" فقد أمْسَيْتُ غَريبَ الحالِ، غَريبَ اللَّفظ، غريبَ النِّحْلَةِ، غريبَ الخلق، مُسْتَأْنِساً بالوحْشَةِ، قانِعاً بالوحدةِ، مُعتاداً للصمتِ، ملازماً للحيرة، مُحْتَمِلاً للأذى، يائِساً من جميع مَنْ ترى، مُتَوَقِّعاً لِما لا بُدَّ من حُلُوله؛ فشمسُ العمر على شفاَ، و ماء الحياة إلى نُضوبٍ، ونجم العيش إلى أُفُولٍ، و ظل التَّلَبُّث إلى قُلوص "
[أبو حيان التوحيدي]
[1]
كان الشِّعْرُ، منذُ اسْتَشْعَرَ الإنسانُ الحَاجَةَ إلى خطابٍ بِهِ يُنَاهِزُ عَراءَهُ، اللُّغَةَ التي جَاءَتْ من صَمِيمِ الصّداقَةِ.
لم يَكْتَفِ الشَّاعرُ بِصَداقَةِ الإنسانِ، بل ذهَبَ للأشياء لِيُخْرِجَها من جَمادِها؛ كُلُّ شيء صارَ جَسَداً، أو لِسَاناً يَتَكَلَّمُ بِنَفْسِ لُغَة الإنسان. الاستعارَةُ، بهذا المعنى، كانت صِلَةَ الرَّحِم التي استعمَلَها الشاعرُ لاستدْرَاجِ الأشياء إلى صَداقةِ الإنسانِ، وكانت هي الخيمياء السِّحْريّ الذي ساعدَ الشَّاعرَ على تطويع الكلام ليصيرَ قابلاً لاحْتِمالِ الأشياء، و لتذويبِها في صميم وُجُودٍ، لم يَكُنِ الإنسانُ، البَتَّةَ، هو كائِنه الوَحيد، أو هو مَنْ يُقَرِّر مَصيرَ الحياةِ فيه، أو يُضْفِي عليهِ نَفَسَ الوُجُودِ.
[2]
حينَ وَقَفَ الشَّاعرُ، عَربياً، على الأطلالِ، فهو كان يَخْتَبِرُ هشاشَةَ الوُجُودِ، و تَفَسُّخَهُ السَّريع. ما كان يَحْيَا في هذا المكان من أنْفَاسٍ بشريَةٍ، و غيرها، مِمَّا كانَ يُصاحِبُ الإنسانَ في وُجُودِهِ، كُلُّها تَلاشَتْ، و لم يَبْقَ إلاَّ ما يَدُلُّ على وُجُودٍ حَدَثَ هُنا، ثُمَّ صارَ أثَراً بعد عَيْنٍ.
لا شَيْءَ يَصْمُدُ أمامَ الزَّمنِ، و كُلُّ وُجُود هو مَحْض اخْتِفاء مُؤَجَّلٍ. لِكُلِّ أجَلٍ كتاب؛ هذا ما سيأتي بعد ذلك، لِيُفَسِّرَ، دينياً معنى وُجُود الإنسان على الأرض، و معنى أن تتلاشَى الأشياء، و تَضيعُ، أو تَخْتَفي.
هذا الوُقوفُ أمامَ بقايا وُجُودٍ حَدَثَ في زمنٍ ما، كانَ اسْتِذْكَاراً، و نَوْعاً من استرجاع الشَّاعر لِصَدَاقاتِهِ البعيدة. حتى عندما يَسْتَعِيدُ الشاعر ذلك الحُبَّ الذي ما زال المكانُ يَشِي بأَنْفَاسِهِ، ففي الحُبِّ هَجْسٌ بصداقةٍ، طابَعُها، انْفِرَاطُ رُوحَيْنِ في نَفَسٍ وَاحِدٍ.
[3]
لَمْ يَحْدُثِ الشِّعر بالعَداءِ. لم يَكُنْ، حتى في ما افْتُرِضَ أنَّهُ أَوَّلُ الخلْقِ، خِطابَ حَرْبٍ و اقْتِتَالٍ، فآدم، حينَ شارَفَ حُزْنَهُ، في مَقْتَلِ ابْنِهِ، فهو بَكاهُ بالشِّعر. أوَّلُ الكلام كانَ شِعْراً، أو هكذا بَدا الأمْرُ، فيما افْتَرَضَ بعض المؤرخين، و رُواةُ الشِّعر، أنه ما حَدَثَ بالفعل.
