لا يمكن، في أي حال من الأحوال، أن نَدَّعِي، أننا تعلَّمْنا الشِّعر، أو بلغنا فيه ما طَمَحْنا إليه. فالشِّعر، بعكس الأنواع الكتابية الأخرى، هو كتابة من نوع خاص، وهو انفلاتٌ دائم، وآسِرٌ.
فالشِّعر لا يُكْتَب باللغة وحدها، رغم أن اللغةَ، هي الدَّم الذي يمنح الشِّعرَ الحياة، ويجعله جسماً يتحرَّك بحرية، في أكثر من اتجاه، لكن اللغةَ، في الشِّعر، تستدعي الإيقاع، أو الأصوات الكثيرة التي تحضر في النص بنوع من الغموض الموسيقي الذي لا يمكن حصره في قياس الحركات والسواكن، أو التفاعيل التي، ربما يقصد الشاعر بَثَّها في النص، لتكون جزءاً من نسيج هذه الأصوات، في تركيبها، واشتباكاتها التي تزيد من تعقيد هذا المفهوم وغموضه، وهي في وضعها هذا تلتبس على مَنْ يحسب الصوتَ بالوزن، أو يحصر الإيقاع في ‘النثر’ أو في ‘قصيدة النثر’، أو المعرفة الكمية بالأوزان، دون أن يكون قادراً على الاستماع لِما يقترحه النص من اختراقات، تكون في تعقيدها، لا هي نثر، بالمعنى العام المُبْتَذَل، ولا هي شِعر، والمقصود هنا ‘القصيدة’، في تاريخيتها التي ما تزال هي ما يحكم وعي من لم يخرجوا من ماضي القصيدة، لمستقبل الشِّعر. كما تستدعي اللغةُ الخيالَ، هذا الدَّال الذي لم تَتَنَبَّه له الشعرية المعاصرة، التي اكتفت بالإيقاع كدال أكبر، كما لو أن الشِّعر، هو اللغةُ بدون حُلُم، أو بدون اسم.
الشِّعر هو حوار دائم مع كل المعارف، ومع كل اللغات، فهو ليس مَحْمِيَةً تقتصر على حيواناتها، أو كائناتها التي تخاف عليها من الانقراض، أو التلاشي بين باقي الأجناس الأخرى، التي هي خارجة من الشِّعر، أو الشِّعر هو أصلها، والنبع الذي منه خرجت، بل إنه هو أرض مفتوحة على كل المعارف، وعلى المعرفة بالأساليب التي كانت المعتقدات، والديانات، وتعبيرات الإنسان الأول، حاولت أن تفضح بها تلك الرعشات البدائية أمام هَوْل ورُعْب الوُجود، كما تَبَدَّى، لهذا الإنسان، أو لهذه الآلهة المُفْتَرَضَة، عارياً، بلا أسماء، وبلا أصوات، وبلا حقائق، فالشيءُ هو شيءٌ في ذاته، لا باسمه، أو بما حَمِلَه من صفات. لا مجاز، ومقاربةَ، العراء التَّام، هذه كانت هي اللحظة الأولى التي وَجَدَ فيها الإنسان نفسه أمام وجود بلا لغة. هذا هو ما حَدَث لجالجامش، وما حدث لكاتبي التورارة، ولكاتبي الملاحم الأولى، التي هي التعبير الفادح عن مواجهة الوجود باللغة، أو بِالسَّعْي لِتَمَلُّكِ الوجود بتسميته، وتعيينه.
أليس في هذا ما يكفي لنتواضع أمام الشِّعر؟ هل سَمَّيْنا الوجود الذي تَمَثَّلْناه في ما نكتبه، أم أننا ما نزال نُرَاوِحُ العَراء، ونعيش في غموض الشيء، وهو بعد لم يخرج من شيئيته؟
ثمة ما يجعلنا في شُغْل دائم، نكتب، ونُعيد الكتابة، أو نُغَيِّر مجري الحِبْر، ونقلب تُرَب لغتنا، والأساليب التي نكتب بها، بحثاً عن اللحظة التي يبدو لنا فيها الشيء خارجاً مِنَّا، من دَمِنا، ومن بين فُرُوج أصابعنا، لا من الكتابات التي حاولتْ قَبْلَنا تسمية الوجود، وتعيينه، لكنها، إما فَشِلَت، أو تَعَثَّرَتْ، أو خرجتْ، بالأحرى، من أراضي الشِّعر، دون أن تكون أدْرَكَتْ، أنَّ السَّيْرَ، في كثير من الأحيان، أهم من الوصُول، وأنَّ ما نَتَهَيَّأُ لاكتشافه، أهم مِمَّا اكْتَشَفْناهُ.
شاعر من المغرب