صلاح بوسريف
(المغرب)

صلاح بوسريفهَذِهِ صِفَتُكَ. أو هِيَ الاسْمُ الَّذِي تَحْمِلُهُ عَنْ جَدَارَةٍ و اسْتِحْقَاقٍ، لَيْسَ لِأَنَّكَ رَاكَمْتَ عَدَداً مِنَ الدَّوَاوِينِ، التي عَادَةً ما تَحْمِلُ إِلَيْنَا شُعَرَاءَ بالقُوَّةَ، بَلْ لِأَنَّكَ كُنْتَ مَشْغُولاً بِالشِّعْر، أي كُنْتَ صَاحِبَ مَشْرُوعٍ.

ما أعْنِيهِ بِكلِمَة مَشروعٍ، هُوَ نَفسُهُ ما قَالَهُ عَنْكَ الشاعر الراحل محمود درويش " فَأَنْتَ تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِكَ ". هذا أحدُ مآزق الشِّعْرِيَةِ العربية المُعَاصِرَة. هذه النَّفْسُ الشِّعْرِيَةُ التي، هي تَوْقِيعُ الشَّاعر، هي ما يَضَعُ كثيراً من الكلام المُنْتَسِبِ للشِّعْرِ، في نَفَقِ المُتَشَابِهِ، أو ما لا يَمْتَازُ، لا بِنُورٍ، و لا بِظَلامٍ.

في ما تَكْتُبُهُ، أسْتَعْمِلُ هذه الصيغة في الخطابِ، لِأُؤَكِّدَ على صَيْرُورَةِ الكتابة لَدَيْكَ، فَأَنْتَ تَحْرِصُ عَلى شِعْرْيَةِ النص، أعني، ببساطةٍ، على جماليتِهِ. و حتى لا يُخْتَبَرَ هذا المفهوم في ضوءِ معيار جَاهِزٍ، فأنا أقصِدُ به، سَعْيَكَ

الدَّائِبَ لِكِتَابَةِ نَصٍّ، هو نَصُّكَ أنْتَ. يُشْبِهُكَ، و يَحْمِلُ الشَّيْءَ الكثيرَ مِنْ دَمِكَ.

كَثِيرُونَ مِمَّنْ يَقْرءُونَكَ، يَجِدُونَ في شِعْرِكَ لُغَةً، اللِّسَانُ يَسْتَطِيبُها دُونَ عَنَاءٍ. لُغَةً، تَأْخُذُ قارِئَها إلى ما يريدُ، فَبِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيبُها، و قَدْ يَسْتَمْرِيءُ بَسَاطَتَها هذهِ، بقَدْرِ، ما تَرْمِي بِهِ في قَاعِها، و يَصِِيرُ العَكْسُ هو ما يَجْرِي، هي مَنْ تَسْتَمْرِيءُ قَارِئَها، و هي مَنْ تُلْقِي بِهِ في مَجَاهِلِ أسْرَارِها.

حتى لا أَسْتَطْرِدَ، هذِهِ لُغَةٌ، لا تَمْشِي بالكلامِ لِوَحْدِهِ، فهي جَاءتْ مِنْ مَاضٍ شِعْرِيٍّ بعيدٍ. لُغَةٌ، تُخْفِي خَلْفَ سَلاسَتِها، طَبَقَاتٍ مِنَ الألْسُنِ، و الثقافاتِ، و هِيَ تُشْبِهُ مَنْ يَنْظُرُ تُحَفاً ناذِرَةً مِنْ خَلْفِ زُجَاجٍ، بِقَدْرِ ما يُقَدِّرُ قيمَةَ ما يَراهُ، فَهُوَ لا يَنْتَبِهُ لِهذا المَاء الشَّفَّافِ الذي هُو أحَدُ مظاهِر قيمَةِ ما يَراهُ. لا أعْنِي، أنَّكَ تَكْتُبُ أشياءَ قديمةً، بل أعني أنَّ ما تَكْتُبُهُ، هو شَيْءٌ نادرٌ؛ تُحَفٌ شِعْرِيَةٌ، ذَاتُ قِيمَةٍ، لَكِنَّها مُلْتَفَةٌ بشَفَافَةٍ، هي نَفْسُها شَفَافَةُ الزُّجَاحِ الذي لا نَنْتَبِه لِشفَافِيَتِهِ.

