الشاعر البحريني قاسم حداد: رغم الوهج الثائر في سديم أوراقه إلا أنه منطوٍ على ذاته، ويتفجعُ بصوتٍ عالٍ خارج نصوصه، كما لو أن أحداً لم يسمعه من قبل أو لم يره أيضاً، بعد كل إنجازاته العظيمة وإخراج مشروعه/حلمه الإبداعيّ الكوني عبر كتاب(طرفة بن الوردة) يأتينا مجرّداً من الاسم، من المكان، من الأزمنة، ويبقى حليفاً لإنسانيته المعذّبة وتصوراته المقلوبة على رأس المرايا، فهو …. يُلح بالسؤال والمساءلة’ من فينا يقوى على الزعم أنه لم يمت بعد؟’ وسوف يجد القارئ شيئا من ملامح قاسم حداد التي لم يعتدها في حواراته الأخرى.
*(سماءُ عليلة) رغم جمال عنوانك إلا أنه يجترح الخسارات وينزف بألآم الكتابة… ألهذا الحد أضناك الزمن وخذلك العالم؟!
* أضناني وخذلني .. حدّ الهزيمة. الجمال الذي تشير إليه في العنوان هو بمثابة المنسيات المصقولة بمنادب الروح.
*بدأت أولى شذراتك بمقطع ‘لا أذهب للمنفى إنه هنا’ حتى باتت أدوات النفي رفيقة لك بحجم هذا القلق الذي يطفو بعين القارئ ؛ لم كل هذا؟
* المنفى كان فينا قبل أن يحلّ أي شيء فينا، أحمله أينما ذهبت، شريطة أن نرى إلى المنفى الأعمق، حيث المكان لم يعد آمناً ولا الزمان.
*تترنح بين شعرية باذخة وبين جمل إنشائية قد لا تضيف شيئاً لجمالك كشاعر، ما سر هذا الحشد؟
*لا سرّ في الأمر. هذا هو الكائن في طبيعته. يمتص الحشود وينأى عنها. كائنٌ يحلم ويصرخ ويطرح الصوت المذبوح. في بعض الغناء ضربٌ من الموت. هل أنا الموت.
*حالة البؤس عميقة في كتابك كما لو أنها ‘مقتل’ هل أدركت هزائمك؟
* نعم، منذ زمنٍ طويل. أدركتني الهزائم. لكنني وجدت في الاعتراف بالهزيمة إنقاذاً لي من الاستسلام لها. مهزومٌ في خارجي، غير أنَّ في داخلي جذوة من القوة لا تهدأ. أحاول أن أكون كذلك. البؤس ليس في الكتاب، عندما تصبح الحياة قاتلة للإنسان، يصبح النص تعويذة فحسب.
*ثمة حنين طاغ للشقاوة والتجربة والتمرين على الأخطاء؛ هل اكتفيت بمنجزك القديم ولم تعد تراهن على اسمك باعتبار تجاوزه؟
* لم أراهن على (الاسم) في أي وقت، حلمتُ بالفعل. وإذا حسبنا ‘الشقاوة’ تجربة وتمريناً على الموت، فسوف يتسنى لنا الإقتراب من غموض العملية الإبداعية. أولا : الإبداع (إذا كان كذلك) لا يصير قديماً. ثانياً: قلتُ مرة ‘في الفن، القناعة كنزٌ لا ينفع′. فأنا لا أفهم كيف يكتفي الشاعر بشيئ دون الموت.
*جاء كتابك (سماءٌ عليلة) بعد مشروعك الإبداعي الضخم (طرفة ابن الوردة)؛ هل نعتبره استراحة محارب؟!
* لا أفهم كيف يمكن اعتبار (سماء عليلة) استراحة بأي معنى، فما بالك استراحة للمحارب. هل كان كتاب (الغزالة يوم الأحد)- وهو شذرات أيضاً- استراحة هو الآخر، وهو الذي كتب ونشر قبل (طرفة بن الوردة)؟ ألا يتوجب أن تعرف بأن (سماء عليلة) اُنجزَ في فترة زمنية كُتبَ خلالها (مكابدات الأمل) و(النهايات تنأى) و(يوميات بيت هاينريش بول) و(أيها الفحم يا سيدي/ دفاتر فان غوخ) و(ثلاثون بحراً للغرق)، بعض هذه الكتب نشر وبعضها قيد الطبع؟ ألا ينبغي أن يُقرأ (سماء عليلة) في هذا السياق المتنوع، الذي لا يزعم الحرب والقتال، لكنه لا يقعد عنهما ولا يعتزلهما؟ انني أسالك فقط.
* يبدو أنك تخلصت من اشكالية التصنيف حين وضعت كلمة شذرات على غلافك؛ ما مدى ولاؤك للنص النثري مع كثرة اللبس حول دخول من لا يفقهون الكتابة تحت خياراته الكثيرة؟
* (يبدو) ؟!!!. لقد كنتُ أضع كلمة (شعر) في كتبي القديمة، ووضعنا، مع أمين صالح، كلمة (نص) على غلاف كتاب (الجواشن)، وبعد أن توضحتْ التجربة وتكرَّست المفاهيم استغنينا عن التوصيف. مولعٌ بالتجارب والمغامرات صحيح، لكنني لا أغفل عن قناديل الطريق. من جهة أخرى، أنا لستُ مؤمناً بالولاء لأي ضربٍ من أشكال التعبير الفني (تقنياً). وأنت تعلم خصوصاً بأنني خارجٌ عن الولايات وفقهائها في المطلق. فعندي، يستوي الذين يفقهون والذين لا يفقهون عندما يتعلق الأمر بالحب والكتابة. الحب هو الذي يحرّر الكتابة.
* عباراتك أقرب لتغريدات تويتر، هل ثمة هامش إليكتروني أحالك لغواية الاختصار؟
* لا أعرف فعلاَ، لكنني استطيع أن أقترح عليك ملاحظة أنني كنت أكتب الشذرة قبل انطلاق تغريدات ‘تويتر’ بزمن بعيد وكتب سابقة. غير أنني أشعر الآن بجماليات الفضاء النوعي في ‘تويتر’، فيما أرقبُ الشذرات تحلق مثل فراشات نحو اللهب الإنساني الحرّ وغير المحدود.
* تقترب من الحكمة إلى حد ما ولكنك لا تدعيها، ألا تلهمك قراءة الأحداث؟
* وأنت، ألم تحضر الأحداث فيما تقرأ (سماء عليلة)، ألم تلهمك أنت أيضاَ. أخشى أن يكون سؤالك جواباً.
* لديك تناص مع مقولات مثل ( أن تقول رايك لا أن تفرضه) تقترب من مقولة (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) أهو من باب المجاراة أم المعارضة أو مجرد تخاطر؟!
* لا أعرف. حاولت أن أطلق نزفي بحريةٍ ما، فإذا امتزج دمي بجراح الآخرين، فربما زادني هذا حياة.
* سأعيد سؤالاً من أسئلتك في الكتاب لأراك / من خلالك… (هل حدث أنك مت ذات مرة؟)!
* كثيراً، بل انني أموت دائماً، وأخشى أنني قد متّ فعلاً دون أن أدرك ذلك. ألم يقل علي بن أبي طالب : ‘الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا’؟ ها نحن كنا نظن أننا في النوم ننتظر انتباهتنا، فإذا بنا موتى خالصين. من فينا يقوى على الزعم أنه لم يمت بعد؟.
* تقول: ‘الليل لوحدتك، لا يستحق الآخرون منك أكثر من نهار كامل’، بصراحة هل تكتفي بالليل مع أنك تصارع الأزمنة في نصوصك وتقاتل من أجل استعادتها؟!
* من يذهب لترجمة الليل سوف يضع نفسه في مهب الفيزياء الغامضة. ثم، من قال أنني أقاتل من أجل استعادة الأزمنة، على العكس، إنني أسعى للتحرر منها فحسب.
***
من الكتاب:
1
لا أذهبُ إلى المنفى،
إنه هنا .
2
جثةٌحاكمة أكثر ضراوة من وحشٍ محكوم.
3
في النوم، حلمُكَ يرى الحقيقة،
تستيقظُ فتسقط في الواقع.
4
سياسيون يرهبونك باسم الشعب،
دينيون يرهبونك باسم الله.
5
الحجر الكريم، لا أصل له.
6
الموت شرط الحياة.
7
السياسي يحتاج مؤيدين،
رجل الدين يريد عابدين.
8
يسافر ، ينقل بيته في داخله.
9
الأحصنة أراجيحُ الكبار،
ومهدُ الطفل لا يكبر معه.
10
بلا جدوى، البحث عن جدوى.
11
الطفل، لم يعد يثق في مواثيقهم.
12
تندب حظك في الوقت الذي يتوجب
أن تنتبه لفرصتك وهي تفوتك.
13
بالكلام الحميم يمكنك أن تصقل القلب،
ففي المحادثة تحديث للحب،
وبالصمت تصدأ المشاعر.
14
تباً لهذا الليل،
إنه لا يكفي حتى وشاحاً لأحلامي.
15
الباب للفتح، فهو ليس جداراً لتكسره.
******
----------------------
القدس العربي- May 8, 2013