" a une forme libre" Le Feu
H.Murakami
[1]
في كُتُب " تاريخ الأدب العربي "، ألِفْنا أن نقرأ تاريخ الأدب مَحْصُوراً في جغرافيات مُحَدَّدة. نادراً ما كانت تَتَّسِع بعض هذه الكُتُب لغير هذه الأمكنة، لِتَدُلَّ على تَسْمِيَتِها، و لو بشكل نسبي.
في التَّسْمِيَةِ ما يَدُلُّ على التَّعميم، ليس لأنَّ هذا التاريخ هو تاريخ العرب الأدبي، بل لأن في التَّسْمِيَة ما يُخفي نوايا أصحابها. فـ " الأدب العربي " أو " الأدب عند العرب "، كان لا يأتي إلا من هذه الجغرافيات، التي ما تزال هي نموذج المعرفة عند العرب، أو ما يُنْتِج الدَّلالات، ويَحُثُّ على اسْتِنْفَار الخيال، وابِتِداع أشكال الكتابات المُختَلِفَة، في الشعر كما في السَّرد.
[2]
لم يتغيَّـر هذا الخطاب إلا بصورةٍ نسبية. ما زال " الأدب العربي "، فـي نفس الأمكنـة، لم يبـرحها، منـذ لحظات التأليف الأولى، فـي القـرن التاسع عشر، وكـأن لا شـيء حَـدَثَ فـي طبيعة العلاقـة بيـن "المراكـز" و "محيطاتها" فالتَّوَسُّع الإعلامـي، و انتشار وسائـل النشـر، و تَدَاوُل المعرفة، لم يَشْفَعَا في توسيع هذه الأمكنة. ما زالت، مصر، لبنان، [العراق]، سوريا، هي أمْكِنَة الأدب، أو هي الجغرافيات المعرفية التي منها يأتي هذا " الأدب "، وغيرها، هو " صَدٍى "! أو اسْتِعَادَةً، وحتى حين يَحْدُثُ الاعتراف ببعض إنتاجات " المحيط "، فهي تَحْدُثُ في غير الأدب. أي كل ما له صلة بالتخييل، و تحديداً الشِّعر و السَّرد.
[3]
الدراسات النقدية حول الشِّعر العربي المعاصر، التي يكتُبُها المشارقة، بشكل خاص، تكتفـي، هي الأخـرى، بهذه الجغرافيات، دون غيرها. فـ " الشعر الحر "، له شُعراؤه، كما لـ " قصيدة النثر " شُعراؤها، و هم، جميعاً، يأتون من نفس المكان.
لا ينحصر الأمر في الكتابات النقدية، بل يتجاوزُها إلى المهرجانات الشِّعرية، و الندوات أو المحاضرات، التـي تُعْقَدُ فـي بعض دول المشرق العربي، بما فيها دول الخليج، التي هي أيضاً من هوامش المعرفة في تاريخ الأدب العربي.
[4]
صحيح أن المشرق العربي كان رائداً في اسْتِحْدَاث أشكال شعرية جديدة، فـي الشِّعر، كما في غيره من أشكال الكتابة الإبداعية، وحتـى في الرسم والنحث، لكن " الريادة "، لا تعني احتكار المعرفة، أو تَمَلُّكَها بوضع اليد. ثمة، دائماً تجاوُز و صيرورة، و ثمة تنويع واختلاف، في الرؤية كما في المواقف، وفي اقتراح الأشكال، والاختراقات الإبداعية، ليس في لغة النص فقط، بل وفي بنياته، وما يحدُثُ فيها من خَرْق لِدَوَالِّه.
[5]
ما تزال " مركزية " المشرق قائمةً، وهي تَتَبَدَّى، ليس في الممارسة الإبداعية، ثمة نصوص وإبداعات تصلنا اليوم، من المشرق، في الشعر كما في الرواية، لم تعد قادرة على إقناعنا بجُرأتها، أعني بِنَصِّيَتها. الاسم أصبح ينوب عن النص، أو يخفيه بالأحرى. كما أن الحضور الإعلامي، له ما يكفي من السيادة في حضور بعض الأسماء و انتشارها، وهو ما لم يتحقق لكثير من شُعراء " المحيطات "، رغم ما تحمله أعمالهم من قيمة شعرية، ما تزال في حاجة لمن يقرؤها، خارج سُلْطَتَيْ الاسم والإعلام.
المركزية المشرقية، هي اليوم، في نماذجها الكثيرة، وأكتفي بالشِّعر فقط، هي مركزية إعلامية أو تاريخية، ولم تعد مركزية شعرية، بالمعنى المعرفي، أي بما يُؤسِّسُ لمعرفة شعرية لا صلةَ لها بماضي المفاهيم القديمة، والتي لم تعد قادرةً على مواكبة الاختراقات الشعرية الكُبرى التي تَحْدُثُ في الشعر، كما في تشييدات المعرفة إجمالاً.
