب المقدمات التعريفية بالكتب والكتاب جميعاً، من ذاكرته ذات التلافيف التي تحوي مكتبات كاملة، فيها بعض كلاسيكيات التراث (العربي والأجنبي)، كما فيها رفوف عديدة لإبداعات كتاب غادرونا قبل عقود قليلة.
أظن أن عباس بيضون النائم الآن في العناية الفائقة، حاضراً غائباً، يعي بعض من وما حوله ويستغرب استمراره نائماً ولا قلم في يمناه يسرح به على الورق بسطور غير منتظمة وبخط لا يقرأه إلا الراسخون في علم اللغة البيضونية، سيخرج من «الصدمة» بملحمة قد يقطعها مجموعة من الدواوين (مسايرة للعصر.. وتسهيلاً للترجمة!).
وأظن أن أول ما سوف يفعله حين يعود إلى مكتبه معافى أنه سيبدع فناً جديداً تحت عنوان الإبحار شعراً في قلب الغياب.
نفتقد حضورك المشاغب، يا عباس، وننتظر عودتك إلى قرائك وإلى زملائك وأساساً إلى المختلفين معك، وهم أكثر من افتقدك.
... ولسوف أقتحم دواوينك المرصوفة على رفوف مكتبتي والتي خفت أن تغويني فتخرجني من «الكلاسيكية» وعليها، فأقرأها لأتأكد من أن ما قلته فيك أقل مما تستحق... حتى لو لم أفهم تماماً ما أردت أن تقوله شعراً بعدما أعياك قوله نثراً.

****

معطف عبّاس بيضون

ننشر تباعاً نصوصاً ورسائل من أصدقاء عباس بيضون وزملائه ومحبّيه حول العالم

نجوان درويش

عباس بيضونلا أُصدّقُ أَنّ عبَّاس بيضون عبَر هذا الشارع بمِعْطفه الطويل
ورشَقَ مطراً على شجرِ الرصيف
وأَنّ هواءً حاراً كان يصعَدُ من رئتيه الضاحكتين.
أَخبرتني صاحبتي حكاية المعطف النسائي الذي خرج به عبّاس من المطعم بدل معطفه الذي ما زال مُعلّقاً هناك.
وضحكَتْ حتى سالت دموع الأَلم من المعطف.
قلتُ لها أَن لا تصدّق العلامات التي تُنصَبُ كالفخاخ لتضليل السائحين.
قلتُ لها أَن لا تصدق أَن عبّاس بيضون قد مَرَّ بصلعته اللامعة تحت الأَشجار في يوم ماطر
وأَنه كان يحمل قوساً ويرمي سهامه مثل كيوبيد طالع من ذاكرة الحرب.
لكنها ما زالت تضحك تحتي وفوقي وعن يميني وعن شمالي
ومِنْ شِدّة ما ضحكَتْ وجدتُ نفسي في طائرة تغادر ألمانيا
وأَنا أفكّر فيها، بأَلم مَنْ قطعوا رأسه بالسيف وهو يضحك...

***

ليت عبّاس بيضون منحنا شيئاً من هواء رئتيه!
كتب زميلنا الشاعر المقدسي، في ربيع 2006، هذه القصيدة من وحي لقائه الشخصي الأول بعباس بيضون، ولم تنشر حتى اليوم. وقد اختار أن يخرجها من بين أوراقه، تحيّة إلى عبّاس بيضون القابع في إحدى غرف مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، على أثر حادث سير مروّع، ليلة 20 تموز (يوليو) الماضي، بات بوسعنا القول إنّه نجا منه بأعجوبة. والشاعر الذي عاده واتصل مستفسراً عن أحواله عدد كبير من المبدعين والمثقفين والإعلاميّين والسياسيين العرب، تشهد حالته تحسّناً ملموساً منذ أوّل من أمس. فقد صحا صاحب «نقد الألم» الذي أُجريت له سلسلة عمليّات لمعالجة كسور القدمين، وتكلّم وطلب الطعام. وفي انتظار أن يستردّ عافيته تماماً، تنشر صفحات «ثقافة وناس» تباعاً نصوصاً ورسائل ومقالات موجّهة إليه من أصدقاء وزملاء ومحبّين حول العالم.

الأخبار
٣ آب ٢٠١٠

***

عن عباس بيضون

لقمان ديركي
(سوريا)

قرأتُ خبر تعرض الشاعر اللبناني عباس بيضون لحادث سير أودى به إلى غرفة العناية المشددة في الجرائد اللبنانية، وقرأت العديد من المقالات عنه كُتبت في الجرائد اللبنانية وبعض الجرائد العربية، ولكن ما يثلج القلب أنني قرأتُ بين طياتها أنه بخير وقد تجاوز مراحل الخطر، وعباس بيضون يرتبط بعلاقات ماكنة مع العديد من المبدعين والمثقفين السوريين، وله الكثير من الأصدقاء وبالأخص الشاعر السوري منذر مصري، وبالطبع فإن الشعر ليس السبب الوحيد في ذلك، فعباس نادراً ما يلوِّح بقصائده في الجلسات، إنه من المنظِّرين الأقوياء في تجربة الشعر الحديث العربي، وله في ذلك مقالات مميزة في جريدة السفير التي يترأس ملحقها الثقافي تبع يوم الجمعة، وفي هذا الملحق نجد ملاذنا عندما نريد نشر قصيدة أو رأي ثقافي، فهي مميزة، وفي صحيفة مقروءة في سوريا، وقد ساعد هذا الملحق على ازدياد معرفة عباس بالجديد الثقافي الإبداعي السوري، فنشر لشعراء سوريين شباب منهم من ينشر لأول مرة بفضل ملحق السفير الثقافي، كما أن السجالات الثقافية السورية الأشد قوة قامت على صفحاته، وللكل حرية الحديث، لم يتحيز عباس لهذا أو لذاك، رغم تشكل رأي لديه، فالطابع الحرفي الذي يقود به ملحقه صارم للغاية، عداك عن كونه شاعراً سرقت منه الصحافة نرجسيته، وجعلته مهتماً بأشعار الآخرين، فالشاعر الذي هو عليه له عالمه الخاص، له كلماته الخاصة، له في الألم والأمل، وله في الغموض وسحر الكلمات، وله في الوضوح القليل، له تلك القصيدة التي يحبها ثوريو الثمانينات والتي غناها مارسيل خليفة: ( يا علي.. نحن أهل الجنوب..حفاة المدنِ نروي سيرتك )، وله في مأساة الإنسان، وله التواضع في سمة جديدة من سمات الشعراء، فالشاعر تغيرت وظيفته، لم يعد ذلك الهدير مرغوباً الآن، ولم يعد الشاعر داعية أو بوقاً إعلامياً أو بطلاً شعبياً، صار ذلك الذي يبحث عن أدق التفاصيل البشرية التراجيدية منها والكوميدية ويلتمس لها جملة بليغة من قلبه ومن رأسه بنفس الآنً، كان عباس بيضون هو أكثر شاعر يكره التماع القصيدة ولمعانها، دائماً ما يغبِّر إلتماعة هنا وبريقاً هناك في قصائده، ينحو شعره نحو الظلام، بس هو مو ظلامي لا تخافوا، لكنه رجل له العتمة، له الظلال، له فيها رؤياه، وله صفحته البيضاء التي يدون عليها ما يشاء .

بلدنا السورية

****

تعرض الشاعر عباس بيضون لحادث ببيروت

تعرض الشاعر والكاتب اللبنانى عباس بيضون لحادث مروع مساء أمس الثلاثاء، أثناء سيره بأحد شوارع منطقة الرينغ فى بيروت نقل على إثره لمستشفى الجامعة الأمريكية هناك، وأوضح بعض أصدقاء بيضون أنه فى حالة حرجة.

وعباس بيضون شاعر ولد عام 1945 فى قرية شحور، قضاء صور، جنوب لبنان، تتلمذ على يد والده الكاتب محمد زكى بيضون فى مدرسة القرية التى يديرها، ثم انتقل إلى المدرسة الجعفرية فى صور لاستكمال المرحلة التكميلية حيث لاقى صعوبة فى تعلم اللغة الفرنسية، قبل أن ينتقل إلى مدرسة سيدة مشموشة الداخلية من غير أن يحلَّ عقدة لسانه مع الفرنسية، وبعد سنة واحدة غادر هذه المدرسة إلى مصر ونال التوجيهية وسافر إلى باريس وحصل على دبلوم فى الأدب العربى.

مارس عباس بيضون العمل الحزبى مبكرًا وانتسب فى السن الثالثة عشرة إلى حزب البعث العربى الاشتراكى (1958)، وبعد عام ترك البعث وتقرّب من الحزب الشيوعى اللبنانى بدافع من زملائه فى مدرسة سيدة مشموشة.

وانخرط فى حركة القوميين العرب ثم فى منظمة الاشتراكيين اللبنانيين أواخر الستينات، والتى تحولت إلى منظمة العمل الشيوعى، وكان أحد مؤسسى هذه المنظمة بداية السبعينيات.

واعتقل من قبل الدولة اللبنانية (1968-1969) ثم من قبل إسرائيل فى الثمانينيات، وكتب عن تجربة اعتقاله شعرياً.

وفى بداية الحرب الأهلية عام 1975، انتمى إلى الحزب الشيوعى اللبنانى لكنه غادره بعد سنتين، وهكذا تبين له أن عمله السياسى والحزبى لم يكن أكثر من سعى إلى حيازة عائلة كبيرة وبحث عن انتماء مفتقد، كما عمل مدرسًا فى عدد من المدارس قبل أن يتفرّغ للعمل الصحفى.

مارس الكتابة الصحفية فى جريدة "الحرية" ثم "السفير" ثم "الشاهد" القبرصية، و"الشروق" و"الخليج" و"الاتحاد" الإماراتية، "الحياة" اللندنية، "ملحق النهار الأدبى"، ليستقر مدير تحرير مسئولاً عن القسم الثقافى فى جريدة "السفير" منذ عام 1997 إلى اليوم.

كما صدر له عام 1983 مجموعته الشعرية الأولى "الوقت بجرعات كبيرة" عن دار الفارابى و"نقد الألم" عام 1987 و"خلاء هذا القدح" عام 1990 و"حجرات" 1992 و"أشقاء ندمنا" 1993 و"لفظ فى البرد" عام 2000، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية بعنوان "أبواب بيروت" عن دار "أكت سود" فى باريس العام الماضى.

***

تأجيل الجسد

اسكندر حبش
(لبنان)

غالبا ما كنّا نمزح مع عباس بيضون، عبر استعادتنا جملة شهيرة له تقول «كان من الممكن تفاديها». في أيّ شيء يمرّ بنا، ولا يعجبنا أو لا نتوافق عليه، كنّا نستعيد هذه الكلمات القليلة، التي قالها عباس يوما لمهدي عامل في نهاية سبعينيات القرن المنصرم. تفيد «الخبرية» بأنه من المعروف عن مهدي عامل – وبعيدا عن كتبه النظرية والفكرية – أنه كان يحب كتابة الشعر (حيث أصدر عددا من المجموعات باسمه الحقيقي «حسن حمدان»). ذات مرة، أصرّ مهدي على قراءة قصيدة جديدة له، في لقاء في أحد البيوت ضم العديد من مثقفي البلد وكتّابه. الجميع أثنوا على القصيدة – (ربما خجلا) كما يروي عباس الحكاية – وحين طلب مهدي من عباس رأيه، أجابه زميلنا «كان من الممكن تفاديها».

لا أعرف إن كنت أرغب في استعادة هذه الجملة لأقول لك عن الحادث «كان من الممكن تفاديه». إذ لا أعرف إن كنت تفكر في قصيدة أو في رأي ما أو حتى كنت تكتب مقالتك في رأسك وأنت تقطع الطريق، قبل أن تصدمك السيارة لتؤول الأمور إلى ما آلت اليه من ألم وتعب ووجع، نتمنى أن تزول بأسرع وقت ممكن.

ومع ذلك، «كان من الممكن تفاديه»، تماما مثلما كان من الممكن تفادي هذا الكلام هنا، الذي يجبرنا أن نستعيد بعضا منك، بينما كان من المفروض أن تكتب أنت اليوم «إشكالك»، أي أن تكتب هذه الزاوية التي ثبتّها يوميا منذ أن جئت إلى هذه الصفحة، والتي كنت تريدها مساحة حقيقية للنقاش والجدل والرأي الثقافي، لا أن تستعيد مجرد عواطف وأحاسيس، أي كنت تريدها رأيا ثقافيا وقبل أي شيء، حتى وإن كنّا نختلف في وجهات النظر، حول العديد من الأشياء.

اعترف حقا، بأني لا أعرف ماذا أستعيد من هذه السنين الطويلة التي مرّت بكلّ ما حملته من صداقات ونقاشات وحتى مشاحنات، أجد اليوم أنها لم تكن لتستحق أن تأخذ منّا الوقت وأن تجعلنا نعاتب أحيانا بعضنا البعض. فأمام هذا الألم الذي يصيبنا يسقط بالتأكيد كل شيء، ربما لأن العاطفة أصدق من جميع هذه الثقافات التي كنا نريدها.

