لم يَعُد مُمْكِناً اليوم، التَّغَاضِي عمَّا يجري من اختياراتٍ شِعْرِيَةٍ، في المشهد الشِّعري العربي المُعاصِر. أعمى، مَنْ لا يرى التَّشَعُّبات المختَلِفَة للخطاب الشِّعري، و ما بَلَغَتْهُ مُقْتَرَحَاتُهُ من تَنَوِّعٍ، ليس في الأشكال فقط، بل و في الرُّؤَى، و في اللُّغة التي تَوَسَّعَت مجازاتُها، و أصبحت أراضيها، تَسَعُ كُلَّ الخِطابات، و الأنواع الكتابية الأخرى.
في ما نُسَمِّيه عادةً بـ 'قصيدة النثر '، أتَحَفَّـظُ هنا على المفهوم، فقط، لا على المُقْتَرَح، الذي أعتبره من المُنْجَزَات الشِّعرية الأساسية اليوم، في هذا المشهد، أصبح النص الشِّعري، يجري خارج 'القصيدة '، أي خارج الشَّكل الرَّسْمِيّ، الذي هو شكلُ المؤسسة بمختلف تداعياتها.
حين نسعى لتبرير مُواجهتِنا لهذا المُقْتَرَح الشِّعريّ، بما ينقُصُه من إيقاع، أو بالأحرى من أوزان، نكونُ قد أَسَرْنَا رُؤْيَتَنَا لهذا الشِّعر في ما لا يَمُتُّ إليه بصلة. هذا المُقترح، الذي هو أوسع، في كتابته، و في ممارسته النَّصِّيَة من القصيدة، و هو بالتالي، ليس آتياً مما أُسَمِّيه بـ 'حداثة القصيدة '، أو الشِّعر الحر، كما يُسَمَّى في العادة، فهو كتابة، جاءت من اختياراتٍ، نَأَتْ بنفسها عن أن تكون ذات صَلَةٍ بـ 'الأصول '، بل إنها بَحْتٌ في أًفَقٍ، غير مُلْزَمٍ بأن يكون بنفس وتيرةِ ذبذباتِ أوْتَار موسيقى الخليل، أو الإيقاعات التي سادَت في زمنه.
مسافةٌ معرفية كبيرة تفصل بين ما جاء به هذا المُقْتَرَح، و بين ما تَبَنَّتْهُ الشعريات التقليدية، بما فيها ما كتبه 'الرواد' أنفسهم.
ليس معقولاً، و لا من قبيل المعرفة العلمية و لا الجمالية، أن نُطَالِبَ النُّقَّاد و دارسي الشِّعر، وبشكل خاص مَنْ كتبـوا عن 'قصيدة النثر'، أن يَبْحَثُـوا فـي هذا النص عـن إيقاعـات، بها يُبَـرِّرون انْتِسَابَـهُ لـ 'القصيدة'. هذا المُقْتَرَح الشِّعري، يَنْتَسِبُ للشِّعر، و هو مفهوم أوسـع من 'القصيدة '، و أرضٌ، فيها تجري أنهارُ الشِّعر، بتشَعُّباتِها المختَلِفَة، لِتَصُبَّ في النهاية، في هذا البحر الشِّعري ِّ الكبير، الذي لا يفتأُ يُحْدِثُ بتَمَوُّجاتِه، ما لا يُحْصَى من الإيقاعات، و المجازات.
القيمة الشِّعريةُ هي ما تتأسَّس عليها طبيعة هذه النصوص، أو الشَّرط الجمالي. الواقع الذي كان بالأمس القريب، مُبَاشِراً، صار اليوم أكثر اشْتِباكاً و غُمُوضاً. لم يَعُد البديهيُّ بَديهياً، كما لم تَعُد المُسَلَّمات، تحظى بالتقدير الذي كان هو أساس انْطِبَاعِها في النفوس و في العقول، أي باعتبارها ما لا يُنَاقَشُ، أو يخضع للمساءلة و الاختبار. انْهارت السَّرْدِيات الكُبرى، أو صارت، بالأحرى، لا تحظى بنفس القيمة التي كانت لها من قبل. البسيط و العابر، أو ما كُنَّا نعتبره هامشاً، أو لا يدخُل في صُلْبِ تفكيرنا، و رؤيتنا، هو ما أصبح اليوم في الواجهة، أو أداة المعرفة الجديدة. حَلَّت سردياتٌ مَحَلَّ أُخرى، و باتت الرؤية غير ما كانت مِنْ قبل، ما ترَتَّبَ عنه انقلابٌ في استعمال اللغة، و فـي استعمال لإيقاعات، و تنويع الأشكال.
'النثر' هو أيضاً، في هذا المُقْتَرَح الشِّعري، غَيَّرَ مجرى كلامه، فتركيب اللِّسان في النثر، اسْتَوْفَى شِعْرِيَةَ الشِّعْرِ، و اخْتَلَق إيقاعاته الخاصة به، كما اختلَقَ لنفسه تعبيراتٍ، لا تَحْدُثُ إلاَّ في هذا النوع من الشِّعر.