الشِّعرُ، تعبيرٌ عن الألمِ، جُرْحٌ، لا يَفْتَأُ يَنْهَضُ مِنْ دَمِهِ، و في التعبير عن الألمِ، ما يُفْضِي إلى اسْتِنْفارِ الصداقةِ، و إلى التَّذكير بالحاجَةِ إليها.
أبو حيان التوحيدي، كان مِمَّن أفْضَوْا بِفداحَةِ الصَّدَاقة، حين تصيرُ عَداءً، أو حين لا تَتَذكَّر أصْلَها، أي أنها جاءت من الشِّعر، و أنَّ أوَّلَ الشِّعر، كان استعارةً، لأنَّ الحياةَ، و فقَ شروط الصداقة بين الإنسانِ و الأشياء، لا يمكنُ أن تَتِمَّ إلاَّ من خلال لُغَةٍ كهذه.
[4]
مَنْ يَعودُ إلى الكُتب الأولى، إلى أوَّلِ ما جاءنا، مِنْ أوَّلِ إنسانٍ، وَاجَهَ الوُجُودَ باللغة، سَيَحْدَسُ جَسَارَةَ الكلامِ، و رَحَابَةَ المجاز الذي، لم يَكُنْ، في أوَّلِ أمْرِهِ، لا نَثْراً و لا شِعْراً. كانَ الكلامُ، إبَّانَها، وُجُوداً، يُوَازِي الوُجُودَ، و يُحَايِثُهُ. لايُضاهِيهِ، ولا يَسِيرُ في سِياقاتِهِ، بل هو وُجُودٌ، في مَجازاتِهِ، اخْتَارَ الإنسانُ أن يُقيمَ، و أنْ تَكونُ اللغةُ، بمُخْتَلَفِ مَطَبَّاتِها، مَسْكَنَهُ الذي فيه سَيُقيمُ، ما دام الوُجُود الأنطولوجي، هو وُجُودٌ مُشْبَعٌ بالعراء:
لا
ثَباتَ، و لا استقرارَ
تَرَحُّلٌ دائِمٌ
وَلا وُجُودَ أثْبَتَ
أزَلَ وُجُودِهِ.
[5]
علاقةُ الله بالإنسانِ، كانت عَبْرَ كِتَابٍ. الكتابُ لم يكُن كلاماً هَيِّناً، لَمْ يَاْتِ وِفْقَ ما جَرَتْ به العادة، بل جاءَ اسْتِثناءً، و وَقْعاً صادِماً. هذا ما جعل، في حالة العرب، النَّظَرَ إلى " الوحي " باعتباره شِعْـراً، أو خطاباً لَبِسَ ثَـوْبَ الشِّعر، أو اسْتَعارَ مِنَ الشِّعْـر بعض أسْرارِ " كتابته ". أي ما ليْسَ مِنْ طَبيعَةِ الأشياء، و لا مِنْ عَاداتِها.
فالشِّعرُ لم يَكُن مُجَرَّد كلامٍ يُقالُ كما اتّفق، ورغم ارتباطه، في ثقافتنا العربية، بأنـواعٍ، سَجَنَتْهُ، في قفص القبيلة، أو فـي رثاء الغائب، أو تمجيد الخليفة أو غيـره، فهو ظـلَّ، دائماً، يَحْـرِصُ على المسافة الجماليـة التـي بها تَسَمَّـى، منذ وُجُـودِه الأوَّل.
هذا ما جعلَ " الوحي "، يأتي صَاعِقاً، لأنه احْتَمَى بشِعْريَةٍ جديدةٍ، فهو اغْتَنَى بالشِّعر، الذي كان مُؤثِّراً، في ذوق الناس، و في حياتهم، فيما خَرَجَ عن نمط كِتابَتِهِ، و عن موسيقاهُ، وَحَمَّلَ اللغةَ استعاراتٍ، و صُوَر، خَلَقَت لدى المتَلَقِّي إحساساً بالاختلاف، وَوَضَعَتْهُ في مُوَاجَهَةِ ارتباكاتٍ، الشِّعرُ وَحْدَهُ، لم يعُد يكفي لِحَلِّ مُشْكِلاتِها، و النثرُ، أيضاً، ليس مُفيداً، في هذا الاتجاه.
[6]
رغم اختلافِ السِّياق، بين كِتابٍ وكِتابٍ، فالكُتُب المُقدسة، ما نَزَلَ منها من السماء، أو ما وضعَهُ الإنسانُ، كُلُّها حَمَلَتْ، في طَيَّاتِها كلاماً، كَانت " فِتْنَةُ القّوْلِ "، كما يُسمِّيها الجاحظ، هي ما يُوقِظُ في الإنسان شُعَلَ الشِّعْرِ، و ما يَجْعَلُهُ في مُواجَهَةِ عَرائِهِ.