أتذكر يا صديقي. أول «إشكال» كتبته أنا، لم أكن أجد له عنوانا، فاقترحت عليّ عنوان «تأجيل الجسد»، وكان حول كتاب فرانسواز جيلو عن بيكاسو، حيث ربطته بـ«الاسم العربي الجريح» للخطيبي.

هل هو قدر ما، حين أرى اليوم، هذا الجسد الجريح، المؤجل، الممدد فـوق سرير المستشفى؟ لا بأس، المهم أن كلمتك لم تُجرح، إذ إننا ننتــظر أن تعود لتخـبرنا، على الأقل عن هذه الرحلة المفاجئة، إذ بالتأكيد سيكون عندك الكثير لتخبرنا به.

السفير
2 اغسطس 2010

***

سعيد ... وعبّاس

عبده وازن
(لبنان)

كان عباس بيضون يقرأ مقاطع من قصيدته «صور» أمام سعيد عقل في لقاء يتيم جمعهما مع بضعة أصدقاء، ولمّا ورد وصفه لمدينة صور بـ «خان المسافرين»، انتفض شاعر «قدموس» مستنكراً وقال: «يا عباس، أتقول إن صور كانت خاناً للمسافرين؟». وراح يعاتبه آخذاً عليه جهله بتاريخ هذه المدينة الفينيقية وبعظمتها. ثم شرع في ترداد «شعاراته» الفينيقية التي تحصر فينيقيا داخل حدود لبنان وحده وكأن وطن «اللبن والعسل» هو المهيّأ لوراثة فينيقيا، أما فلسطين وسورية فلا. لكن عباس بيضون والأصدقاء ضحكوا ولم يزعجهم عتب سعيد عقل وحماسته...

تذكّرت هذه «الحادثة» عندما أُدخل سعيد عقل وعباس بيضون المستشفى قبل أيام، الأول إثر وعكة ألمّت به وكادت توقعه في الغيبوبة، والثاني عقب صدم سيارة له ليلاً بينما كان يمشي كعادته، على أحد طرق بيروت الخطرة. لم يعلم سعيد ولا عباس أنهما أدخلا المستشفى في آن واحد، مع أنها قد تكون مصادفة تدل الى هذا القدر الذي جمع - بل فصل - بينهما. فالشاعر الذي اجتاز المئة - أمدّه الله بالمزيد - خرج من المستشفى معافى على رغم شيخوخته، أما الشاعر الستيني، الذي ما برح يصنف في خانة الشعراء الشباب، فلا يزال ممدّداً أو متكوّماً على السرير الأبيض، والأمل أن يخرج قريباً. وعندما اتصلت لأطمئن على صحة سعيد عقل، أجابتني مرافقته ماري روز قائلة: «صحته كالحديد». وأشارت إليّ: «إسمعه يلقي شعراً». وسمعت صدى صوته الأجشّ. وماري روز هي بمثابة رفيقة الشاعر وأمه وأخته وابنته، وقفت حياتها على خدمته، شخصاً وشاعراً و«فيلسوفاً» كما تصرّ، ولم تفارقه يوماً، لا نهاراً ولا ليلاً. وكانت دوماً الى جانبه في ندواته ولقاءاته السابقة.

عباس بيضون يحيط به أصدقاؤه، وابنته الشابة بانة هي التي تتولّى طمأنة المتصلين وما أكثرهم. إبنه زكي، الشاعر أيضاً، ما زال في باريس. لم يستيقظ عباس تماماً من غيبوبته التي شاء الأطباء أن يبقى فيها لئلا يتألم، ويضيق ذرعاً بآلام لا تحتمل. يستيقظ قليلاً كما أخبرت ابنته ثم يغفو. الصدمة أصابته بجروح وكسور، في أنحاء عدّة من جسمه الضعيف، واخترقت الطحال والكبد والمعدة... ولا أدري كيف تحمل جسم عباس مثل هذه الصدمة. أتخيله طار في الهواء ثم سقط. هذا الجسم الذي يكاد يكون ظلاً لجسم وربما روحاً من لحم ودم. أخفّ من ريشة وأخفّ من قصيدة، مهما أثقلتها التفاصيل والأشياء.
عباس بيضون الآن رجل من آلام وجروح وكسور، رجل يلتمّ على نفسه، غائباً ولكن في حال «الأرق الموصول» الذي «لا ضرورة للمصابيح» فيه، كما كتب مرّة في «نقد الألم». ولا أتخيل هذا الشاعر نائماً. هذا الشاعر المجبول بالأرق لا يمكنه أن يستسلم لمثل هذا النوم، لعله يتظاهر به ليتحاشى الألم الذي كثيراً ما خبره، بالروح والجسد، بالقلب والتجربة.

كتب عباس مرّة قصيدة عن جرحه الذي في الصدر وكيف أمكنه أن يغوي به امرأة. هذا الأثر تركته جراحة القلب المفتوح التي أجريت له قبل عشرة أعوام. الآن أو منذ الآن، سيحار عباس عن أي جرح سيكتب قصيدة، وبأي جرح سيغوي امرأة: جرح الخاصرة أم جراح الرجلين أم الرأس أم الظهر؟ جروح كأنها جرح واحد جعل من جسد الشاعر مشرحة قدرية لا تظهر فيها المباضع اللامعة.

مات والد عباس على الطريق بعدما صدمته سيّارة. عباس نجا بأعجوبة، لكنه سيحتاج وقتاً كي يستعيد جسمه. المهم أنه نجا. كان موت والده كابوساً نادراً ما فارقه: ماذا يعني أن تصدم سيارة رجلاً يمشي وتقتله للحين؟ عباس مشّاء بامتياز، أصبح مشاء بعد جراحة القلب، يمشي في الليل كما في النهار، في شارع الحمراء كما على الكورنيش. لكنه في تلك الليلة اختار أن يمشي في محاذاة الأوتوستراد، ثم اجتازه، ثم صدمته السيارة، ثم... لا أحد يدري لماذا اختار تلك الطريق الخطرة جداً، في تلك الليلة. ألم يكن يعلم أن خطر مثل هذه الطريق يختلف عن الخطر الذي يواجهه في القصيدة؟

يرقد الآن عباس بيضون على السرير الأبيض، بين الآلات المخيفة، الأطباء يراقبونه، يجرون له جراحة تلو أخرى. الآن يتألم عباس بالسرّ، لا يفصح عما يكابد أو يقاسي، عيناه مغمضتان لكنني أظن أنه يبصر كل شيء من حوله، أظن أنه يسمع ما يرتفع من همسات قربه. إنه يعرف جيداً أنه انتصر على الموت، بالقليل من القوّة التي يملكها، وبالكثير من الأمل الذي عرف كيف يشفيه من «مرضه».
يتألم عباس بيضون الآن، كرجل يتألم، كامرأة، ولا عجب، ألم يقل مرة: «هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي، أن تغطس على النجوم/ وحبال القنب والأسماك/ أن تجر الفتات والدموع كحبات قمح...».
المهم الآن أن ينهض جسد عباس بيضون من كبوته ولا خشية أن يعدّ جروحه على أصابع اليدين.
ابتسامة صغيرة يا عباس تكفي! هوذا سعيد عقل عاد الى أوراقه البيضاء. وأنت ستعود حتماً، ولكن لا تتأخر.

الحياة
الإثنين, 26 يوليو 2010

*****

عباس بيضون، انهض البحر في انتظارك

زاهر الغافري
(عمان)

الحادث الذي تعرض له الشاعر عباس بيضون ونجا منه بمعجزة مؤلم ومقلق. أووه... هذا كثير لم نعد نحتمل قلتُ في سري. ها هي مركبة تافهة تصدم شاعراً يعشق المشي في شوارع ليل بيروت، ربما كان القدر بجانب عباس هذه المرة، القدر الذي سيرتفع ليصبح في مرتبة الملاك الحارس. الغريب أن في ليلة الحادث هاتفته من مسقط، لم يجب أحد فاعتقدت أنه مسافر ربما. لم أعلم بالحادث إلا في صباح اليوم التالي عبر الصحافة ووسائل الإعلام، هاتفته في تلك الليلة لأخبره أنني أرسلت إليه العدد الأول من مجلة 'البرواز' المعنية بالفنون البصرية، وكنت قد حدثته في لقاءاتنا في بيروت وفي أول زيارة له لمسقط عن مشروع المجلة، وكان متحمساً ووعدني بالمساهمة فيها، على أي حال اتصلت به بعد الحادث لأطمئن عليه، رد أحد أفراد أسرته بأنه في غرفة العناية الفائقة، وأن حالته مستقرة رغم إصابته بكسور ورضوض في أنحاء مختلفة من جسمه، يا إلهي يا عباس لم حدث ذلك! كيف سنقرأ زاويتك الأثيرة 'إشكال' في السفير، مقالاتك الإشكالية أيضاً في الملحق الثقافي ليوم الجمعة، غير أنك ستقوم بالتأكيد، ستنهض من السقطة ومن هذه المصادفة العجيبة والمؤلمة، الأمل يقول لي ذلك، المحبة تنبئني بأنك تسمع الآن هذا الكلام القادم من أصداء جبال مسقط، تسمع وتبتسم، الشعر أيضاً يقول لك انهض فهو يعترف بأنه يحتاج إلى قوة دفع إضافية فلا تخذله. كل شيء يقول إن جسدك سيحملك مجدداً إلى جولاتك الأثيرة في الشوارع وفي المقاهي ومقر الصحيفة التي تعمل فيها. أذكر أن لقاءنا الأخير كان في بيروت في الـ'بلو نوت' مع أصدقاء آخرين، ولا أذكر السبب الذي حملنا لنتحدث عن عبثية الحياة وعن الوجودية، عن نيتشة وهيدجر وفكرة تخلي الآلهة عن الإنسان المقذوف في هذا الكون، لكننا لا نحتاج إلى الحديث عن هذا الآن، بل لا نحتاج إلى تذكر ما قيل في تلك الليلة، إننا ببساطة نحتاج إلى الإيمان بقلب دافئ بأنك ستغادر قتامة السرير والمستشفى، ستغادر حياة اللون الأبيض ليستقبلك أحباؤك وأصدقاؤك والشوارع التي تحبها بمهرجان من الألوان، انه موسم الصيف على أي حال، نحتاج إلى صلابة الرجاء، الرجاء الذي يُخيف العتمة ويقرب اللؤلؤ إلى الضوء والأحلام. يكفي أنك خبرت الألم وتمرنت عليه هذا بالفعل يكفي.
- عباس بيضون، الرجاء قف على قدميك البحر في انتظارك.

الجريدة
4 اغسطس 2010

***

ترفق بقلوبنا أيها المثال المعرفي الآسر

فتحي أبو النصر
(اليمن)

ترفق بقلوبنا يا عباس بيضون ... كن بخيرٍ رغماً عن المكيدة المباغتة ... سوف لا نحتمل هذا الفراق الفاجع!

***

ارتبط اسمه برعاية الجدل والانتماء للإرادة الثقافية الصعبة، كما عرّى التابوهات بإحساسه الرفيع في التجاوز، وبات من الاستثناءات القليلة المشهودة في المشهد الفكري والشعري العربي المعاصر: فلا أحد مثله - إلا نادراً- يتذوق الجديد كحداثي متألق لا تشوبه التأزمات؛ فيما طاقته الكتابية تسلب الإعجاب بحرفنته المهنية العالية ذات الوعي الرزين والحر فنياً وسياسياً وجمالياً وشعرياً. عباس بيضون المؤهل دائماً للضوء كمقاتل حلمي فريد من أجل سلامة الحلم، وكمخلوق واضح الأبعاد يدافع عن خياراته الفكرية بشفافية أنقى: هو عباس بيضون المنتمي للجوهر، والمعتز بعصاميته، وصاحب الخيارات الباسلة التي تنحاز للمدنية وللدمقرطة دونما استرخاء أو تذبذب.

الوطني اللبناني الإنسانوي العربي العالمي بكل حيوية وموضوعية ثقافوية، ينقب عن الحب أينما وجد وعن القصيدة أينما حلّت، وهو جزء أصيل من تكويننا الذهني: رجلٌ حقيقي المكابدة؛ وسادن شغفٍ أصيل، انعتق من الأيدلوجيات في عزّ تجليها وأجرى مراجعة ذاتية شجاعة لكل اليقينيات، ولطالما أشاع الأمل في الأرواح اليائسة، كما تحوي مراجعاته النقدية الثاقبة سلطة أخلاقية تندر.

***

لنصلي من أجل استمرار شهيته المفتوحة على إتقان المعنى الخصوصي جداً في الأفكار والرؤى. . . لنصلي من أجله كقيمة سليمة الحس وكمثقف وشاعر بجماليات وافرة وبلا ذرائع أو تحرزات. . . لنصلي من أجل عباس بيضون: ذلك المثال المعرفي الآسر.