لم تَعُد لُغَة 'النثر' طارئةً على الشِّعر، فهي، في واقع الأمر اسْتَعَادَتْ بدائِيَتَها، و أنْجَزَتْ، في هذا المُنْجـَز النَّصِّيِّ، وَحْدَتَها التعبيـرية؛ لا نَظْم و لا نثر، اللُّغَةُ في تَوَحُّدِها، فما اقْتَرَفَتْهُ الأسطورةُ في فَصْلِ الإنسان إلى جِنْسَيْنِ، أدْرَكَت شعرية النثر فداحَتَهُ، و اختارت زواج الكلام ببعضه، ما تَوَلَّدَ عنه هذا المُقْتَرَح الذي لم تستطع ذائقة التقليديين، أن تقبله، أو لم تَسْتَسِغ خُرُوقاتِه.
لا نَظْمَ ولا نثر، الشِّعر وهو يَخُوضُ اللُّغَةَ بكُلِّ احْتِمَالاتِها. لا فرق بين الممكن و المستحيل، كُلُّ الأراضي اسْتُبيحت، و لا مانِعَ من خَوْضِ الطُّرُقِ، أعني شَتَّى الطًّرُق لبلوغ سَدِيم الأشياء، و هشاشتها.
لم يبدأ الوجود شِعراً أو نثراً، الوُجود بدأ تَسْمِيَّةً، و نحن مَنْ سَمَّى الأشياء، وأقام الفرق بين حَشْرَجَاتِ النَّفْسِ الواحدة؛ لُغَةٌ لـ 'النثر'، و أخرى لـ 'الشِّعر'!
لنتحرَّر من النَّظْم، لِنَنْظُر إلى الإيقاع، و هو هنا مَكْمَنُ الخِلاف، برؤية الزَّمَن الذي نعيش فيه، لِنَتْرُك تَوْقِيعَنَا الخاص على زمننا، لِنَكُن نحن، بما لدينا من خيالاتٍ، و إيقاعات، و بما لدينا من طُرُقٍ في التفكير، و في تدبير لُغَتنا بالطريقة التي بها نرى الأشياء. لَسْنا أبناء امريء القيس، و لا أحفادَ شوقي، نقرأ لامريء القيس، كما قرأنا شوقي، لا لنكون امتداداً لَهُما، بل لنستأنِسَ باختياراتهما، و نستمع لأصوات الشِّعر المُخْتَلِفَة، في جغرافيـات الشِّعـر المُتَنَوِّعَة، كما زَوَالَها مَنْ سَبَقُـونا، لنكون إضافَـةً، و تَوْقيعاً شَخْصِياً، أو خاصّاً.
مَنْ ما زالَ يعتقد، أنَّ هناك أرضاً شِعريةً واحدةً، هي أرضُ الشِّعر الوحيدة، فهذا في تَصَوُّري، ما زال يعيش على ماضي المعرفة، و كُلُّ ما يجري فـي الحاضر، لَهُ تفسيره فـي الماضي، هذا الماضي الذي عنده، لا يمضي، و يبقى، بالتالي، جاثماً على تفكيره و رؤيته، و على مفهومه للشِّعر، الذي لا يَدْخُلُه الباطل مِنْ أيِّ مكان.
مُلتقى 'قصيدة النثر' في القاهرة، في السنة الماضية، و ملتقى 'قصيدة النثر' فـي تونس، الذي جرى مؤخـراً، وملتقى 'قصيدة النثر الأول'، و الملتقى الثاني، الذي يجري الإعداد له في القاهرة، هي تعبير عن المكانة التي بات اليوم يحظى بها هذا المقترح، و ما أصبحت تُفْرِزُهُ الوقائع على الأرض من إنجازات، في المجالَيْن النَّظري و النَّصِّيِّ.
ليس التاريخ هو ما نَفْتَرِضُه، فالتاريخ هو ما يجري في أرض الواقع، هو مُجْمَل الأشياء التي تَحْدُثُ، بغض النظر عن قَبُولِنا أو رفضنا لها، و هو أوسَع من القاعدة، لأنَّه، في المفهوم الجديد للتاريخ، أصبح أكثر اهتماماً حتى بما نفترض أنه هامشي، أو طاريء. بهذا المعنى، ما يجري من اقتراحات في الشِّعر، كما في غيره من الفنون و المعارف، لا يَكْتَسِبُ شَرْعِيَتَهُ من الحاضر، فالحاضر هو زمن مُوَاجَهَاتِهِ، فهو يَكْتَسِبُها من المستقبل، هذا الذي بدأت ملامِحُه تَتَبَدَّى في أفق هذا القرن الذي نحن فيه اليوم.
* شاعر من المغرب
ـ كتبتُ هذا النص، تحيةً لأصدقائي الشعراء أعضاء اللجنة التحضيرية للملتقى الشِّعري الثاني بالقاهرة تقديـراً لمجهوداتهم الذاتيـة و لما يحرصون على ترسيخه من قيم الاختلاف و الجمال.
القدس العرب
22 يناير 2010