لَيْسَ في مَا تَكْتُبُهُ مَسَافَةً بين الشِّعر و النثر. ثَمَّةَ مَنْ يَرَى فيكَ أَحَدَ مُزَاوِلِي النثر. فالذين يَبْحَثُونَ عَنْ أسْلافٍ لِتَبْرِيرِ ما يَكْتُبُونَهُ بهذا المِعْيَارِ، يَجِدُونَ في شِعْرِكَ تُرَباً صالِحَةً، لِبَذٍرِ زُرُوعِهِم، و الذينَ ما زَالُوا يَحْسِبُونَ الشِّعْرَ بمقياس السَّاكِنِ و المُتَحَرِّكِ، يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ شَزْراً، فَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ تُطِيعُ الخَلِيلَ أبَداً، و لَمْ تَكُنْ تَرَى، في ما اسْتَنْبَطَهُ منْ أَعَاريض، قَدَركَ الشَّخِصِيَّ، لِهَذا كُنْتَ تَخُوضُ الشِّعْرِ وِفْقَ ما تَرْتَئيِهِ نَفْسُكَ مِنْ وَتَائِرَ. لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ الوزنُ هو الشِّعْرُ، بَلْ هُوَ أَحَدُ دَرَائِعِ الشِّعْرِ، و الشِّعْرُ، كانَ عِنْدَكَ، دائماً، أوْسَعَ منَ الوَزْنِ، رَغْمَ وُجُودِ الوزْنِ فيهِ. ألَيْسَ هذا ما دَفَعَ نَازك الملائِكَةَ، مُنْذُ سَمَّتْكَ أنتَ و جِيلَكَ، رغم أنَّكَ مُسْتَعْصٍ على التَّجْييلِ، بـ " الشُّعَراء الناشئين "، في كتابها، قضايا الشعر المعاصر، في إقْدَامِكَ على المُجَاوَرَةِ في " قصيدةٍ " واحدةٍ أشْطُراً من البحر السَّريع، و أخرى من الرَّجَز، و اعْتَبَرَتِ البحرَ الذي جاءتْ فيه " القصيدة "، هو بحر الرجز، لأنَّ [مفعولن]، كما تقول؛ " لا تردُ في ضَرْبِ السريع على الإطلاق، و إنما هي ما يَرِدُ في الرجز بحسب قواعد العروض العربي ". فهي اسْتَهْجَنَت وُرُودَ [مفعولْ] " لِمُجَرَّد أنها وَارِدَةٌ في مكان [فاعلن] التي التزَمْتَها في الأشْطُرِ الباقية.ألَيْسَ هذا ما دَفَعَها أنْ تَرَى في عَمَلِكَ هذا نَشَازاً في أُذُنِ الخليلِ...

مُنْذُ أوَّلِ أَمْرِكَ أَتَيْتَ إلى الشِّعْرِ وِفَقَ هَوَاكَ، بِمَا تَراهُ، لا بِما يُرَادُ لَكَ. اخْتَرْتَ طَريقَتَكَ في الكَلامِ، كما اخْتَرْتَ لُغَةً، مَنْ يَنْظُرُ إليها، بأحَدِ النَّظَرَيْنِ السَّابِقَيْنِ، سَيَكُونُ، في تَصَوُّرِي، ضَلَّ الطَّريقَ إِلَيْكَ، لِأَنَّكَ في لُغَتِكَ، تَكْتُبُ الشِّعْرَ، و في الشِّعْرِ تصِيرُ المسافَةُ بين لُغَةٍ للِشِّعْرِ، و لُغَةٍ للنثر، مَحْضَ هُراءٍ. في الشعْرِ تَعُودُ اللُّغَةُ إلى بَدْئِها، و إلى أَوَّلِ أَمْرِها، و هذا أَمْرٌ لا يَحْدُثُ إلاَّ على يَدِ شَاعِرٍ.