02 أغسطس 2010

****

إلى عبّاس بيضون

بقلم: رامي الأمين

يصعب عليَّ الذهاب إلى المستشفى، والوقوف هناك، إلى جانب الأصدقاء، حول السرير الذي ينام فيه عباس بيضون مضرّجاً بألمه بعدما دهسه الشعر مسرعاً على الطريق.
لا، لم تكن سيارة تلك التي صدمت عباس بينما كان يقفز من جهة إلى أخرى من جسر "الرينغ".
لم يكن شيئاً أو أحداً أطاح الشاعر وحطّم جسده الذي "كشجرة تشبه حطّاباً".
ربما كان "الوقت بجرعات كبيرة"، أو أنها القصيدة التي كتبها عن انتحار ابن اخته زاد.

لا يهمّ، لكنني لن أصدّق أن سيارة دهسته، مع أنه صرّح غير مرة، وآخرها في لقاء مع جوزف عيساوي في برنامجه، بأنه يرى نهايته في حادث سير، تماماً كما انتهى الأمر بوالده.
هو ليس حادث سير ما حصل مع عباس، الذي بقي طويلاً حتى استطاع حسم هويته، وقبل بلقب "الشاعر"، ترضية عن لقب "المفكر" الذي كان يطمح إليه.
كيف للمفكّر أن ينتبه إلى القصيدة المسرعة في الطريق؟
كيف له أن يفطن إلى "حمار الفنون" كما يسمّيه، وهو الممتطي جواد الفكرة التي لا تتوقف عن القفز فوق الحواجز؟
اقول، ربما السبب في حذائه. ربما لم يذهب منذ مدة إلى "كلارك" في الحمراء ليغيّر الحذاء الذي أنهك قدميه المشّاءتين.

أتذكر حينما رافقت عباس لشراء حذاء من الحمراء، بعدما مشينا من بيته في الصنائع إلى الشارع الذي كان يركض فيه غير آبه باحتمالات التحطّم، متأبطاً كتاباً أو جريدة، باحثاً في الواجهات عن انعكاسه الذي يبقى طويلاً، حتى حينما يمضي إلى واجهات أخرى.
من البيت إلى الحمراء، حديثنا عن زكي الذي سافر للتوّ إلى فرنسا، حتى وصلنا إلى واجهة "كلارك"، حين راح عباس يبحث عن حذاء جديد، الى أن أعجبه واحد، فجرّبه على قدميه ثم اشتراه. حين سأله الموظّف في المتجر ما إذا كان يرغب بأخذ الحذاء القديم معه، أم أنه يبقيه كي يهبه إلى أحد الفقراء، أجاب عباس: "آخذه معي، لا أريد للفقير أن تؤلمه قدماه".
ربما كان الألم لا يزال في قدمَي عباس. ربما الحذاء الجديد صار قديماً، وفي حاجة إلى تغيير.
قم يا عباس من السرير لنذهب إلى "كلارك".
قم نشتر حذاءً جديداً للجري السريع في المدينة البطيئة.
خذني معك إلى فكرة جديدة، امسك يدي ولتعبر بي من ضفة إلى أخرى، ولن أخاف، معك، أن تصدمنا القصيدة.

"النهار" اللّبنانيّة
25 - 7 - 2010

***

استمرت خمسة أيام.. عباس بيضون يسترد وعيه بعد غيبوبة
الشاعر اللبنانى عباس بيضون قد استرد وعيه بعد غيبوبة استمرت لخمسة أيام

كتب بلال رمضان

علم اليوم السابع أن الشاعر اللبنانى عباس بيضون قد استرد وعيه مساء أمس الأول بعد غيبوبة طويلة استمرت لخمسة أيام منذ مساء الأربعاء الماضى دخل على إثرها غرفة الإنعاش بمستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت والتى يرقد فيه منذ إصابته فى حادث مرورى مروّع.

وكان الشاعر عباس بيضون، قد أصيب بكسر فى الرقبة والساقين ومنطقة الحوض بعدما تعرض لحادث مساء الثلاثاء الماضى الموافق 20 من شهر يوليه الماضى، أثناء سيره بأحد شوارع منطقة الرينغ فى بيروت.

وأجرى بيضون يومى السبت والأحد الماضين عملية جراحية بساقيه المكسورتين (ترميم عظام) بعد أن أجرى عدة عمليات جراحية منذ أن تم نقله إلى المستشفى، حيث قام الطبيب باستئصال الطحال وجزء من الكبد.

وتعرف عباس بيضون خلال إحدى إفاقته على ابنته، إلا أنه يرقد الآن فى غيبوبة متقطعة نتيجة للعقاقير والمسكنات التى يتناولها نتيجة الجراحات التى أجراها.

كما تبرع عدد كبير من أصدقائه بدمائهم له فور سماعهم بالحادث وعلمهم بحاجته لكميات كبيرة من الدم من فصيلة (o+).

ويتوافد العديد من الأدباء والمثقفين والإعلاميين لزيارته فى المستشفى للاطمئنان على صحة بيضون رغم منع الأطباء للزيارة.

اليوم السابع 3 اغسطس 2010

*****

الصحفي عباس بيضون بحاجة للدم فئة O+

مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت بحاجة ماسة لدم من فئة O+ لاجراء عملية للصحافي عباس بيضون الذي يخضع في هذه الاثناء لعملية جراحية حرجة نتيجة صدمه بسيارة مساء امس

****

عباس بيضون في غيبوبته

فاطمة المحسن

فاطمة المحسنعندما يفيق عباس بيضون من غيبوبة الألم، سيطلق نكتة من تلك التي تسري على لسانه كما البداهة. سيصف نفسه عندما طار على الأوتستراد ليلاً وحط في المستشفى. سيكتب كتابا، مجلدا، الياذة من تلك التي يكرج فيها قلمه دون تعب وكد. لو أراد عباس وصف الهواء وهو يعبر على قميصه، لتفتقت أفكاره كطيور حبيسة تنتظر الانطلاق .
هاتفني هاشم شفيق عن الحادث، فحضرت بيروت، توقف الهواء لحظات في رئتها،،ارتجت صورتها أمامي، وتبعثرت صباحاتها. منذ زمن طويل لم التق عباس، ولكنني كنت أراه دائما في هذا المطرح من مدينته، هو حاضر فيها مثل شوارعها وبحرها. مثقف المدينة التي تكتمل ملامحها به، وتستوي ثقافتها بوجوده، بديناميته التي تذكرنا بما قاله سارتر عن فضول المثقفين، فهم يتدخلون في كل القضايا حتى تلك التي لا تعنيهم. والحق أن عباس الذي يهزأ من كل التزام في حياة الكاتب والفنان، كان مرهفاً في التقاط ذبذبات المشاعر التي تعبر هواء الناس، حساسية العدالة التي ما كف يوماً عن تلمسها في صوته المميز، شجاعة الإبداع على أن يمضي في ملاحقة كل الفجاجات والشر والطمع دون خوف من المجابهة.
في محترفه الصغير الذي تتكركب فيها الأوراق والكتب والغبار ورطوبة الجدران وفناجين القهوة والشاي وأزيز التلفزيون، يدوّن عباس في ثقافة "السفير" تاريخاً للثقافة واللغة والفكر في زاوية تبدو عفو الخاطر، ولا تكلفه سوى وقت قصير، ولكن الكثير من الناس مثلي ينتظرونها، مدركين انها تُغني عن مجلدات العاطلين عن الابتكار.
هذا الغضب الذي يشعل قصيدته دون أن يحرقها، دون ان يجعل منها بياناً لفظياً، هذا اليأس الذي أطل فيه على مشارف مدينته "صور" ليرثي فيها الجمال الذي تحول قبحا، كل تلك الانتباهات الصغيرة التي توحد السخط بالمحبة بالتوق، كل ذلك البهاء الذي طلعت فيه القصائد من شعور قاتم باليأس والخذلان،كلها تبدو فعل مواجهة مع الموت، الموت الذي لا يخافه عباس، حتى وهو يضعه عنوانا لديوان " الموت يأخذ مقاساتنا".

لم أغبط كاتبا على موضوع، مثلما حسدت «عباس» مرات وهو يكتب عن العراق،ويوم كنا نسير في موج الثقافة العربية العاتي، لم نجد صوتاً يقف مع قضية العراق، مثلما كان صوت عباس.وكلما شعرنا بالاستيحاش والغربة بين المثقفين العرب، كان عباس يرسل تلويحة على مبعدة،دون أن ينتبه انها موجهة إلينا أو لغيرنا، فعباس لا يحتكم إلى أحد في ضميره، ولا يجامل حتى المنبر الذي يكتب فيه.
سأنتهز فرصة غيبوبته كي أتذكر خصاله، فهو في صحوه يرتبك من كلمة مديح تقال بحقه، بل سيجد بنفسه القدرة على تحويلها الى مزحة، وسيبني عليها توقيعاته الساخرة مثل من يمشي على منحدر. ولا مرة اصغيت الى عباس دون أن تصرفني عن أفكاره حركات يديه المتسارعة نحو شاربه، وجلسته المتململة، وعيناه التي يزمهما ويفتحهما كمن يجاهد كي يمنع عنه ارتباكا.ولكنه وهو الذي تركض الكلمات مهرولة بين شفتيه،لا يغفل لحظة عنها،فهو محترف فكر شفاهي يعرف كي يسوق قطعان قراءاته الى مراعي الذكاء الوقاد والنباهة والدقة الرهيفة.ربما كانت هذه مشكلته،فالمسافة لديه جد قصيرة بين الفكرة وإعادة تمثلها وإبداعها. انها تأتيه من حافظة نادرة،حافظة الاجداد ربما، فهو من بيت علم. ولطالما كان النسيان أحد اسلحته كي يحصّن نفسه من الخارج، فالطريق الذي يضيع، والحاجيات التي تسقط من يديه، وملابسه التي يهمل هندامها، والناس الذين يهرب منهم ويذهب اليهم،كل تلك الأفعال التي يترجمها بلا مبالاة لا تغفلها العين، هي الوجه الثاني لعباس الذي يسكن في مطرح آخر، مطرح المفكر الذي لم يقيض له تلخيص أفكاره في كتب، وبعثرها بين الشعر وطاولة الصحافة.

في العمر مزيد من الوقت، وسيرجع عباس إلى هذا المكان الذي يشبهه،الى بيروت التي تضمر جمال روحه وبهجتها، ارتباك أوقاتها وتشتتها، عدمية مصائرها وشجاعتها في مجابهة الرثاثة والخواء.
لم يهرب عباس يوما من المواجهة، وما كانت أفكاره وتأملاته عائمة في مجرات اللغة وتهويمات المثقفين،فهو حاضر في قلب الوقائع،فعندما تكفهر سماء لبنان، وتقرع طبول حربها،تصبح لأفكاره رهافة الوتر المشدود، حدة البصيرة والشعور المكثف بالخطر.ما كف يوماً عن أن يملك استشعارات المثقف النقدي، المثقف الذي يرى عيوب أهله قبل أن يرى عيوب الآخرين،عيوب بلده قبل ان يتغنى به.ما أعمته حمية قبلية، أو اطاحت بأفكاره مخاطر الذهاب بعيدا في كشف العطوب الطائفية، وعطوب الطائفة التي خرج منها قبل غيرها. في بلد تتحرك كل مفاصله على وقع المصائب الطوائفية والفئوية، كان عباس يعرف مكانه، مثقفا عربياً يجاهر من زاويته الصغيرة التي يكتب منها دون بهرجة الأضواء والامتيازات. يذرع شوارع مدينته مشياً، ويذهب الى جنوبه حيث الأهل يقفون في عين العاصفة. وعندما دكت اسرائيل الضاحية الجنوبية، بكى عباس ندم الترفع عن الأماكن التي ينتمي اليها.هو مع الضعف، ولم تطربه انتصارات الأقوياء وطبول حروبهم المقدسة.
في ممر الردهة التي يرقد فيها عباس، يجتمع المثقفون كل يوم، اولئك الذين اتفق او اختلف معهم، اتفقوا بينهم أم اختلفوا، فهم ينتظرون مثقف المدينة التي ترقب عودة ابنها اليها،عودة الكلمة التي تقف في مكانها، حتى وإن تبعثرت وانبعجت وفقدت هندامها، فهي تبقى ساطعة ومشرقة مثل شمس بيروت.