جلجامش، مثلاً، حين أدركَ أنَّ الآلهةَ لن تَنْعَمَ عليه بالخُلُود، خاضَ المَوْتَ، بِمُوَاجَهَتِهِ. النتيجةُ كانت، تلك الملحمة الشِّعرية الكبيرة التي فََضَحَتْ هذا العَراء، و أكَّدَتْهُ، و أشارت، في شكل كتابتها، و بما حَفَلَت به من استعارات، كانت آنذاك كلاماً خالياً من معنى الاستعارة، ربما كما نفهمُه نحن اليومَ، إلى أن الوُجُودَ الذي لا يُقالُ شِعْراً، يكون عَراءً، وهو الموت نفسه الـذي ذهبَ إليه جلجامش، و هو لا يعرفُ أن خُلُودَه سيكون بالشِّعر، لا بالبقاء حَيّاً، مُقيماً في الحياة إلى آخر الرَّمَقِ.
[7]
صداقةُ الشِّعر، لا تعني القراءةَ، فقط. الصداقةُ بالمعنى الذي أذهبُ إليه هنا، هـي تلك المحبَّة، أو ذلك الفـَرَح اليومي الذي نَنْعَمُ به، و نحنُ نُزَاوِلُ حياتَنا، ليس بما نَسْتَهْلِكُُهُ، أو تَقْتَضِيهِ ضَرورَةُ الحياة اليومية من عَمَلٍ، و حاجَاتٍ، بها نَصُونُ بَقاءَنا، بل بتحويل، هذه الأشياء إلى مُتْعَـةٍ، إلى وظيفةٍ، من و ظـائف وُجُـودِنا الشِّعري،
و إلى صديقٍ، مهما تكن طبيعة العُزلة التي نعيشُها، يكون دائِمَ البقاء معنا؛ لا يَخُون، و لا يتخلَّى، كما أنه لا يَخْذَلُ، و يَصُونُ أسرارَنا، فيما هو يُبادِلُنا التَّحِيَةَ بلا انقطاع. لِأُسميه خُبْزاً يومياً، كما ذهبَ إلى ذلك الصديق الشاعر سعدي يوسف، في ما كتبه بمناسبة اليوم العالمي للشعر.
[8]
في صداقةِ الشِّعر، نُواجِهُ اليُتْمَ، كما نُوَاجِهُ، العُزلات التي تُفْرَضُ علينا، أو نذهبُ إليه اختياراً، و في هذه الصداقة الراقيةِ، نتعلَّمُ المَحَبَّةَ، و نُعاني الجِراحَ، بما يُفيدُ إحساسنا بِوَقْعِ الخيانات على نُفُوسِنا.
تُعَلِّمُنا صَدَاقَةُ الشِّعر، أن نَنْتَقِي أصدقاءَنا في الحياة، و تُعلِّمُنا أن نَحْرِصَ وُعُودَ الصَّداقة، ووَدَائِعَهَا، بما يَلْزمُ من كـَرَمٍ، و ضيافَةٍ، و سَعَةِ نَفْسٍ.
في هذه الصَّداقَة، نفسِها، نُؤجِّلُ الموتَ إلى أجلٍ مُسَمَّى، و نُسَمِّيه باسمهِ، لا لِنَهَابَهُ، أو نَتَجَنَّبَ الحديثَ عنه، بل لنضعَهُ في سياق الألْفَةِ التي، بها نَخُوضُ الحياةَ. لا فَرْقَ، إذا أدركنا أن الموتَ، هو المُعادل الوُجودي للحياة نفسها، و أن لا طَرَفَ يمكن أن يَحْدُثَ دون وُجود الآخر.
صَدَاقةُ الشِّعر، من النِّعَم التي تَفَضَّلَ بها علينا، أول إنسانٍ فكَّرَ في التعبير عن جِراحِه، أو فكَّر في وَضْع اللغة، في مواجَهة مَجْهوُلاتِها، و ما تَحْفَلُ به من مَجَازاتٍ، ليس لِشَاعِرٍ حَقَّ ادِّعَائِها دونَ الآخرينَ.
[9]
شُكراً، للصديق الأول الذي فكَّر في الشِّعر، أو كَتَبَهُ، حتى دون تفكيرٍ. شكراً لك أيُّها الصَّدِيقُ المجهول على هذه النِّعْمَةِ التي تكرَّمْتَ علينا بها، و على تلك اللغة التي بها فتحتَ، في أنْفُسِنا صداقاتٍ، ما كُنَّا لِنَنْعَمَ بها، لولا اقْتِرافِكَ لهذا الإثمِ العظيم.