[6]
كما في المحيطات الثقافية، أو الشِّعرية، ففي المراكز المشرقية، أصبحت كتابات الشبان أكثر جُرأةً، وأكثر قدرةً على ابْتِداع أنماط جديدة، في الشِّعر، وفي ما يُصَاحِبُه من نظريات، لها صلة بمعرفة الشعر.
لا يقتصر الأمر على الكتابة، بل يتجاوزها إلى النشر والإعلام. فمبادرات نشر الشِّعر، واسْتِحداث مجلات وجرائد متخصصة في الشِّعر، دون غيره، كُلُّها تأتي من هؤلاء الشبان، ما يعني أننا اليوم، أمام طاقة جديدة، لم تعد تكتفي بالكتابة والنشر، بل دخلت مجال الإعلام، والمشاركة بمشروعاتٍ، هي في جوهرها، نوع من الرؤية الخاصة بالشعر، تسعى لاسْتِحْداث مسافةٍ مع ما هو سائد، نصّاً ونَظَراً.
فـي هذا الأفق، عملت الأجيـال العـربية التالية علـى جيلَـيْ الستينيات والسبعينيات، و هـو أُفُقٌ شِعْـِريّ لم يعد مشدوداً للمعاييـر التـي كانت هي " المعنى " الذي به تتحدَّد قيمة النص الشعرية.
لم يَسْرِ هذا على الشبان المشارقة فقط، بل كان، ودون اتفاق مسبق، حالةً شاملةً، وجَدَتْ هذه الأجيال نفسَها منخرطةً فيها، ربما، كون ما هو حادثٌ من تجارب وكتاباتٍ، لم يعد يستجيبُ لأفق الرؤية عند هؤلاء.
[7]
كتابة " تاريخ الأدب العربي " اليوم، تقتضـي، بما فيها ما يُكْتَبُ من نقدٍ، ألاَّ يكون نوعـاً من التعميم فـي قوانينه وتصوُّراته، بل أن يكـون لمعنى " العربي " ما يُبَرِّرُه في هذه الكتابات، وألاَّ يبقى مجرد اسمٍ من دون مُسَمَّى. ما يجري اليوم في الشعر العربي، أصبح يفرض قراءةً تحتمي بالنص، و ليس بالمكان أو الشخص. فما تُقْـدِمُ عليه مثل هذه القـراءات، أو الكتابات التي تَسْتَعِيد مثل هذه الأمكنة، ونفس الأشخاص، هو تعبير عن فَقْرِ القارئ من جهةٍ، وعن ضَيْقٍ في الرؤية، من جهة ثانية، إضافة إلى عَطَب المفاهيم التي ما تزال مثل هذه القراءات تستعملها، في مواجهة ما لم يعد مُسْتَقِرّاً، أو ثابتاً في نفس الشكل.
لا يمكن الحديث عن التنوُّع والاختلاف، إذا كانت مثل هذه القراءات المُغْلَقَة، تكتفي بـ " نمط " شِعريٍّ واحد، أو بكتابة، هي نوع من التكرار، والاستعادة لنفس النمط والنموذج.
[8]
الذهاب إلى " المحيطات "، أصبح من ضرورات المعرفة بالشِّعر اليوم، ثمة مفاجأة تحملها هذه المحيطات، لا تقتصر على الشِّعر، بل تشغل مجالات أخرى للمعرفة والإبداع. و هي مفاجآت لا تحدث في اللغة فقط، فالنص، في تجارب بعض هذه المحيطات، نقل مفهوم " القيمة " من الوزن، الذي كان دَالَّ " الرواد " العرب، ومَنْ جاؤوا بعدهُم، أو القريبين منهم زَمَنِياً، إلى دَوَالَّ أخرى، ظلت إلى وقت قريب، وما تزال عند الشعراء السابقين، مَنْسِيَةً، أو بعيدةً عن متناوَلِهِم. وهي، على أيٍّ، تحتاج إلى جُرْأَة في خَوْضِها، وإلى رؤية جديدة في النظر لمفهوم القيمة، الذي هو ما نستند إليه في فهمنا للشعر، أو وَضْعِنا لمفهوماته.
فالصفحةُ كدَالٍّ شِعْرِيٍّ، ترتبط بالوعي الكتابي، الذي هو أحد أشكال الوعي الحداثي بامتياز." قصيدة الحداثة "، كما أُسَمِّيها، أو ما نُسَمِّيه، بحُكم العادة، دون نظر، بـ " الشعر الحر "، كانت تَسْتَنِد إلى الوعي الشفاهي، وهو وعي آتٍ من " القصيدة "، في نموذجها الشِّعري القديم، الذي لم يتوقَّف عن إنتاج نفس الوعي.