الرياض
26 يوليو 2010

********

عباس بيضون يوم كان في زيارة البحرين:
عباس بيضون و " هبوط اضطراري " في البحرين

علي النحوي

أن تتاح لك فرصة التقديم لشاعر كبير يشكل مرحلة مهمة في تحولات الشعرية العربية الحديثة ، فهذا يعني إنك لابد أن لا تكتفي بما علق في ذاكرتك من شعره أو كتاباته ، أو حتى ما قرأت مما كتب عنه ، أو الحوارات التي أجريت معه ، بل عليك أن تتقصاه من جديد .
بالتزامن مع إقامتي الحالية بالبحرين ، ومع تردد حميم على مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث ، وبيت الشعر ( بيت إبراهيم العريض ) ، ومتابعة دؤوبة لأنشطة المركز ، وإعجاب شديد بما يقدمه من طيوف ثقافية في التاريخ والتراث والنقد والموسيقى والشعر والرواية والعمارة وغير ذلك من الفنون ، بدأت تتشكل علاقة ثقافية ودودة مع الأخوة والأخوات هناك ، وأصبحت الكتب التي يطبعها المركز أو يحتفي بها تعبر بين يدي كسحابات روية ، وهكذا كنت اتصفح قائمة برامج المركز بين الفينة والأخرى وأشجع الشباب حولي على حضورها .
ونظراً لأن المركز يصدر قائمة ببرامجه لدورة ثقافية شبه فصلية ، كنت انتظر أمسية الشاعراللبناني عباس بيضون بتاريخ 28/ 4 / 2008 م ، لست أدري لماذا كان هذا الانتظار يشكل محطة مختلفة في ذاكرتي ؟؟
هل لأني كنت أقرأ بيضون بين حين وآخر بجهة الشعر ؟ أم لأني حرصت على الحصول على نسخة من أعماله الكاملة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر من معرض البحرين الفائت ، ومن لحظة عودتي للمنزل بدأت أقرأ مقدمة خالدة سعيد ، ومن ثم قراءة نص " البحر " ثم نص " صور " ومايليه من نصوص مفرطة في الانفلات من ربقة اللغة المكتنزة بالمجازات والانزياحات والتقاليد الشعرية المألوفة !!
لست أدري غير إن اختياري من قبل إدارة المركز للتقديم لعباس بيضون كان امتحاناً صعباً لي ، بخاصة إني كنت أعد نفسي مريداً وليس صاحب طريقة ، هذا الاختيار جعلني أمام مهمة شاقة وصعبة ،لأن التقديم لقامة شعرية كبيرة يعد مغامرة ومسؤولية ، وما أدل على ذلك من رجفة انتابتني بعد الموافقة على القيام بهذا الدور مباشرة !!
بمجرد ما أغلقت موبايلي وذلك قبل يوم واحد من الأمسية كان علي أن أعود لملف عباس بيضون بجهة الشعر ، واستل أعماله الكاملة من بين رفاقه من مكتبتي الصغيرة ، لأعاود قراءة بعض نصوصها مرة أخرى ، كما كان علي أن استعين بصديقي المسمى " قوقل " لينبش لي بعض ما خبأته الأيام في جيوبها عن عباس بيضون وشعره !!
دعوني قبل أن أسرد لكم ماكتبته أو مادار في الأمسية أحكي لكم عن لفتة أشار إليها أحد من كتب عن عباس بيضون حينما أشار إلى تواضعه وإنه لا يأنف أن يشير إلى شاعر قد تأثر بتجربته ، حينما قرأ عباس بيضون أحد نصوصه في الأمسية ، وكان عن ساحة في برلين ، انتهى منها ثم التفت وقال : للأمانة ومضة النص استعرتها من ريلكه !!
أف ، أ هكذا يترجل الفارس عن صهوة جواده ليقبل الأرض ؟!!
حينما دخلت بيت الشعر كان عباس بيضون أول وجه يستقبلني عند آخر الممر المؤدي لبهو بيت الشعر ، عانقني وكأنه يعرفني منذ فترة طويلة قائلاً : عباس بيضون !! قلت : ولو ، من لا يعرف عباس بيضون ، ثم لفني بابتسامة بحجم روحه الطيبة وقلبه الكبير ..
انتظرنا في البهو ما يقارب النصف ساعة وعباس بيضون ينهمر على أحبابه مطراً عاطراً ، وأنا أقول بخاطري : أ هذا هو الشرس في بعض مقالاته النقدية ، الوديع في كثير من نصوصه الصاخبة ؟!
لست أدري ، لماذا كانت تدور برأسي مجموعة أسئلة تشبه حبات الندى التي تتكوم على ورق الشجر في صباحات الربيع ، فلا هي تغادر الورق ولا تجف ؟؟ ربما لأنني للتو خرجت من الهواجس التي أشعلها عباس بيضون في ذاكرتي حول الشعر والتحولات الفنية ، ربما لأنه استطاع أن يكسر بعض قناعاتي غيابياً ، وربما وربما ..
دعي الجميع للصالة الداخلية لتبدأ الأمسية حينها بدأت رعدة تتسرب إلى فرائصي وأنا الذي ترعرعت بين حنايا المنصات منذ طفولتي ، كانت الدنيا تغيم بين عيني باستثناء الورقة التي كتبت عليها بعض ملامح عباس بيضون ، وبعض قسمات الحاضرين !!
حينها لملمت ذاتي وقرأت الورقة التي أعددتها احتفاءً بعباس ، محملقاً في ملامحه البيروتية ومتأملاً ردود فعل قسماته مع كل جملة كنت أقرؤها .
" في بيت الشعر، في بيت إبراهيم العريض ، في حضرة مكان طالما زاحمه الجمال والموسيقى والغناء والحب والشعر ، في زاية تتخطفها القلوب والأبصار يضعني القدر الليلةَ قبالة " البحر" و"صور" ربما ليختبر رعشاتي ، وما سيغشاني وأنا أقدم هذا العملاق الكبير عباس بيضون .. عباس الذي يقدم نفسه بنفسه .. عباس الذي لا يقدمه غير شعره ، والانعطافة المائجة التي تبحث عن " حياة لم نعشها " على حد قوله !!
عباس الذي قرأت ملامحه قصيدة تشي بالكثير مما يكتنزه هذا النهر الذي لا يعترف بالحواجز والسدود ، عباس الذي سنصبغ بألوانه المتشظية الليلة أطراف أناملنا ، ربما نتعلم منه كيف نعيد ترتيب الشظايا ؟ وكيف نجترح خطيئة الكسر والجبر ؟ وكيف ننفلت من اللغة إلى اللغة ؟!
لست أدري كيف سأدرب المكان على الحملقة في شعر بيضون الآتي من أفق والده الشاعر الكلاسيكي ، ليفتنّ في البعثرة والتشتيت والوقوف في وجه مارد اللغة !!
عباس الذي مدّ جناحيه ليلم التراث العربي بجناح ، ولينهل من الأدب الغربي بجناح آخر .
ماذا كان يقلق هذا العابق ؟ ليأتي متأخراً، وهو الذي استيقظ باكراً !!
أفٍ للكتابة حينما تحبسك عن الكتابة،وأف لها حينما تجعلك تهذي !!
" صور " حبست عباس عن الكتابة سبع سنين ، و " الوقت بجرعات كبيرة " أطلقت جناحيه ..
ما الذي يجعل عباس ينقطع عن الكتابة ، ثم يعود إليها بنهم .. بجنون .. بفتنة ؟؟
ماالذي يجعله ـ على حد قوله ـ في كل نص جديد يكتب كمبتديء ؟؟
لست أدري غير إن مجموعاته الشعرية " زوّار الشتوة الأولى " ،
" نقد الألم " ، " خلاء هذا القدح " ، " حجرات " ، " صيد الأمثال" ، " لفظ في البرد " ، " الجسد بلا معلم " ، " شجرة تشبه حطاباً " كلها تفتقت عن فارس مختلف !!
عباس يا أخوةُ شاعر يخبيء الكثير ، وهو الذي لمّ شتات اثني عشر عاماً في مجموعته " لمريض هو الأمل " وترك للقاريء التأليف بين نصوصها ، وهو الذي يقول : " تأخري في النشرأتاح لي أن أبدأ ناضجا ً ... "
عباس الذي انسل من تلافيف اللغة ليصنع أمشاج جديدة لها يقول :
" قضيتي الأساسية هي المكافحة ضد قوة اللغة ، وليس الخروج من اللغة نهائياً .. أقيم دائماً بين الشروط الصعبة للإيقاع والكتابة ، وبين إدخال شفوية الكلام في النص "
في هذه الأمسية سنبتل بفوضى عباس وجملته الذهنية الضبابية ، سنلامس بصمته الشخصية ، وتوقيعاته المبعثرة ، ومجازه العائم ، وشطره الملعون !!
سنتجول في مدنه " أبواب بيروتية " ، " فصل في برلين " ، " كفّار باريس " ربما نعود بوميض ضوء !!
ماذا بعد ؟؟ لست أدري ، غير إني سأضع مجموعته الكاملة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومقدمة خالدة سعيد لهذه الأعمال، وكل ما كتبه عشاقه عنه، لنقرأه وجهاً لوجه.. "
وحينما جاء دور ضيف الخليج كان كل شيء يتوجه صوبه ، وبدأ يفرد أوراقه كأجنحة ملاك ، ليتلو نص " صور " فينسكب على القاعة شلال ضياء :
ـ يا صور .. حين نزلنا إليك انتزعت من حناجرنا الوتر الفلاحيّ ، وها نحن بالكلمات التي تعلمناها منك لا نستطيع أن نصفك .

ـ ستقعين أيتها الأم المسنة
ولن تقوم مدينة بعد الآن
ستنزلين على أضلاعك كالمدخنة الهاوية
وترقدين على الشاطيء ورأسك في الرمال !!

ـ أنت صور التي سقطت
من جيب التاريخ
كيف تبقين على الرمال
كالعلبة الضائعة !!

بيضون كان مجلجلاً ، كان يفرد ذراعيه وهو يقرأ نصوصه ، ربما ليقتنص بريق النجمات ، ورفيف أجنحة السحائب التي تطوف حول تلك المنصة التي يقف من خلفها كفاتح !!

وما إن جاء دور نص " هبوط إضطراري " حتى غيّر عباس نكهة النصوص السابقة بأرج عطر ينسرب من أعطاف أنثى ، كم كان هبوطه الاضطراري مدهشاً ، حينها ضجت القاعة والكراسي والحضور بالتصفيق ، وطلب المساء مزيداً من قهوته البيروتية !!
قرأ بيضون قصيدته الأخيرة ، ووقف إلى جانب المنصة ‘ ربما إجلالاً لمحبيه ، وربما في انتظار إقلاع مواكب الضوء الذي هبط للتو !!
حينما عدت إلى المنصة وجدتني أهذي ببعض مقاطع نصوصه التي قرأها ، لأردد :
ـ الحب لا يؤذي ...
ـ مازالوا يخوّفون التلاميذ من البحر ، والصيادين من الكتب !!
ـ سيكون هناك سهر طويل بقليل من الوقت !!
هكذا فعلها بيضون إذ أغرانا بالسهر الطويل بقليل من الوقت .
أ هكذا
تنسلّ أسراب اليمامات من الحقل ليبقى رفيفها ؟!
أ هكذا
ينتهي المهرجان ليترك خلفه حشود الوقت كما يشاء الشعر ؟!
أ هكذا
نغادر المكان لتصبغ جدرانه ملامح هذا البيروتي الجبّار العابق بالتراتيل المتمردة ؟!
أ هكذا
نتعلق بركب يشبه ألسنة لهب في شتاء ، وموجات ماء في ظمأ ؟!
سنبقى نتحسس أضلاعنا التي أربك اصطفافها عباس !!
ما إن انهيت هذه العبارة حتى وجدتني واقعاً في أسر قبلة وعناق من عباس بيضون ، ليكتمل مشهد المساء بما ابتدأ به .

عن جسد الثقافة
30-4-2010

****

عباس بيضون صديق الشعراء
شوكوماكو - 1244671200
فنون و ادب

دمشق 11/6/09 شوكوماكو اسم يتردد في كل الأماكن, تعرفه قبل أن تقرأ له أي شعر, وقد تختلف معه بعد أن تقرأه, ولكنك لا تستطيع تجاهل ذلك الحضور الآسر والجوهري في صلب الثقافة العربية المعاصرة.. كتب الرواية والمقالة وعمل في التحرير وناوش السياسين, ولكن ذلك كله لم يبعده عن الشعر , إذ بقي الشعر ملاذه الأوحد, شيئه الشخصي الذي لم يشرك به أحدا سواه, وهو المنفي بين أصدقائه الكثيرين, من يعرفونه, ومن يدعون معرفته, حيث أصبحت صداقته في بعض الأحيان مدعاة للادعاء والتفاخر أكثر مما هي علاقة شخصية أو شعرية. عباس بيضون لن تستطيع أن تفهمه إلا وأنت تقرأ شعره في وقت تكون مفرّغا من ذاتك وشحنك المتواترة, عليك أن ترتفع إلى مصاف برازخه ولغته المتاخمة لكتب البحر وهو يكتب على شواطئ الغياب ملحمة الحب. شوكوماكو تسلط الضوء على الشاعر الكبير عباس بيضون الذي يقول عن العلاقة بين الشعر والحياة الشخصية: ليس تماما. ينبغي ان أميز بين رغبتي الخاصة و بين ما أنجزه. ما أنجزه ليس صالحا لتقييمي. ولكن أظن لكل كاتب وشاعر كل أديب هذه الرغبة في أن يوجد في كتابته.

