صلاح بوسريف
(المغرب)

[أ]

صلاح بوسريفمِنْ جِهاتٍ غير معلُومة يأتي النِّداءُ. لا مسافَة بين النَّظر والمُمارَسَة. أنْ يأتي النِّداءُ شِعراً، فهذا نوعٌ من تَمَثُّل النِّداء، بالاستجابَة لهُ، وفق تَصّوُّرٍ يكونُ أساسَ مشروعِ الشَّاعرِ، أوْ ما يَصْبُو إلى اختبارهِ، كأُفُقٍ لِتَصَوُّرٍ، لا يمكنُ أن يَحْدُثَ الشِّعر أو يكونَ، بدونه. لا نكتُبُ مِنْ فَرَاغٍ. المعرفَةُ شَـرطُ الكِتابَـةِ. حينَ نكتُبُ بالبديهةِ وَحْـدَها، أو بالاستجابَة المُسْتَسْلِمَةِ لِكُلِّ ما يأتينا، دونَ النَّظر فيه، و اختباره في ضوء ما نَبْتَنِي به مشروعنا، أو رُؤيتنا، نَكُونَ أدَاةً، تَكْتُبُ بالإملاءِ، لا كتابَة، تَحْدُثُ بالعَناء.

أن نُعانِي الكتابَةَ، معناهُ، ألاَّ نقبَلَ بالمُتَعَالِياتِ. أن نَخْرُجَ مِنَ العالَمِ لِنَرَاهُ مِنْ غير الزَّاوِيَةِ التي منها يأتينا بِحُكْمِ العادَةِ. الحَرَكَةُ الدَّائِبَةُ، التَّصَيُّرُ و الدُّوارُ. أعني تغيير المنظور، وفقَ هذا القَلَق الذي يُصاحِبُنا، هو الكفيل بوضْعِنا في مُفْتَرَقِ النِّداء، لا في مُعْتَرَكِهِ، أو بالسَّيْرِ في تُرابِهِ، كما لَوْ أنَّ يَدَنا وَرَقَة تلْعَبُ بها الرِّياحُ، و تَقُودُها في كُلِّ الاتَّجاهات، لاَ مَعلُوم و لاَ مَجهُول. السَّيْرُ الأعمى لا غير.

الشِّعرُ اليَوْمَ غَيَّرَ معْلُومَهُ. المجْهولُ هو ما يقُودُهُ. ليس المجهول هنا، سَيْر صَوْبَ العَمَاء. إنَّهُ تلك الشُّقوق التي تُناهِزُ البَصَرَ، و تَسْتَدْرِجُهُ نحو مُمكناتٍ، لا أحَدَ كانَ مِنْ قبلُ قادِراً على الذَّهابِ إليها. كان الشَّعرُ، هو القصيدة. لا شيء مِنْ قبلُ، و لا مِن بَعدُ. التالي، ليس سوى استجابَةٍ لما سبق. الأوَّلُ، هو الأصلُ، وغيرُهُ الصَّدَى. أنْ نكونَ، يعني أن نبحثَ عن أصلٍ نختبئ خَلْفَهُ. غَيْرُ هذا لا يُفْضِي إلى شيء.

المعنى هنا، أن نَكُونَ مثل الأعمى الذي لا يَسْتَبيحُ الظَّلامَ إلاَّ بِعَصاهُ. ما يَقُودُهُ هو الآلَة، و ليس يَدَهُ، وهي تَخوضُ مجهُولات ظلامِها.

النِّداءُ القادِمُ مِنْ غيْرِ ما لا نَعْلَمُهُ مِنَ الجهات، أمْرٌ لا نُنْكِرُهُ، دَبْدَباتٌ تُحْدِثُ في الجَسَدِ نَشْوَةً، أو ما يَفُوقُها. إذْنٌ بالبَدْءِ. لَمْعَةٌ، أو هَبَّةٌ تَسْرِي في كُلِّ مَسامِّ الجسَدِ. تَعْتَرِيهِ، وتُضاعِف قَلَقَهُ. أكثر مِمَّا به شّخَّصَ المتنبي حُمَّاهُ. يُوشِكُ الأمْرُ أن يَصيرَ عَصْفاً. ما العَصْفُ إذن.. إنها مكائـدُ النّـِداء، التي حين نَخْتَبِرُ جَسَـارَتَها، نتعلَّمُ كيفَ نَصْبُو بها إلى ما نُريدُهُ، ما يشْغَلُنا، ما نُفَكِّرُ فيه، وهنا بالذات، في هذا المُنعطفِ، يَدُنا هي التي تقودُنا، تُبادرُ، بلا تَرَدُّد، إلى كتابَة المُختَلِفِ، وإلى إعـادَةِ كتابة العالَمِ، و ليس استعادَتَهُ.
العالَمُ حينَ يَصيرُ مِلءَ اليَدِ، لا في ما هو قائم.

