إذا فكرّ الشاعر السّوري بالحزن, تراهُ يفكّر, لا محالة, بكآبة محمد الماغوط, ويجد نفسه وجهاً لوجه أمام سيل من الصور "الحزينة" التي لا يمكن الإفلات من ترنيمها الحزين. فعبارة الماغوط القائمة على نبرة رثائية واضحة, والتي تتقنّع بالتقريرية لتصطاد من الشعر أعذبه, أصبحت جزءاً من مخيلة القصيدة العربية, بل ومن ذاكرتها أيضاً. الحزن كما شخّصه الماغوط في ديوانه "حزن في ضوء القمر" قبل ثلاثين عاماً, يعود الى الظهور, وإن بإيقاعات مختلفة, في ديوان عادل محمود الجديد "حزن معصوم عن الخطأ" الصادر عن منشورات وزارة الثقافة السورية (2003). هذا الحزن يعزّز الرغبة في التواصل وليس القطيعة, بين جيلين شعريين, قلّما اختلفا, جوهرياً, في الرؤية الشعرية, بحسب رأيي. فالكتابة عن "موضوع" بلغة إجرائية واضحة, واعتماد المباشرة في علاقة الدال بالمدلول, وتناول قضايا "كبرى" يحضرُ فيها الهمّ الفردي بدرجة أقلّ, هي من السمات التي أفرزتها قصيدة "الكآبة" الماغوطية, والتي ظلت سارية المفعول على مدى جيلين أو أكثر. بل إن ما يُسمى بتيار القصيدة الشفوية اليوم ليس سوى امتداد واثق لهذا التقليد على رغم وهم الانتماء إلى شارع مختلف وحبيبة مختلفة ووطن مختلف.
لا يخرج عادل محمود عن دائرة هذا التقليد "الشفوي" كثيراً, فهمومه ليست شخصية وهواجسه الشعرية لا تندمج عضوياً في دائرة الهمّ الذاتي, إلا في قصائد قليلة. وكأنّ خروج قصيدة السبعينات والثمانينات عن منظومة الرواد الشعرية لم يتعدّ حدود الشكل, ولم يخترق أو يتجاوز, إلا في أمثلة قليلة (أدونيس مثلاً), جوهرَ معاييرها الرصينة. لم يكن الوزن هو المشكلة, فثمة قصائد نثر "موزونة" على مستوى الرؤية الأسلوبية, تحكمها آليات "أخلاقية" تتمثّل في رؤية سكونية ثابتة لوظيفة اللغة الشعرية, الساعية إلى خدمة فكرة بعينها, أو تجسيد رؤيا نبوية تبشيرية للعالم.
والحزن الماغوطي, الذي نسمع صداه يتردّد في ديوان عادل محمود, هو سمة من سمات هذا "التواصل" الذي ما انفكّ يرخي بظلاله على شعراء السبعينات والثمانينات, وبلغ ذروته في قصيدة رياض صالح الحسين, أحد أهم أحفاد الماغوط الشعريين. والحزن الماغوطي في جوهره, عاطفة أيديولوجية, قائمة على شعور "طهراني" بانحلال المدينة الفاضلة, وتدهور قيم رعوية خالصة. فثمة الطفولة التي ابتعدت, والحبيبة التي هجرت, والوطن الذي صار منفى, وثمة أيضاً "الذات" المحاصرة بسلطات متعددة, ثقافية واجتماعية وسياسية. وتلك هواجس شعرية "جاهزة" ما تفتأ تتكرر في القصيدة التي تمثل هذا التقليد الشعري.
إلى هذا التقليد تنتمي قصائد عادل محمود, وما حزنه "المعصوم عن الخطأ" سوى علامة على الامتثال لهذا الخطاب. فالبطل المهيمن على قصائد الشاعر شخصية مهزومة, تعيش شعوراً عميقاً بالفـقدان, لأنّ العــالم حولها ينهار ويتداعى متحولاً إلى طلل. هنا يتحوّل الشاعر إلى مؤبنٍ, والقصيدة إلى رثائية مطولة.