هذه الرغبة دونها عوائق لا تعد، من بينها إن الكتابة تسلك طريقها الخاص، وهي تنحرف عن مبتداها، و تفلت الى حيث لا نستطيع أن نلحق بها. ثم أن الكتابة وهذا سرها وجلالها، تتخطى الكاتب وتعلو عليه. ولو كانت الكتابة بقدر كاتبها لما كان لها أن تبقى، ولما كان لها أن تجتذب قارئا، لأنها إذا كانت بقدر صاحبها، فهي بقدر تفاهته وهشاشته وضيقه. ما هو جليل في الكتابة يبدو أحيانا فوق شخصي وفوق إنساني. الكتابة تحمل حقا أم وهما، ذلك الوعد بالحقيقة، ذلك الهم بالحقيقة. الكتابة بالتالي هي وهم الكتابة الكبير، وهو الذي يعطي الكتابة سببا لتجتذب قارئا. ما يجذب القاريء ليس الكاتب الذي يساوي القاريء في عجزه وضعفه، ما يجذبه بعد لا شخصي يتجاوز الكاتب، ويتجاوز الإنسان. ليس نيتشة الإنسان هو السوبرمان، بل نصه هو السوبرمان. ريلكة كشخص لا يقدم لنا اية قوة إضافية، لا قوة تفكير ولا قوة حل، ولا عزاء. ولكن نصه يقدم هذا. وتشكل علاقة عباس مع المكان علاقة خاصة, هو المسافر أبدا بين عواصم وقارات بعضها للشعر وبعضها للحب يقول عن علاقته مع المكان : سأتكلم عن المكان الفعلي.

أنا من الذين أمضوا حياتهم، وعن غير قصد، بدون مكان فعلي. كنا نتكلم مثلا عن "صور" المدينة التي قدمت إليها في التاسعة. ولدت في قرية "شحور" التي لم أعد إليها إلاّ وقد نيفّت على الثلاثين. شحور المكان الأول اختفى من حياتي، وهذا الاختفاء لا أعرف معناه، أنما أظن أن اختفاء المكان من ذاكرتنا هو جزء من إنكارنا له. في صور كان عليّ أن أنكر انتمائي إلى شحور، وكان علي أن أنكر أكثر من ذلك حنيني إليها. تعرضت لصدمة الخروج من قريتي، وشعرت بأن عهدي الذهبي السعيد تركته هناك، مع ذلك لم أعد إليها على الإطلاق. درجة من الإنكار لنفسي ولماضيَّ: إنكار متعمد. وكأن الاعتراف بالانتماء إلى قرية مثل "شحور" أقل مني. في صور حدث ما يشبه هذا، أمضيت حياتي في هذا المكان دون أن أحتك فعليا بحياة إحيائها وعائلاتها، حتى أنني كنت أجهل أسماء من كنت بينهم. كنت أعيش في حي شعبي يكتظ بالقصص والأخبار، وكان علي أن أكبر لأسمعها من الآخرين، أسمعها دون أن أعيشها. كنت مجرد مستمع إلى هذه القصص. إلى الآن أعيش في بناية هنا ببيروت منذ ست سنوات، ولا أعرف منها أحدا.

أظن أن هذه الحالة انعكاس لتلك البداية في صور. عشت في صور وأنا في نعمة الغيبوبة الاجتماعية، لم أشعر بحاجة إلى التعرّف على ما يحيطني، حتى حكايا صور التي تضمنتها بعض كتاباتي، مسموعة على كبر ولم أعشها. وإذا كان لي أن أستطرد عن صور، فقد كانت مكانا للضرورة. لم تكن في هذه المدينة أية لمحة من جمال يتجاوز الضرورة والبقاء. هذه المدينة في الداخل، كانت كما أعرفها، تشم في أركانها رائحة السمك المتعفن، وفي وسطها سواقي آتية من مجارير البيوت. وعن علاقة شعره مع الفلسفة : المعرفة والمعرفي، هذا المصطلح يفصل بين النص ولذته، بين الفن في النص وبين علم النص وفائدته المعرفية. هذا تحول إلى رطانة وببغاوية عند بعض الكتّاب العرب الذين يستفهمون كل نص عن محموله المعرفي، يخمنون أن هناك عبرة معرفية، خلاصة معرفية ينبغي إستخلاصها من النص. أظن أن كل نص يملك فكرته الخفية وكل نص يملك فلسفته الخاصة التي لاتظهر على سطح النص ولا أمامه، هي موجودة في تحتية النص، موجودة على شكل أنصاف أفكار، أفكار غير مكتملة أوأشكال فكرية، أوإيقاعات فكرية، تململ أفكار، وهذا ما يعطي النص الادبي ليس فقط بنيانه، بل شعريته. هناك طريقة شعرية في التفكير تقوم على قدرة السؤال على أن يستولد من داخله أسئلته الخاصة، وقدرة الأفكار على أن تحطم بعضها البعض. قدرة الأفكار على أن تبدو كتماس جسدي مع العالم. لانستطيع القول أن الطريقة الوحيدة في التفكير هي الطريقة الاستقرائية المتسلسلة التي نجدها في نص فكري، نحن نفكر طوال الوقت وفي أحيان بأفكار لانفهمها أو غامضة. ونفكر خلال جسدنا ومشاعرنا وأحاسيسنا. هذا التفكير جريان من الأفكار ليس مفضيا إلى نتيجة بالضرورة، ولا آيل إلى أجوبة، ولا طارح لمسائل ومعادلات متوازنة. نفكر في الجنون والهذيان والرغبة. نحن في عملية تفكير توازي وجودنا، هناك تفكير إستقرائي وآخر منطقي، بحثي بالطبع، لكننا بالمقابل لا نستطيع أن نفعل شيئا دون أن يشتمل على فكرته.

الشعر هو نوع من التفكير، ومضحك أن هناك شعراء ونقاداً يفترضون او يتخيلون فنا خالصا بلا أفكار. عبارة عن لعب خالص، ولكن حتى اللعب له أفكاره، لانستطيع ان نبقي الفن او الشعر على مستوى اللعب المجاني، أكيد في الفن مجانية ولكنها لاتستغرق الفن كله. على كل حال نحن نفكر من خلال نزاعنا مع الأفكار، أو توليد الشكوك من الشكوك والأفكار الجهيضة. لا أستطيع أن أتخيل شعراً بدون أفكار. في لبنان كان شوقي أبو شقرا يتكلم عن شعر بلا معنى، ويفترض أن المعنى ليس شرطا للشعر، هذا يعني إنه يفهم المعنى على أنه شيء آخر، يفهم المعنى عبرة واضحة أو خلاصة. أظن أن المعنى جزء لا يتجزأ من الكلام أو من لا معناه أو صمته، او هذيانه. كيف نقول عندما نقرأ التوسير حول تعدد المعاني، وعندما يتكلم التوسير عن العبرة ليست في الجواب، ولكن في السؤال لأنه يتضمن الجواب. بالنسبة الي هذا هو الشعر، هذا الكلام مشعرن بكل معنى الكلمة.

طالما أحببت أن يكون في شعري شيء كهذا، أو في الشعر الذي أقرأ. عندما اقرأ ريلكة او هولدرين وأنا مفتون بالأثنين، إفتتاني بالشعر الالماني عامة، أشعر أنه شعر ممتليء بالفكرة، لا بالمعنى الأحادي الذي يفهمه المثقفون باعتباره الدرس والخلاصة، الوضوح أو الصياغة الذهنية الرياضية أو الحسابية . لانجد عند ريلكة وضوحا ولا أجوبة ولا أفكاراً كاملة، فالنص الريلكوي عبارة عن إشتعال الفكرة، توقد الفكرة. الأفكار تؤلم، كما يؤلم العذاب الجسدي والعاطفي، تعاني كما يعاني الحب والموت والألم الجسدي. الأفكار تقلق. ليست الأفكار كما يظن البعض سلام الأشياء، أو الحلول الناجزة، الافكار ليست سلاماً ولا يقينا ولا جوابا. الأفكار كما يفكر التوسير، هي سؤال. عن قصيدة النثر : جماهيرية القصيدة الحديثة مفقودة ليس منذ قصيدة النثر، بل منذ شعر التفعيلة. هناك بضع شعراء تفعيلة جماهيريون مثل نزار قباني ومحمود درويش، عدا هذين الأسميين لانجد شاعرا جماهيريا بالقدر الذي وجدناه مع الجواهري وأحمد شوقي. أظن كل الثقافة العربية الحديثة، ما زالت في الهامش، ولم تغد كلاسيكية، هذا يحصل مع أدونيس والسياب كذلك مع الشعراء الأخرين. لذا يخرج الشعر من الحياة العامة، وهكذا يحصل على حريته، وعلى مزيد من الإنفراد والعزلة. العرب يجدون في الشعر فنا عاما وصاحب وظيفة، ليس فقط في الحياة القبلية، بل في الحياة المدينية أيضا. أنه لسان عام يفترض به أن يرثي بالنيابة عن الجميع ويتحمس بالنيابة عنهم ويحرَض.

ربما كان الهجاء أكثر فردية، لذا حقق بعض شروط الإبتكار. أريد أن أقول أن الشعر كان ذا وظيفة منذ أن إقترن بالقبيلة، ثم بالبلاط، أنه فن رسمي وأظن الحركة الجماهيرية، أو عصر الجماهير دفعه لإداء نفس الوظيفة، كان عليه أن يتمثل إرادة عامة، ومخيلة عامة. عن علاقته مع بيروت : كتبت ثلاث روايات أحداثها تدور في صور، ولم اكتب عن بيروت. لا استطيع ان ادعي أن ليس لي حياة في بيروت، ولكن إذا وضعنا الأدب جانبا، أمكن لي ان اتكلم عن علاقتي المباشرة بصور أو بيروت. أظن أن لدي أنا حنين الى المكان، اكثر مما انا موجود في أمكنة فعلية. الأمكنة تكاد أن تكون تطلعا وطموحا بما فيه الأمكنة التي نعيش فيها. هناك صراع بيني وبين المكان، وهناك في الأرجح لا وعي بهذه العلاقة، شبيه باللاوعي الذي بيني وبين أمي مثلا. . بمعنى أن جزءا من العلاقة يسقط في الغيبوبة، ويسقط في النسيان، جزءا من العلاقة غائب ولم يترّمز ولا يملك لغة.
(صور) مثلا، كما قلت عنها أكثر من مرة، كانت مكانا لا أشعر به، مكانا للضرورة. كانت نوعا من المخيم المستقر. نحن نعيش في أمكنة لانراها، ولا نحس بها، ولا نشعر بتداخلها في حياتنا. أمكنة لاتملك أي فائض عن الضرورة، سواء كان حياتيا أو جماليا.

علاقة الغياب هذه لم تختلف كثيرا عن علاقتي ببيروت. إذا كانت صور لاتشبه أي مثال في رأسي، فبيروت لاتشبه المدينة. يوم ذهبت الى باريس لأول مرة، سُحرت إذ وجدت نفسي أمام مدينة، وبالتالي فأن باريس مهمة لي كمكان: شوارعها، وكنائسها، ونهرها ومتاحفها وأرصفتها ومقاهيها، كل تلك الأشياء حاضرة بالنسبة لي أكثر من الناس الذين يهمونني أقل بكثير. بينما بيروت ليست شيئا سوى الناس الذين أعرفهم. منذ سنوات زارتني صديقة فرنسية مفتونة بالأمكنة القديمة في مدينتها، وبسبب ذلك توفر لها إنتباه خاص لكل قديم في كل مكان. سرت معها في الحي الذي أسكنه منذذ سبع سنوات، وفجأة بدأت هذه الصديقة تدلني على تفاصيل في الحي الذي أسكنه، لم تتوفر لي رؤيتها رغم مروري بها كل يوم. منذ عدة سنوات نشأ لدي وعي بأنه ينبغي أن أرى الأشياء التي إصادفها ولا أتركها تمر خفية. ورغم ذلك لم أكن أملك الإستعداد الكافي والإنتباه لتفاصيل ما أراه. يتراءى لي أنني مجددا أعيش في مكان لا أراه، على الأقل أحتاج مسافة ما لأعيد تخيله. وحين كتبت آخر نصوصي (دقيقة تأخير عن الواقع) عن بيروت، كتبت تحت شعور يشبه الإلتزام. وجدت أن من الغريب أن نكون شعراء في لبنان ولا نكتب عن بيروت.

تقاعسنا في الكتابة عن بيروت له دلالات ما. هذه الدلالات تنقض بعض تطلعاتنا وبعض إداعاءاتنا. لم يكن هذا الدافع الوحيد للكتابة، ولكن لا أنكر ان التحدي كان من بين دوافعي. لا أريد ان أتكلم عن النص المعنون ( أبواب بيروتية )، فحين نكتب عن المدينة نفهم في البدء إستحالة ذلك، وأن جلّ ما يمكن أن نفعله هو نشر بضع تفاصيل على أمل أن تكون هذه فيما بينها إيعازات لمدينة. الأمكنة في الشعر قد تكون نوعا من ال (هو) الكبيرة، من (أنا ) بانورامية، من (نحن) التي قد تكون فضاء لغويا. المهم لا تكون هذه الامكنة في الشعر مدنا حقيقية، وأمكنة حقيقية، وقد توجد مدن في تفاصيل أخرى شعرية. قالوا عنه : زاهر الغافري : شاعر عماني لا يكفي أن نقول إن اللبناني، عباس بيضون، شاعر فحسب، على الأرجح أنه شاعر وأكثر، وربما يصح أن نقول إنه رجل مشتغِلٌ على الشعر، لهذا يصعب حصرَه في زاوية واحدة. جلّ اشتغال عباس بيضون الشعري، ينطلق في الأساس، من زوايا نظر عديدة، وأسلوبيات مختلفة، وربما تجريب على مستوى عالٍ من الخبرة، والدراية، والدربة أيضاً. يصح هذا القول ابتداء من 'قصيدة صور'، و'الوقت بجرعات كبيرة'، حتى آخر أعماله الشعرية. وإذا كانت 'قصيدة صور'، تصعيداً شعرياً للسيرة الذاتية، سيرة الطفولة والبحر والمدينة، فإن 'الوقت بجرعات كبيرة'، فاتحة حذاقة شعرية سوف تنضج في أعماله اللاحقة.

الغريب أن عباس بيضون، القادم أصلاً من خلفية سياسية قومية ويسارية، لم يخلط بين الشعر والسياسة، كما حدث لكثيرين من أقرانه، بل على العكس لقد ابعد المجالين عن بعضهما منذ البداية على نحو حاسم. نقطة أخرى لصالح بيضون أيضاً، هو انه قارئ ذكي للشعر. وهو أكثر شعراء العرب متابعة وعبر الكتابة الصحافية للاجتراحات الشعرية العربية، انه قارئ متأمل بعين ناقدة ويكاد يكون موضوعيا في تناوله للمجموعات الشعرية التي كتب عنها. على أية حال لنترك هذا الأمر جانباً. في 'الوقت بجرعات كبيرة'، هناك قصيدة اسمها 'الخادم' وهي منولوج شعري على لسان تلك المرأة التي رفعها عباس بيضون الى مصاف الملكات، والقصيدة لا تخلو من التفاصيل والتمنيات والاسترجاعات والاستدراكات أيضاً، وقد تكون الحسرة من بين ما يُشكل مركزيتها وواضح هنا أن عباس بيضون يفتح أفقاً للنظر كان مهملاً على الدوام. وبين 'الوقت بجرعات كبيرة' وهي المجموعة التي صدرت قبل 'قصيدة صور'، مع انها كتبت بعدها ـ وبين أعماله اللاحقة الكثير مما يمكن قوله. أشار عباس بيضون أكثر من مرة، في أحاديثه الصحافية وفي كتاباته أيضاً الى مصادره الشعرية غير العربية، مركزاً بالأساس على الشاعرين، الفرنسي رينيه شار، واليوناني يانيس ريتسوس. وعنوان 'الجسد بلا معلم' كما هو معروف مدين لرينيه شار صاحب 'المطرقة بلا معلم'، والكتاب كله، قول في الأشياء الصغيرة، الحميمة، بما في ذلك، ما تبقى من الحب، أو على الأصح من الأنفاس، الذكريات، وما كان مهملاً في العلاقة بما في ذلك الألم أيضاً. لكن كتابة عباس بيضون، تبقى هادئة، تخلو من المبالغات، والصور الصارخة، والمجانية، انها كتابة أشبه بالتطريز الدقيق، لأنه يعرف ماذا يفعل، هناك شيء آخر:
إن ما يميز كتابة بيضون، هو أنّ ما لا تقوله القصيدة يبدو، أحياناً أكبر مما تقوله القصيدة فعلياً، انها كتابة تترك حيّزاً عالياً للتأمل، لذا قد لا تكفي قراءة واحدة، وأولية لشعره. في 'الجسد بلا معلم' مثلاً، يقوم عباس بيضون بأنسنة الطبيعة ايضاً، مستخدماً وفرة من الكلمات الدالة، لكن بعد قلبها وازاحة ما ثقل عليها من معانٍ صدئة. (المطر، الورقة، الغصن، الوردة، الشوكة، الحديقة، الشجرة)... ألخ، هكذا مثلاً يمكن أن يتحول الجسد الى غصن، و'ما من عبارة غدت فعلاً شيئاً واحداً'، على حد تعبيره. يترك عباس بيضون فراغاً هائلاً لكي يُقرأ ويُفكَر فيه، إنه أفق انتظار حاضر على الدوام.

قسم عباس بيضون 'المطرقة بلا معلم' الى أقسام ثلاثة: ورقة جميلة يظنونها مية، الجسد بلا معلم ثم الصبر الجنوني. أراد لكل ضمة أزهار أن تكون في مكانها، تنويعات شعرية هي في الأساس قرينة الحب المفقود، والندم، والعجز، ولكن أيضاً، الذكرى والحميمية، والصداقة. والاشتغال الشعري قد يتمظهر في جملة واحدة، وحاسمة، من مثل 'لا يكفي أن نزيح الستارة' أو 'الحياة كلها تحت النافذة' أو استرسالات تحكي التفاصيل والوقائع بجمالٍ وشفافية. صباح زوين : هل يكون دائماً المكان هو الحافز الأهم لكتابة نص ما، وهل النص الذي نكتبه في مكان معيّن يستوحي مناخه من هذا المكان؟ قد اردّ بالإيجاب، ولو على مضض إذ لهذا المنحى من التفكير فروع.

فمن جهة، أعتقد أن اللغة هي قبل كل شيء ابنة مكانها، ومن جهة اخرى اللغة هي ابنة الذات. لكن تبدأ المعضلة عندما هذه الذات تكتب في مكان غير المكان الأصلي، اي الأول او الثابت، فهل نكتب في المكان الآخر ما يحمله إلينا هذا المكان الآخر ام نكتب في وحي من خليط الأمكنة، ام فقط من وحي مكان الاصل؟ هذا ما تساءلته وأنا اقرأ الكتاب الأخير للشاعر عباس بيضون «ب.ب.ب»، وإذا أراد عباس باء رابعة كما قال مازحاً، فقد نسمي الكتاب «ب. في ب.ب.ب»! إ
ذاً تساءلت اذ مَن امضى وقتاً من الزمن خارج مسقط الرأس جغرافياً ولغوياً، لا بد ان يتساءل حتى يضج رأسه ودمه بكثير من الصدامات التي تنبع اصلاً من تلك المرآة التي نرى فيها أنفسنا وكأننا نرانا للمرة الاولى. وأعني بذلك انه عندما نكتب ونعيش في مكان الاصل، نتماهى به الى ان لا نعود ننتبه الى وجودنا المختلف، وهو مختلف في كل الاحوال، لكن إذا تساءلنا حول لغتنا اثناء الكتابة يكون الحافز الفعل الكتابي المحض بينما اذا تساءلنا حول لغتنا اثناء وجودنا في مكان آخر غير الذي نشأنا فيه والذي نعيش فيه، فيكون الحافز، كما أعتقد وكما أرى في هذا الكتاب، الصدام مع الآخر، الاختلاف عن الآخر وأعني ذلك لغوياً وجغرافياً، فنبدأ بالانتباه الى الذات جراء الانتباه الى الآخر.
هكذا أرى كتابة عباس بيضون في باريس وفي برلين، هذا اذا افتكرنا ايضاً ان لا شك في ان الكاتب هنا مدعو الى الكتابة ولم يدع نفسه إليها. فالصدام مضاعف، بل هو اشد قسوة من الكتابة في حالة كهذه من الشرذمة بين عدم ثبات الجسد في نطاقه الاعتيادي وعدم فهم احدى اللغات (هنا الالمانية) وواجب التفاؤل مع النطاق الجديد والغرابة في الأذن في جميع الاحوال، اذ الفرنسية تبقى فرنسية والعربية هي العربية.
آمال نوار :
رغم انتماء الشاعر عباس بيضون إلى الجيل الثاني بعد الرواد، إلاّ أن قصيدته، بمضامينها وتقنياتها، لم تكن امتداداً لقصيدة الستينات الحديثة، وهو إن كتب قصيدة النثر، فقصيدته تبدو وكأنها انشقّت عن مسار مرحلة الخمسينات لتتخذ طريقاً موازياً لقصيدة الرواد، على اختلاف خصوصياتهم.
لا نقع في قصيدة بيضون مثلاً على أصداء القصيدة الأدونيسية، ذات البعدين المادي والصوفي في آن، والتي ترى إلى الشعر في كونه رؤيا وطاقة على الحلم، جاعلةً من الجمالية مرتكزها ومن المعرفة طموحها، فيما تسعى إلى نقد المسلّمات ومساءلة التاريخ والتركيز على التراث والأسطورة والفلسفة كثلاثة محاور رئيسية. ولا على غرائبية وطرافة قصيدة شوقي أبي شقرا، في تراكيبها المشاكسة واهتماماتها المحلية ومعجمها اللغوي الريفي. ولا على الهاجس اللغوي لقصيدة يوسف الخال في منحاها التجريبي وانشغالها باللغة العربية المحكية، (ولو أن محاولة الخال في جعل القصيدة الغربية الحديثة، نموذجاً ومنطلقاً للقصيدة العربية الحديثة، تجد لها أمثلة تطبيقية في شعر بيضون، إلا ان الأخير لم يستخفّ بالتراث العربي الإسلامي، أو يناصر فكرة القطيعة معه).
ولا على شعرية أنسي الحاج المتفجّرة في الباطن مع الحفاظ على جمالية عالية في الهدم، والمرتكبة المعاصي إنما بهيئة ملاك…وإن كنا لا نستطيع تماماً تغييب بعض ملامح القصيدة الماغوطية عن قصيدة بيضون، لاسيما في كونها قصيدة أرضية، من لحم ودم، ولصيقة بالمكان والمعيوش، وتفوح منها روائح بشر وأمكنة، إلا أنه يبقى لقصيدة بيضون من الخصوصيات ما يجعلها تتقاطع مع قصيدة الماغوط ولا تتفرّع منها.
فعدا عن الإختلاف الكلّي في تقنيات الكتابة ما بين الشاعرين، فإن قصيدة بيضون أبعد ما تكون عن “قصيدة البراءة” التي تجسّدها القصيدة الماغوطية، لا بل هي على النقيض منها، قصيدة تضجّ بمنابع ثقافية متعددة، وتستبطن تراكمات معرفية تؤسس لشعرية مغايرة من طبيعة معمارية متنوعة المواد والأساليب، لا تستطيع معها الوقوف عارية بهيكلها العظمي وحده كقصيدة الماغوط. هذه الإنطباعات عن شعر بيضون، تحيلنا إلى مسألة أخرى، وهي أن أصداء قصيدة النثر الغربية فيه، تطمس كل أصداء محتملة لتلك العربية. ويبدو أن المواضع الشعرية التي هي محل تأثّر لدى الشاعر، قشّرت عنها اللغة لتفسح للتواصل أخذ مجراه على مستوى أعمق، حيث طبيعة تكوين الشعرية نفسها، وما تتضمنه من حساسيات شعرية تدخل في تحديد عناصر اهتمامات الشاعر وهويّته الشعرية. ولأن جوهر الشعر في كونيته مثله كجوهر الجمال والفنون كافة، فإنه لا يستغلق أو يستعصي على الروح الإنسانية على اختلاف لغاتها. نصوص للشاعر : الوقت بجرعات كبيرة
1
الإسطبل يقودنا الضوء إلى الخارج كما يقود خيطاً إلى إبرة يتناولنا كطرف كلمة تخيط عبارة شاهقة في خروم النوم كوسواس يسرقنا ..................... بينما تتخبط الريح بين الحفر قبعة تلف بين الشموع تلك الذاكرة المكفوفة التي تتقدم في معرض ليلي هل يخضر الجلد ثانية أم تذكر اليد ما تسرّب منها هل نجلس في مشورة الخلاء أم نتقبَّل ذلك العشاء البارد في الغرفة الأخرى الأسماك في السلة النواصة في الممشى نغسل أفواهنا من ضجة النهار ومن الهواء الذي في سعيه ليصبح كلاماً تحطم على أسناننا هل نبقى وحيدات في هذه القلعة التي غدت إسطبلاً خائفات من لعبة منتصف الليل مما تدبره المرايا المتقابلة طيلة اليوم ومن الإشارات الدائمة لحذاء مقلوب وكأس محطمة

2

الضوء الضوء الذي تكرر آلاف المرات كغرزة في ثوب والذي ينير داخل الأحذية والممرات كما ينير عيون النساء الضوء الذي ينكسر مع حركة اليد، ويلف مع النول، ويعوم على المجلى والذي يدور في الصيوان، ويرتفع على عمود الملابس، وينتقل على درجات الرفوف كأنه يرفو زوايا البيت باذلاً للآنية جلستها المطبخية للإطار الفضي سهوه المعدني للمسوح المعلقة عظام قصة إنه يدخل من ثقوب القبعة القديمة بدون أن يزيح الظل الرمادي ويدخل إلى المخدع في هيئة النوم

3

نأخذ الوقت بجرعات كبيرة السماء تتجور وتطلق ممراتها وطرقها الهوائية والليل يهتز كبحر ملفوف بالجلاتين نأخذ الوقت بجرعات كبيرة تنخفض الأرض ويبرد اليوم بينما تتحرك الأرض بملاحيها المنومين
4
الساعة ترتجل في الخزانة رجل دفن في الهواء كان الضوء رصاصياً كأنه في ظل أيقونة الضوء الذي تسرب يوماً من زجاج نظارته وربما من عينيه حينما كانت أصابعه وفمه حتى طرقة عصاه مرئية رجل محفور في الغبار وفي بخار الصباح الذي لم يعد سوى مرآة تحطم عليها وها نحن نخفي أعيننا لنبصره ونخفي أناملنا لنتنسم يده المطبوعة على فضاء ما جانباً، الكتابة حية على ورق الرسائل الأزرار حية على السترة الأعشاب حية على الخشب كل شيء يموت من حياته كالبحر الذي يموت من ملوحته ضجة أشعة وقرص شمس على كرسي مقعد منهار على قوائمه - ربما هناك أصابع جذع مقطوع من قاعدته - ربما هناك ظل قامة طبق من أظافر مقصوصة وأعواد ثقاب أعقاب (النار تفنى من جذورها، النار وحدها لا تترك أعقاباً) الساعة في الدرج الغليون والولاعة في المحفظة بينما نرتجف كما لو كنا نصطدم بأضلاع ونخشى إذا تأملنا في عمق الخزانة أن نرى رأس ثور وحد يحدق من قائمتيه المقطوعتين المئذنة تنقل ظلها كل برهة الساعة ترتجل
6
كومة قلوب في منشفة فجأة تكت كومة ساعات قديمة في ذلك الصندوق الحديدي مفاتيح باتت عمياء عن أقفالها. أطباق محطمة دفناها تحت الشجرة معطف يختلج قليلاً، ربما تدق ساعة في جيب سترته آلة كاتبة مسجاة، الهواء يغط في مجراه، فجأة تنغل كومة قلوب في منشفة الأعمى بين عشر طرق، وبدون أن يبصر الأسهم المحيطة، بدون أن يسلك طريقاً، يصبح خارج المقبرة

7
كان هناك وقت كان هناك وقت لنشرب بملاعق صغيرة لنفرغ حفر البول، وعلب الصدقات ولنترك الكتب واللحوم المدخنة على الرفوف كان هناك وقت لنغربل الرمل من فصوص الزجاج، وشعيرات الذهب لنثقب الخرز ونواصات الليل كان هناك وقت لنجلس بين الركب المقطوعة لجمل وحيد حين يعوم الشارع بزيت السردين حين تلتمع قرية كقرص روث ملتهب حين يصبح للسماء لون الإسطبل كان هناك وقت لننفق الهواء ولنقترض نجوماً أخرى كان هناك وقت لنجمع أعقاب الشموع لنزيت جدارية الحصاد لنسوِّي ياقات الموتى وقبعاتهم، وربما أعناقهم المائلة كان هناك وقت ليمكث الهواء زمناً آخر في الأنابيب والأكمام لتبقى شعرة ساقطة في الإناء لنحفظ خلية أوكسجين واحدة في رئة الميت ولنسكب نقطة خمر في عينيه كان هناك وقت لنعمل وفي آخر النهار تسقط اثنتا عشرة ساعة من عيوننا قبل أن ننام كان هناك وقت لنجمع عن الشاطىء القريب السمك اليابس والأحشاء التالفة للمياه كان هناك وقت لنجد وجبة أسنان وجرة رماد. نعرضهما على المجلى كان هناك وقت اثنتا عشر ساعة تسقط من العيون اثنا عشر تلميذاً
---- مع من مات منهم يصبون على أيدينا حين كان البصر الذي تخ في الفضاء والهواء الذي اعتكرنا جميعنا فيه يرتسم على بصمات أصابعنا -

11

الخادم الأسرة مرتبة من جيل الشمعدانات ملمعة من هنيهة الزهور جديدة في الإناء الملح ندي من أمس إنني أحل شعري وأدخل متفقدة في الظلمة حبلاً من التحف الخشبية على طول العارضة التاج الصدفي للكرسي الكبير الكتب التي كنا نشم سطورها قبل قراءتها العاشرة وأوشك الآن أن أقرأ عناوينها بأصابعي أفتح عيني على آخرهما حتى يتسعا في كل وجهي عند ذلك أسمع بؤبؤي ينبض كعقرب الساعة وأنا أشخص من زاوية إلى أخرى يظهر الليل مسناً على المقعد العالي حيث كانت سيدات يحكمن من وراء عدسات مكبرة الشبابيك المطعمة الخادمات ذوات الفوط الحمالين الذين يجرون الخزائن شريط السعي الصباحي أحياناً كان شعري يشتعل كعليقة بينما عيناي تغيبان في نفق من القبعات والوجوه الجانبية والأكاليل كان ثوبي يسحب على الردهة الخضراء وأنا لا أدخل كعاشقة بل كفتاة برج حيث كانت الملكات ييبسن عالياً وحيث كان الانتحار تاجاً الإزار، وكوز الماء، وكتاب الصلوات الماء بارد بدون ذكرى العينان تأكلان الوجه الليل ينفرط إلى تكات بطيئة والثواني تنتقل بلا توقف على الأنامل العمر عمر الخشب والوقت ينطفىء في عقد الجسد حتى لحظة سقوط الرأس لم أكن أدخل كعاشقة ولكن على أطراف ثوبي (كنت أحب أرفع رأسي في حلقة، وأتعلق بين الأجراس) (كنت أحب أكون مفرقاً) أمشي على أطراف ثوبي كما لو أمشي على نفسي وأتوقع النسيم يتنفس بصعوبة أيضاً وحين ترن حلقة المفاتيح في وسطي أفكر كم هي طويلة خدمة الليل وأتذكر أنني لم أوقد شمعة على المدخل وأن المماشي، بلا شك، عميقة الآن حين يلتوي عودي - كما عن غير قصد - على الباب ويسقط صدري على صحن تنفجر للحظة حقيبة من الممرات السريعة تسرع عربات البريد وتتفرق الخيول السائبة ويلوح السقاة بصواني الكؤوس على الشرفات للحظة ترتجف شفتي، وربما تطربن كنقطة خمر على الرخام وربما كثقب حديث أتقدم رافعة رأسي ناسية حتى الغياب أين فمي ليس سوى عيني تلمعان كلوزتين مجمرتين وربما تلمعان على قميصي أتفقد عشر شموع على الشمعدان الرئيسي وخمس كؤوس فوق المكتبة ولوحة بثلاثة أوسمة وعشر حراب مشكوكة في الوسط ثلاثة ندوب في تمثال العذراء وثغرة مملوءة شمعاً في برج القوس ... كيف تترقم الأشياء عند كل خطوة عندما تتحول الذاكرة عداداً ......................... ليس سوى نهار ضخم لا يتزحزح .................... لكن من يسمي لي الأشياء التي ضاعت والتي ليس لها في ليل الحسابات سوى عيون مغمضة أشم حافة المائدة حيث أريق على توالي أعوام حساء ونبيذ وشاي كل هذا يشيخ في خلايا الخشب، فلا تبقى سوى رائحة الشيخوخة أشم الأغطية. كيف يسن الغبار؟ هل أجرؤ على أن أستلقي على هذا السرير الذي يعلو بي ليكون لي للحظة عمر الملكات ماذا أفعل حين أجثو تحت قوائم المقعد وأرقد تحت السرير حين تفترس العينان - لا الوجود كله - ولكن حتى الدموع التي نبتت كشوك الأبدية وحين لا يبقى سوى تلك النظرة التي تجوفني من وسطي وتقلبني على الأرض كشمس معكوسة والشعر الذي يطفو فجأة من الأحشاء المظلمة ولكن من يراني هذا العالم يسقط مني بغتة كقلعة في بئر ويتركني مجردة ماذا أرى بموازاة الشمعدانات والتماثيل سوى حبل من الحفر هل أبقى هكذا مسجاة أتنفس ذلك الخلاء؟ هل أبحث عن جرس مفقود بين الحياة والموت أم أنقل نبضي إلى أسلاك مقطوعة ماذا يبقى لي حين يحترق الزغب على جسدي وحين أفرغ كمحارة من حيوانها المرتعد ماذا يبقى لي سوى مكافأة الخادم بينما ترتفع الأيقونة والتماثيل والشمعدانات إلى سماء مثقوبة 12 الانتحار كانت الحقيبة تثقل في يده كلما مشى وعندما صعد أحس بالسلم يطوى وراءه ولم ينظر أضاء الحجرة ورأى شمعة واقفة فتصورها مغروسة في رأسه بعد ذلك شعر أن الحقيبة تثقل بضجة كبيرة كأن مدينة تتكلم فيها طيلة النهار بقي يلف كأنما يبحث عن ثقب في داخله فمن مكان ما كانت تسيل فوضى ونقاش طويل كانت الحنفية في المطبخ أيضاً تتكلم رأى الضوء الأخضر والطريق مفتوحاً للمارة أضاء الأخضر في رأسه رأى الضوء الأحمر وانقطعت الطريق أضاء الأحمر الأحمر الأخضر الأحمر الأخضر الأحمر الأخضر انكسر البلور أغلق النافذة وأطفأ رأسه طيلة النهار كان يشعر أن أشياء تتسرب دون قصد إلى ثيابه وحقيبته كان غالباً ما يلتقط فكرة عن الطريق أو يتناولها من الهواء كان أيضاً يخسر أشياء لا ينتبه لها كثوب ينسل خفية ثم أحس أنه لا يستطيع أن يجمع نظرته من الفضاء وأن أشياء منها تبقى في رمشه ككلمة على طرف اللسان كان النسيم ساخناً والبنايات والمدينة تتتالى لم يكن يتذكر، لكن الأشياء تهب عليه كأنها تخرج من فتحة في الزمن ................. كان يفسح في الطريق لشارع يتقدم من بعيد ولأبواب تلمع فجأة في الظلام ................... كان يسمع من كل جانب غمغمة لشهود يتعرفون عليه .................... كان يمشي في أمس أمس بلون العصر غيمة من غبار كلمات وغبار أفكار تصعد إلى عينيه .... أنهم يتناقشون وهو في السهو يلتقط أطراف ما يقع من أصواتهم ولا يستطيع أن يرفع رأسه من هذا البخار كان يمشي في أمس ...كانوا يتحدثون وكان يغص بالكلام الكلام المهجور وقد فقد نطقه كان يمشي في ذاكرة كأنما يسير في معرض لا يملك فيه شيئاً كان عليه دون جدوى أن يبدأ من تهجئة اسمه ومن الرصيف المقابل لكنه كلما بدأ ضاق حتى بظل قبعته وكلما أحس أن حركاته تسقط وتتكرر وأن عليه أن يمسك نفسه كي يمنع عموده من أن يرن كلما انتبه ويموج في الصدى لم يكن ذلك عارضاً دون شك لم يكن عليه إذن أن يفعل شيئاً كان عليه أن يتسلق إلى طرف الطريق تاركاً وراءه حبلاً من الخطى التي فكها عن قدميه وأن يقف هناك كالصاري (ذلك يذكر ببحر لم يعد قريباً) ويترك المصابيح تظلم بالترتيب خلف كتفيه في الصباح كان ممدداً ونظارتاه محطمتين لكن عينيه كانتا تفوحان بياضاً على الطاولة عدد من جريدة، وكتاب مفتوح زجاجة وكأسان فارغان قرصا منوم رسوم صغيرة على ورقة، ومحاولة لكتابة كلمة بالحرف الكبير وكان على الطاولة أيضاً مسدسه ملمعاً كان حذاءاه مهيئين وقميصه مطوياً وساعته على كرسي كان يرتدي ملابس للنوم والخروج ومن الواضح أنه كان متردداً بين أكثر من أمر حينما أطلق على نفسه على صفحة عبارة ---- ربما ---- لينتشه "الحياة ---- أننا ندعها لخدمنا يعيشونها عنا" كانت الغرفة إجمالاً مرتبة وكان الزمن بطيئاً كذبابة تتسلق الزجاج على الطريق كانت موجة تتدحرج من الطبيب والشرطة والرفاق الشرطة كانوا جد متضايقين لأنه لم يترك لهم شيئاً الطبيب لم يجد دليلاً على مؤامرة الرفاق بدأوا يحاكمونه مع أن انتحاره وصل إلى أوسع الجماهير كانوا يواصلون حديثهم على جثته ويتلون - ربما - من شعره قصيدة عن المستقبل *** جناز لصافي شعيتاني