مفهومنا للشعر، للكتابة:

الشِّعر كما نَذْهَبُ إليه، لا كما يَفِدُ إلينا. بعيداً عن القصيدة، فـي ما هو أوسَـع منها و أكبـر، نعيدُ كتابَة الشِّعْـر، و نحنُ في مجهولاتِه نُقيمُ. القصيدة هي المعلُوم. ما كُتِبَ دُفْعَةً وَاحِدَةً و انْتَهى. أُغْلِقَتْ نَوافِذُهُ. لا شُقوق، ولا تَصَدُّعات. المُكتَمِل، والنِّهائِي. هذه هي القصيدَة، كما ما تَزالُ تُقيمُ في كثير من النِّداءاتِ التي لَمْ تَعِ مَكائِـدِ النِّداء. عَصا الأعْمى لا يَدهُ، هذه هي وَضْعِيَةُ الشِّعر اليوم، حتى لدى مَنْ اتِّخَذُوا مِنَ الحَداثة، أرضاً، دونَ أن يُرَاقِبُوا الصَّيْرُورَةَ، فاسْتَبَدَ بهمُ المُكْتَمِلُ، والمُنْتَهِي، و صارَ الشِّعْرُ عندَهُم عادَةً و عُرْفاً، لا سَيْراً، و انْشِراحاً.أليسَ مُكْتَمِل الحداثة، ومُغْلَقها، أشَدّ فَتْكاً بالشِّعْر مِن مُغْلَق القَصيدة، وماضيها مُجَرَّد سُؤال.

الشِّعْرُ، في ما نَذهَبُ إليه هنا، كما في كتاباتنا السَّابقة، هو أُفُقٌ، لا يَفْتَاُ يَفْتَحُ جُرْحَهُ دونَ تَوَقُّف. كُلُّ المُمْكِنات، ليس في الرُّؤية فقط، بل في الشَّكْل أيضاً، هي أرْضٌ، لا يَتَرَدَّدُ الشِّعرُ في خَوْضِ مَجَاهِلِها. بكُلِّ الشُّقوق والتَّصّدُّعات، بما لمْ يَكُن مُتَاحاً من قبل.

السَّيْرُ في الطُّرُقِ المُسْتَعْصِيَةِ، في المُنْعَرَجَات، وما ليسَ سَيْراً في خَطٍّ مُسْتَقيم. هذا هو الرِّهانُ الذي تَخُوضُه الكتابة. يَخُوضُهُ الشِّعرُ، وهو يتماهى مع الكتابَةِ، و لا يترُكُ للِصَّوتِ أنْ يصيرَ سَيِّداً.

[ب]

حينَ نُواظِبُ الشِّعْرَ، فنحنُ نُوَاظِبُهُ في صَيْرُورتِهِ، في مُخْتَلَفِ التَّلْوِينَاتِ التي يصيرُ عليها الشَّكلُ. الصَّفْحَةُ مثلاً، هيَ فضاءٌ، لا يُفْضِي إلى غيرِهِ. لا وُجُودَ

للِشَّبِيهِ، لِلْوَاحِدِ الذي يُكَرِّر نفسَهُ. النَّهْرُ الذي يُغَيِّر مَاءَهُ، هذا هو ما تَجُرُّنا إليه الكتابَة، لأنَّها لا تَعْرِفُ الهُدْنَةَ، أو الاستقرار، فهي اسْتِمْرَار. الأصُولُ، وفق هذا المنظور، تُصبحُ في المَهَبِّ. ها نحنُ نعودُ إلى العَصْفِ ثانيةً. الكِتابَةُ تستدعي مفهومَاتِها، و لا تتهاوَنُ حينَ يتعلَّقُ الأمْرُ بالمُراجَعة، أو بإعادَة النَّظر في الأساسات. لا شيءَ يَصْمُدُ أمامَ هذا النوع من المُراجعة النقدية، التي هي وَحْدَها الكفيلَة بوضْعِ الماضي في محَكِّ الصيرورةَ، أو في مَهَبِّها بالأحرى.منْ يَتَحَدَّثون عن مستقبل الشِّعر، ينسونَ أنَّ الشِّعْرَ يأتي من المستقبل. لاَ مَاضِيَ للِشِّعر. الشِّعْرُ إقامَةٌ في العَراء. فهو يُؤجِّلُ قَارئَهُ، و لاَ يَتَعَجَّلُهُ. يُعِيدُ تربيَتَهُ. لأنَّ مَكانَ النَّداء ليسَ واحِداً.

الآتِي مِنَ الماضِي، يَفْتَقِرُ لِبُعدِ النَّظر. بعكس، مَنْ يَفْتَحُ شُرُفاتِهِ على تِلْكَ النِّداءَات القَصِيَّةِ، النَّائِيَةِ، على ما لاَ يَطَالُهُ البَصَر، بل يَصْبُو إليه. مُستقبلُ الشِّعْرُ مَوْجودٌ في اختياراتِهِ، في ما يقترحُه من أشكالَ، وبرامِجَ عمل. في استراتيجياتِه الجديدة، أو بلغة هايدغر، في تلك الطُّرُق التي يَفْتَحُها على مجْهولاتٍ، لا مَعْلُومَ لها.

(*) مقدمة لكتاب يصدر قريباً عن دار الثقافة للنشر و التوزيع،
عنوان المقدمة ' مكائد النداء '، أما الكتاب فيحمل نفس عنوان النص.

القدس العربي
09/02/2009