لا أَعْنِي بهذا الكلام، أنَّكَ كُنْتَ بِلا أسْلاَفٍ، فَأَنْتَ " حفيدُ امريء القيس "، لهذا فأنتَ اخْتَبَرْتَ الأَلْسُنَ و اللُّغَاتِ، كما اخْتَبَرْتَ ماضِيَ الشِّعْرِ، و عَرَفْتَ ما يَلِيقُ بِكُلِّ أرْضٍ مِن زُرُوعٍ، كما عَرَفْتَ مَقَالِبَ الشُّعَراءِ و قَوَالِبَهَم، لَكِنَّكَ عَرَفْتَ كيفَ تُحْدِثُ المسافَةَ، و تُؤَسِّسُ بَلاغَتَكَ الجديدةَ، كما قالَ عَنْكَ محمود درويش، و هذا ما جعلَكَ أحَدَ الشُّعراءَ المعاصرين الذين وَضَعُوا الماضي فِي سياق مُسْتقْبَلِهِ، أو نظَرُوا إليهِ كاخٍتيارٍ مَعْرِفِيٍّ، لا يمكنُ صَدُّهُ لِمُجَرَّدِ أنَّهُ مَاضٍ، بَلْ وَاجَهْتَهُ، و اسْتَضَفْتَهُ بِأَرْيَحِيَةِ الشاعرِ، دون أن تَكُونَ طَعَاماً لَهًُ.

هَا أَنَذَا أَعُودُ إلى مفهوم التَّفْسِ الشِّعْرِيَةِ، إلى التَّوْقِيعِ الخاصِّ، و إلى التَّسْمِيَةِ، إلى ما لا يَحْدُثُ كثيراً في الشعر العربي المُعاصر، و لا يمكنُ أن يَحْدُثُ إلاَّ بِوَعْيِ الصِّفَةِ، هذه التي تَحْتَاجُ إلى كثيرٍ من الصَّبْر، والعَنَاءِ، و تَحْتَاجُ خِبْرَةَ النُّصُوصِ، و مُعَانَاتِها، لا إلى ذلِكَ النَّزَقِ الذي قَدْ نَسْتَطِيبُهُ في انْتِسَابِنَا للشِّعْرِ، دونَ أنْ نَعِي ما يَقْتَضِيهِ الشِّعْرُ مِنْ وَاجِبٍ، و مِنْ شَرَفِ الإقامَةِ في ضِيَافَتِهِ.

حِينَ لا نَحْرِصُ على القيمَةِ في الشِّعْرِ، و عَلى المفهوم المُتَحَرِّكِ لِهَذِهِ القيمَةِ، أي على تغيير الرُّؤْيَةِ، فإنَّ الشِّعْرَ في مثل هذا الوضْعِ يَبْقَى مُجَرَّدَ كلامٍ بِلا مَاءٍ. أرْضٌ مِنْ هذا القبيلِ، لا تََفْتَأُ أَشْجَارُها تَمُوتُ و هي وَاقِفَةٌ.

أنتَ سعدي، عَرَفْتَ، بِخِبْرَتِكَ، وبما لَدَيْكَ مِنْ جَسَارَةٍ، كيفَ تَحْفَظُ خُضْرَةَ شَجَرِكَ، و حتى حينَ تُقَلِّمُ عُشْبَ حديقَتِكَ، فأنتَ تحْرِصُ عَلى أن يَكُونَ للِطُّيُورِ في قَلْبِكَ مَكَانٌ.

نص الشهادة التي قدمتُها في بمناسبة تكريم الشاعر سعدي يوسف، في المعرض الدولي للكتاب بمدينة الدار البيضاء، يوم 16فبراير2009