I

هل يحق لرجل مثلي يتسخ صوته وترج عيناه أن يدثرك بهذه العبارة أن يسجيك في جرن نظرته وفي قاعة الأسئلة. هل يحق له ما دامت المرايا تبتسم تحت التراب والصواني الملمعة تسهو خلف الزجاج والشمعة التي تحوك كمسلة من قصب الغرفة المعلقة تضيء طريق البزاق اللامع كدرب المجرة هذه الإبرة التي ترعى في الحواشي والشراشف والأطراف وتنفش الأحشاء المظلمة لليل الممرات والجزمات الطويلة والقراني حيث تسقط عيناي أحياناً كقطعتي ماء طافيتين هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي أن تغطس على النجوم، وحبال القنب والأسماك أن تجر الفتات والدموع كحبات قمح ناشفة إلى المأوى حيث أسعى كنملة تجوس كلمة، كلمةَ مؤلفاً ضخماً تحت الشمعدان الذي يهز العالم في أرجوحة الضلال المتقاربة مسرعاً بألسنته العشرة كمسلات مسنونة تخيط الأحاديث والكراسي وأعشاش الحشرات، والطيور تعلق حرفاً بحرف. ونقطة بنقطة هذه العين التي تغزل كلسان الشمعة جملة طويلة كغطاء على نقالة الموتى هل يحق لرجل تعوّد من عامين أن يقف في فك الرافعة أن يرى الأبواب المسجاة وأن ينام بين الأبواب المسجاة أن يضع يده على الحلقة الباردة وأن يسمع صوتاً يحبو على الحجر وأن يخطو بدون خوف على النَفَس التي يتلبث في الحفر وأفواه الأنابيب هل يحق لرجل عاش كحية المياه في الأرض وسقطت عليه القبعات والأعشاش الزرق أن يخرج بكنوزه طاسات وحلقات مفاتيح ونظاراتين شاغرتين أن يترك عينيه تحترقان كمسمارين محمرّين أن يترك الفئران تقرض المرايا والزهور تنزح على الزجاج هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي أن يلتف من جديد في عرق البارحة حيث الندى والنقود والملح تلمع في الشعر وعلى الوسادة هل يمكن لرجل مثلي، لامرأة مثلي أن يثير جوقة من المنتحرين أن يشوش الكلمات أن ينام بين الأبواب وأن ينوم الأبواب لكي لا نرى صوتك يقع ويرن كصرة من نحاس والملاعق، والأبواق، والحراب ترن وتغفو وحتى الغبار والدموع تتلألأ ككومة من السيوف والمعدن الأصم تحت الشاهدة

II

المرايا تبتسم تحت التراب الصوت معلق في صنارة سمكة نحاسية الصوت مدفون في ريشه عرق الذهب المنابت البعيدة... البذور البعيدة حيث صف الدمع والسلام البعيد لمنكسي الرأس المنابت البعيدة... البذور البعيدة صف من الطاسات الساخنة والأزرار المنزوعة حيث النساء تحت الأواني المعلقة في حديقة الدمى حيث المطبخ بيت الجسد والأمهات يقعين كأقدام الدلب مشققات بالدموع حين ينزل الصوت عن السارية الصوت المطروق، الصوت المنكّل بالفضة المار حيث تنطفىء الحجرات وتسحب الأبواب حيث تنعقف الأيدي على هيئة الكلمات ولا شيء سوى الماء الذي يجرف العرى والبذور والأعصاب والصنوج والكلمات ليست سوى أزهار نعاس هل يحق لرجل يتكلم بلسان شمعة أن يتبع على طريق البزاق وأقمار القنب والعشب الجاف طريق نوم الحشرات والإيماءات التي تواعد حجراً بحجر وتترك مفتاحاً قديماً مغروساً على مدخل الشاطىء بينما أسمع في الحجرة الرطبة في الحفرة الرطبة احتراق المناشير والكتب والحبر والأعشاب ذات الرائحة هل يحق لرجل مثلي يتكلم بلسان شمعة ويتنفس رائحة الشاي والنعناع تحت الإبطين الساخنين أن يحرك قليلاً في مغلاق العام أن يقترض أياماً أخرى بتلك التي اقتتلت من قبل حين سكتت الساعة على صدره من عامين هل يحق لتلك الإبرة المتعجلة أن تنبش جلده غرزة غرزة للصوت الذي يخاطبنا من أعلى أن يعس في جرار الرماد أن يتدفق مع العيون، والفك الأخضر بينما يقف صوتك كشلال متجمد - ونحن نتلمس كل لحظة كنارات حناجرنا - يقف كنافورة محطمة كلمة تفك وتغلق سحاب العمود الفقري ماسة تنطبق على الحنجرة حجرة مفرغة وأيضاً دخان، دخان أبيض، قفازات بيض، للصمت والذاكرة

III

هل كان ضرورياً أن ندقه في التراب كالبئر أن نغمر الحجر بالمغارة هل كان ضرورياً أن نصغي لخشة الوقت والشرائح على الطاولة بينما يسندونه من ركبتيه المكسورتين إلى المائدة بين شخوص أصحابه ورسومهم وعقد الدمع في لحاهم المجعدة هل كان ضرورياً أن نعود غباراً لنؤنث الأزهار ولنؤنث أيضاً الآنية وفناجين الشاي وطاسة الحساء هل أجول في مرقعتي أقشش الكراسي وأجمع الكسرات أراقص عمود المكنسة والبرتقالة - خداً بخد - وأرطب هيكلي بالبخار الذي يلفني وأنا على مقعدي آناء النوم هوذا جدار ومدفأة وشراب في المطبخ حيث سر الخبز وبيت الجسد هل كان ضرورياً أن نرضع ثانية، من قمر حزيران ونتبادل الكرات في الغابة أن نمشي بيدين منكّلتين وفقرات مطعمة حاملين - حيث نحفى - صرة البذور هل كان علينا أن ننقر على حناجرنا لنجد الغرغرة إياها كل دقيقة بينما نبتعد ويطلع العشب على القضبان الحديدية هل كان ضرورياً أن نراه وفي فمه وردة كحصان مكسور من صدره هل كان ضرورياً أن يهوي في الظلمة حيث لا قرار للذاكرة كقصر يهوي في بحيرة هل نفرط الزهور على كأس الحليب أو المئذنة بينما نكسر الدرع على صدره الساعة على صدره ونخيطه بالدموع هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي أن يرد كلماته إلى الخلف كما يرد شعره أن يسرح الغيوم والهواء إلى الخلف وينثني إلى الوراء كالشعلة وأن يتفرق من منابت خصله كالدخان هل يحق لرجل مثلي، لامرأة مثلي أن أقف بينما يلقى الرجل ذو العين الذهبية شيئاً من وراء كتفي ويمضي هل كان ذلك رنين قطعة ذهبية أم دعوة إلى جوقة للمنتحرين دعوة مضى عليها التاريخ إلى مأدبة للحيتان 948... 1936... 1967... 1900 أدفع العام إلى الخلف حيث أجد الزائر السري نفسه ذا القبعة الرمادية وكأس الكونياك على طرف المطبعة يتناقص مع الزمن رجال بقبعات رمادية كانوا ينتظرونني كل يوم قبل أن أفتح غرفتي لم أكن أجدهم ولكن الأشياء التي لا تزال غريبة من نظراتهم والكأس الناقصة كان عليّ أن أبحث عنهم وهم ينتقلون بين آلاف الغرف كما كان عليّ أن أعرف أين حل الكلام والحمل بين آلاف الخوابي لكن عودة إلى المساء إلى الأمهات إلى الدخان إلى وصلة النسيان وتأتأة الذاكرة حين نشغر تحت نظراتهم وتنكمش الأشياء تحت عيوننا الغريبة أين وصلت الدعوة؟ ومتى بكيت ومتى خرجت الطرق التي كانت مغروسة كالسهام في جسم الطريدة أو كالدلاء في قرارة البئر وها هي تلتف كالحبال على أعناق الخطى إنهم يفخخون الجمل والأسنان تشتبك بالألفاظ وها رأس عبارة يسقط من على الكتف بينما يبقى جذعها معلقاً عندما يصل الزائر السري، ويبدأ الألف الثانية ادعوا الجوقة، والطرائد، والنائحات ورتبوها على السلالم كالعثرات فالساعة تصيح وها هم ينيخون في الساحات أحمال الوقت والريح تطري وجوهنا بذلك القش الذي كان في أعشاشنا ادعوا الجوقة فالاستعارات تصلنا حزماً والكلام الكبير يرحل كقبيلة مهاجرة وسنرى كلمة تدور كمفتاح صدىء في مغالق أخرى وسنلتفت إلى الخلف لنرى أين حلت الروح ما زال السبت يعيد الأحد والرجل يعيد الرجل والدخان يعيد العمر ما زال الفضاء يأتي كخادم وفي فوطته البيضاء يوزع الربيع الساخن، والبذار المفتاح يتجه إلى الشاطىء وعما قليل يحفر في الرمل بينما الأمواج تدفع الأبواب

سيرة ذاتية :
- ولد عام 1945 في قرية شحور، قضاء صور، جنوب لبنان. تتلمذ على يد والده في مدرسة القرية التي يديرها، ثم انتقل إلى المدرسة الجعفرية في صور لاستكمال المرحلة التكميلية حيث لاقى صعوبة في تعلم اللغة الفرنسية، قبل أن ينتقل إلى مدرسة سيدة مشموشة الداخلية من غير أن يحلَّ عقدة لسانه مع الفرنسية. وبعد سنة واحدة غادر هذه المدرسة إلى مصر حيث نال التوجيهية.
- سافر إلى باريس حيث حصل على دبلوم في الأدب العربي. والده محمد زكي بيضون كان كاتباً نشر كتابين، الأول عن إحدى زوجات النبي محمد والثاني عن الرسول برؤية شيعية. كان كلاسيكياً تربّى على العقاد والمازني وأحمد شوقي وغيرهم. تدرّج من موقف ناصري إلى موقف ماركسي قبل أن يعود إلى التدين إثر موت ابنه في الثالثة عشرة من عمره حين دهسته سيارة وهو على دراجته النارية.
- والدته ابنة رجل دين، وكانت أكثر تسلطاً من والده الليبرالي في تعامله مع أولاده، مع ذلك امتلكت حس الدعابة والمرح وعدم الجدية في التدين.
- مارس عباس بيضون العمل الحزبي باكراً. انتسب في السن الثالثة عشرة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي (1958).
- بعد نحو عام ترك البعث وتقرّب من الحزب الشيوعي اللبناني بدافع من زملائه في مدرسة سيدة مشموشة.
- انخرط في حركة القوميين العرب ثم في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين أواخر الستينات، والتي تحولت إلى منظمة العمل الشيوعي. وقد كان أحد مؤسسي هذه المنظمة بداية السبعينات.
- اعتقل من قبل الدولة اللبنانية (1968-1969) ثم من قبل إسرائيل في الثمانينات، وقد كتب هذه التجربة شعرياً.
- بداية الحرب الأهلية عام 1975، انتمى إلى الحزب الشيوعي اللبناني لكنه غادره بعد سنتين. وهكذا تبين له أن عمله السياسي والحزبي لم يكن أكثر من سعي إلى حيازة عائلة كبيرة وبحث عن انتماء مفتقد.
- زاول التدريس في عدد من المدارس والثانويات الرسمية قبل أن يتفرّغ للعمل الصحفي. كتب بداية في "الحرية" ثم "السفير" ثم "الشاهد" القبرصية، و"الشروق" و"الخليج" و"الاتحاد" الإماراتية، "الحياة" اللندنية، "ملحق النهار الأدبي"، ليستقر مدير تحرير مسؤولاً عن القسم الثقافي في جريدة "السفير" منذ عام 1997 إلى اليوم.
أصدر منذ عام 1982 عدداً من الكتب الشعرية: الوقت بجرعات كبيرة"، "صور"، "صيد الأمثال"، "مدافن زجاجية"، "زوّار الشتوة الأولى"، "نقد الألم"، "حجرات"، "خلاء هذا القدح"، "أشقاء ندمنا"، "لمريض هو الأمل"، "لفظ في البرد"، "الجسد بلا معلم"، "شجرة تشبه حطاباً" و"ب ب ب"، إضافة إلى رواية واحدة بعنوان "تحليل دم". كما صدرت مختارات من مقالاته الصحفية في كتاب بعنوان "ربما، قليلاً، على الأرجح".

تُرجمت مختارات من مجموعاته وكتب له إلى الفرنسية، الإيطالية، الإنكليزية، الألمانية وغيرها. عُرف عنه طاقته وقدرته على نقد الشعر الذي مارسه في الصفحات الثقافية من غير أن يحترفه في كتب، إضافة إلى مقالاته السياسية التي رافقته في كل مراحل حياته حتى الآن. كتب شعراً سياسياً وربما تحريضياً في بداياته الأولى التي لم ينشر منها شيئاً، وقد غنى له مارسيل خليفة من تلك الفترة قصيدة "يا علي" التي كتبها في علي شعيب.

أسّس عملياً لحساسية شعرية جديدة تقوم على القسوة والجفاف والتحلل الجسدي وامتداح الفضلات، وإن كان كتب الحب والسجن والانتحار والمدن بطريقته الخاصة. شارك في العديد من المؤتمرات والمهرجانات العربية والعالمية. تزوّج وطلق وأنجب ابناً شاعراً وابنة شاعرة هما زكي وبانة.

يتبع ...