في القصيدة الأولى يختار الشاعر "طفولته" موضوعاً للرثاء. في قصيدة بعنوان "ذكراها" حيث يتكرر فعل الماضي "كان" بصفته استراتيجية استرجاع وتذكّر محورية: "كانت ترتب لي دفاتري/ تبعثر الحبر عليها/ وتخطئ في رسم الخرائط/ وكنتُ في كلّ عام/ أتركها خلفي... أمزّقُ لها وأمامها دفاترها" (ص7). وفي قصيدة "الغريب" تشخيص لحال انفصام يعيشها المتكلم مع نفسه, بعدما فقد شعوره بالانتماء, يوزّعُه "التناثر اللغوي الحكيم/ على جملٍ تُسمى الشوارع" ص (17). وفي قصيدة "الصديق" عودة واضحة إلى غرفة بملايين الجدران, حيث يختار الشاعر جداراً واحداً يسمّيه "الصديق", هذا "الأبيض/ الشاسع/ الخالد/ الصامت في بيتي" (ص20). وفي قصيدة "البدائي" رثاء مضمر لانحلال قيم "القبيلة" حيث استحالة التواصل مع مفردات الحضارة الحديثة, فالمتكلم لم يعد كما كان: "يبتسم /كالمضيف البدوي/ لكل عابرٍ... جميل" وعيناه "لم تعودا وديعتين" (ص23). من هنا ضرورة ارتداء القناع والنظر إلى العالم عبر عدسات مستعارة. وفي قصيدة طويلة بعنوان "عاديات" يكرّس عادل محمود صفات البطل الماغوطي, هذا المتسكّع, المتشرّد, الباحث عن اللذة والمأوى, في عالم يزداد عنفاً وقسوةً : "أنا مثل غيري/ لا أعودُ إلى البيت/ في آخر الليل/ محملاً بالفراشات..." (ص 74). كما أنهّ الطفل الباحث عن حضن دافئ, أو عن مهد يهدهد طفولته الضائعة: "زرتكِ مرةً/ كغريب يبحث عن مأوى/ ومرةً كصديقٍ/ يفتّش عن ضائع" (ص 82). وفي قصيدة طويلة أخرى بعنوان "القصيدة الزرقاء" يشعر المتكلم بفداحة الهزيمة, على المستويين العامّ والخاص, فيتقوقع على نفسه, ويبدأ يهرم في المرايا, أو يشيخ على عتبات "اللغة" الحكيمة, مقدماً النصح للمبتدئين البدائيين: "ما الذي نفعله نحن/ شعوب الانتظار البدوي/ غير أن نستذكر صرخة الجغرافيا/ لرحالة يموتون/ ومحاربين يهزمون/ ومدائن انتقلت من يد إلى يد؟" (ص 106). ويختتم الشاعر ديوانه بقصيدة حب طويلة سماها "القصيدة المائلة", لا نراها تميل كثيراً عن النموذج الماغوطي في تشخيصها حالاً أيروتيكية ملتبسة, تقوم على الحرمان بمعناه الفرويدي, حيث العاشق المهجور والأنثى المستحيلة: "ليس زماناً للحب/ وإن كان فيه امرأة من سنونو" (ص 152).
فالحب ينتهي نهايةً مأسوية نمطيةً, كأنما بفعل نبوءة إغريقية غامضة, حيث دائماً "تنفرطُ الحبكةُ/ ويرتخي النسيجُ/ نعودُ إلى مغزل النسيان/ فيما جسدٌ على أهبة الدفء/ يغزو أطرافه الصقيع" (ص 179).
إن امتثال عادل محمود لنموذج شعري سابق يتأتى من وعيه الدفين بأنّ جيله, جيل السبعينات, بأسمائه البارزة كبندر عبدالحميد ونزيه أبو عفش ومنذر المصري وغيرهم, يظلّ الأقدر على قراءة اللحظة الراهنة. وما استراتيجيات الكتابة التي يصفها الشعراء الجدد بالتقليدية سوى معايير "ذهبية", ربما, يجب الحفاظ عليها, في وقتٍ تحولت القصيدة "الحديثة" إلى تمرين ممل في اللعب اللغوي, وربما, هنا بالذات, تكمن الفضيلة الكبرى لهذا الامتثال, تماماً كما في كلّ جريمة.
الحياة
2004/08/1
أقرأ أيضا: