بهذا المعنى اسْتَقْبَلْتُ رحيلَ الكاتب والمفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي. جُرحٌ آخر ينضافُ لتلك الجراح التي لا تفتأ تأتينا دون سابق إنذار، فحتى حين عَلِمْتُ بمرض الخطيبي، وهذا ما يَحْدُثُ لي مع مَنْ أُحِبُّهُم، وأعْتَزُّ بصداقتهم، أعني صداقة المعرفة والتَّعَلُّم. فأنا لم أيأس، ولم أتصوَّر أن الموت، سيكون آخر رَمَقِ هذا الصديق الهادئ، المُتَواضعِ، وأكتفي، في حالة الخطيبي بالتواضُع المعرفي، الذي باتَ اليوم من الأمور التي لا يمكن الاطمئنان لها، لدى الكثيرين ممن شَاخُُوا اليومَ، وباتَ وَهْمُ الريادة، أو السَّبْق هو ما به يَحْتَجُّون على غيرهم، دون احْتِسَاب القيمة، في النص، كما في الفكر. لا ينتمي الخطيبي لجيل مُحَدَّد، أو هكذا دائماً اعْتَبَرْتُهُ، فهو من مَشَّائِي المعرفة، والكتابة. لم يكُن في الرؤية، وفي طريقة التفكير، يَسْتَقِرُ عند شَكْلٍٍ، أو طريقة ثابتةٍ، فطريقتُه في النظر للأشياء كانت أكثر انْشراحاً، فهو دائمُ التَّرَحُّل بين حقول المعرفة المُختلفة. كانَ الخطيبي يَجُوبُ كُلَّ الأراضي دون حَرَجٍ، وكانت خطواتُهُ، مَحْسُوبَة، لأنه لم يكن يُقْدِم على أي مشروع، إلاَّ بعد أن يكون قد سَبَرَ كُلّ تفاصيله، وخاضَ أراضيه بما يكفي من خُبْزِ وماءٍ.
فهو جَوَّابُ أراضٍ؛ لا فرقَ بين ثقافةِ اليَوْمِيِّ، وما يجري في أَلْسِنَةِ الناس من كلام، كثيراً ما تبدَّى، في حقل المعرفة غير ذا قيمة، وبين ما يأتي مِنْ معرفة الآخر البعيد عَنَّا في جغرافيته، اليابان مثلاً، وما قد يكون أحد مكونات المعرفة في ثقافتنا القديمة. الفرقُ يَحْدُثُ عند الخطيبي، في طريقة قراءة هذه الثقافات، أو العلامات، وفي مختلف التأويلات، أو اللغات التي تَنْطِقُ بها.
لا مُشْكلةَ في اختلاف الألْسُنِ، وفي تَبَايُنَاتِ تعبيراتها، بل الأمر، هنا، في وضع الخطيبي، هو ما تَشِي به هذه الألْسُن، وكيف تُزاوِلُ معرفتها، وطبيعة الرؤية التي تحْكُمُ هذه التعبيرات. الِّلسَانُ ليس عَقَبَة، فهو وسيلة تعبير، وهو حامل دلالات، وتأويلاتُه تَكْفِي لِفَضْحِ ما يُقيم في المعرفة الإنسانية من اختلافاتٍ، ومن صَداقاتٍ، في رُؤية الأشياء، وفي قولها.
لم يكن الخطيبي نَسَقِياً، فهو، بقدر حِرْصِهِ على الدِّقَّة في النظر إلى العلامات، وفي قراءتها، بقدر ما كانَ يُتيحُ لِيَدِهِ أن تَجُوبَ اللغةَ بطريقةٍ، تجعل طريقتَهُ في التعبير تَخُصُّهُ هو، وليست استعارةً، أو ترجمةً، مفضوحَةً، من لِسانِ الآخر الذي كَتَبَ الخطيبي بِلِسَانِهِ.
ليس من السهل أن تَتَمَلَّكَ اليدُ توقيعَها الشخصي، أو جُرْحَها الشخصي، وهي تُزاوِلُ لِساناً غير لِسانها، فهذا أمرٌ يحتاجُ لمن يكون تَدرَّبَ على معرفة ما يعنيه الوَشْم، في ثقافته، وفي تاريخ معرفةٍ، جاءتْ من قَديم المعرفة.
حين نَلُوذُ بالآخر، لنتساءلَ، في ضوء معرفته، أو ما وَصَلَ إليه من نتائج في مجال عَمَلِه، لا ينبغي أن يصير هذا الآخر هو العصا التي بها نقود معرفَتَنا. في وَضْعٍ كهذا يصير الآخر هو الحاضر، هو مَنْ يتكلم نيابةً عنا، ونحنُ نبقى، في صُلب كلامه، مجرد صَدَى، ليس أكثر، أو قطيعاً بالأحرى. الخطيبي فَعَلَ عكس هذا. هو مَنْ جعلَ الآخر يأتي إلى أرضه، وهو من فَتَح الطُّرُقَ الأولى في أكثر من أرضٍ، وَجَابَها، بٍسَيْرٍ جَديرٍ بجَسارته.
سعدتُ كثيراً، لصدور أعمال الخطيبي عن منشورات الاختلاف الفرنسية، وسعدتُ أكثر، عندما أقدمت دار الجمل على طبع بعض أهم أعماله، وهو ما سَيُتِيحُ لغير المغاربة، أن يتَعَرَّفوا على كاتب، ربما ما زالوا يجهلون قيمتَه، وليسوا على علم بطريقته في اقْتِفاء النصوص، والعلامات، وفي اختبار ما يختبئ خلفَها من دلالات، أو لُغاتٍ بالأحرى.
إن الخطيبي، اليوم هو أحد رموز الفكر الحداثي، وهو من الحداثيين الذين لم تَرْسُ الحداثة عندهم في أرض مُحدَّدة. الحداثة عند الخطيبي، هي مَشْيٌ لا يفتأ يُغير إيقاعاتِه.
لم يطمئن الخطيبي لأرضٍ واحدة، فهو زاولَ المعرفة في أقصى تُخومِها، وكان دائم التَّرحُّل. لكن من يقرأ أعماله، يجدُ توقيع يَدِهِ، وهي تَشِي بارتعاشاتِ صَوْتِهِ، بذبذباتِ لسانٍ، لا يُطلق الكلام على عَوَاهِنِهِ، فهو يَزِنُ الكلمةَ، بما تُفْضي إليه؛ في الشِّعر، كما في الرواية، وفي ما قد تَؤُولُ إليه مِن مصائر، حين تمرُّ عبر ارتعاشاتِ فُرُوجِ يَدِهِ الجَرِيحَة.
القدس
23/03/2009