النص المكتوب، بشكل خاص، هو نص مُرَكَّبٌ، الغنائيةُ فيه، باسْتهاماتها الشفاهية، هي دَالٌّ ضمن دَواَلّ أخرى، أو صوت من أصوات النص، ولم تعُد الصوتَ المُهَيْمِن، أو الصوت المُفرد الذي به يَبْتَنِي النص شعريتَهُ. ما يجري في الواقع، و ما أصبحت الذات تعيشه من تَشَقُّقَاتٍ، أو تَصَدُّعَاتٍ، لم يعد يقبل الصَّوتَ الواحدَ، أو النشيد المفرد، فالوعيُ الكتابيُّ كان خَلْخَلَةً، ليس للدَّوَلّ التقليدية في الشِّعر، بل لِتَعَدُّد الأصوات في النص، ولِلْبُعْدِ المأساوي الذي صار نوعاً من التَّصَادِي بين أصواتٍ، جعلت من القراءة الخَطِّيَة للنص، لا تَفِي بغرض " الفَهْم "، أو لا تُتِيح " المعنى "، باليُسْر الذي كانت النصوص الغنائية تُتِيحُه.
المُفارقات النصية، أو التَّصَادي، بالتَّآلُف أو بالاختلاف، بين هذه الأصوات، صار من صميم النص المكتوب، بما فيه تلك الهوامش التي تطفو على سطح النص، فهي بدورها صارت من دوالِّ النص، و ليست حاشيةً، بالمعنى التقليدي، أي أنها شرحاً أو تفسيراً، أو اسْتِدْرَاكاً.
في هذا أتَّفِقُ مع أدونيس، في ما صدر عنه في أحد حواراته الأخيرة، كون " قصيدة النثر "، كما كتبها، لم تعد مجرد وَمْضَة، فهي سَتَتَوَسَّعُ لتشمل كل الأصوات، و لتنقل مفهوم هذا المقترح الشِّعري، من وضع البساطة، إلى التركيب و التَّوَسُّع، أو ما سَمَّيْتُهُ، هنا، بالتَّصَادي.
[9]
نحتاج إذن، في النظر إلى الشِّعر العربي المعاصر، بشكل خاص، إلى قراءاتٍ مضاعَفَة، تتقاطع فيها الأمكنة، كما تتنوَّع التجارب، وتتعدَّد، حتى لا يبقى النص، هو ما آلَ إليه الشِّعر، في لحظة ما دون غيرها، أو ما صار عليه الشكل الشِّعْرِيُّ من نَمَطِيَةٍ شعريةٍ، أو " قوانين "! كان الغرض منها العودة بالشِّعر إلى مفهوم جديد لـ " القصيدة "، كما كانت الشِّعرية القديمة وَضَعَت قوانينها، وشكل بنائها، أي بالمعنى المُغْلَق للمفهوم.
لعل في شعرية " قصيدة الحداثة "، أقصدُ " الشعر الحر"، ما جعل من النمطية النصية التي كرَّستها تجارب الرواد، و بعض مَنْ تَبِعُوهُم، ما أغرى بالبحث في تجارب هؤلاء عن " قصيدة " بديلة، لها، هي الأخرى، قوانينها، أو نمطيتُها الشعرية، التي ظل الوزن، رغم ما تهجس به بعض القراءات من وعي بمفهوم الإيقاع، هو الدَّالُّ الأكبر الذي تحتكم إليه في رؤيتها المعيارية للشِّعر.
هذا ما جعل " قصيدة النثر "، بالمعنى العام و الشائع للمفهوم، هي المُقابل المعياري لنمطية قصيدة الحداثة، التي أصبحت المؤسسة الجامعية، لا تتردََد في قبولها، وتسويغ شعريتها، خصوصاً عند من حرصوا على مواصلة كتابتها، بالنَّفَس الخليلي، رغم ما يبدو فيها، ظاهرياً، من تغيير في الشكل، أو في توزيع الجمل و المقاطع.
[10]
ما يجري اليوم، في المشهد الشعري العربي، هو فسيفساء شعرية، لا تستسلم للنمطية الشِّعرية التقليدية، كما لا تستسلم لهيمنة المركز، و لسلطته الإعلامية. فالتاريخ الذي نكتبه للشِّعر، و النقد هو أحد مظاهر هذا التاريخ، هو تاريخ لم يَسْتَوْعِب بعد حقيقة ما يجري في هذا المشهد، و هو نوع من التقليد لكتاباتٍ جاءتْنا من قرن مَضَى.
تَوسُّع مساحة النشر و الإعلام، كشف عن هذا العطب المعرفي الكبير، الذي اختزل المعرفة الأدبية، بما فيها المعرفة بالشعر العربي المعاصر، في أراضٍ دون غيرها.