ما نزَالُ في قراءتِنا للشِّعر المُعاصر نَحْتَكِمُ لِمفاهيم ورُؤى، لم تعُد تصلُح لقراءة هذا الشِّعر. أعرفُ أنَّ المدرسةَ عَمِلَت على تكريس نمطٍ شِعْريٍّ، هو نفس النمط الذي ظلت الأُصُولية النقدية تَحْرِصُ على تثْبِيتِهِ، أو هو ما حَرِصَت على اخْتِزالِه في 'القصيدة'، كمفهوم واحدٍ، لا يقبل غيره من الأشكال الشعرية، أو المُقْتَرَحات التي عمل الشُّعراء على خَوْضِها، باعتبارها أشكالاً جديدةً، لم تَكْتَفِ بـ 'القصيدة'، كنموذج، أو كشكلٍ جامع.
'القصيدةُ'، بَدْءاً من زمن التدوين، ستُصبِحُ هي كُل الشِّعر، وسَيَتِمُّ بالتالي، إطلاق مفهوم الشِّعر على القصيدة، عِلْماً أن كلمة شعر، إذا افتـرضنا أنها جَمْعٌ، وهـي ليست كذلك، طبعـاً، لأنها بلا مُفرَدٍ، فـ 'القصيدة ' ليست هي مُفْرَدها، ولا علاقةَ لها بها من حيثُ الاشتقاق.
سَتَتِمُّ تسمية 'القصيدة' شِعْراً، لاحتواء مفهوم الشِّعر، ولتقليص كَثْرَتِهِ، في مجرد شكل واحدٍ، وإبْعاد الأشكال الأخرى، والمُقتَرَحات التي كانت ظهرت عند بعض الشُّعَراء، وهي غير ذات صلة بما عملت الأصُولية النقدية العربية على اعتباره النموذجَ الشِّعريَّ العربيَّ، المُكْتَمِل والمُغلَقَ.
أليست 'القصيدة' في تفسيـرها اللُّغَوِيّ الذي يُقَدِّمُه لنا ابن منظور في 'لسان العرب'، وهو معجم، حَصَرَ اللغةَ في ما قبل التدوين، ولم يسمح بتجـاوُزِها إلـى غيـره، تعنـي 'الاسْتِقامَةَ'، و'القَصْدَ' و'الشَّطْر'، وهو ما ينسجم مع 'القصيدة'، في شكلها النهائي، وفي بنائها الشَّفَاهي، الذي كان يَتِمُّ، إنْشاداً ولَفْظاً، أي إلْقَاءً.
ألم تذهب الأصُولية النقدية إلى حَدِّ اعتبار الكلام الموزون عن غير قَصْدٍ، رغم تأكيدها للوزن باعتباره مضمار الشِّعر، لا صِلَةَ له بالشِّعر، تَفَادِياً لِتَسْمِيَةِ ما جاء مَوْزُوناً في القرآن والحديث شِعْراً..
ألم يَتِمَّ اعتبار الشِّعر، بيتان فما فوق، نظراً لعامل القافية، كما يذهب إلى ذلك ابن سنان الخفاجي، لأن القافية عنده، لا تَصِحُّ في البيت الواحد، لأنها مأخوذة من 'قَفَوْتُ الشّيء' إذا تَلَوْتُهُ..
وهو ما سيعمل أصحاب النظرية الكَمِّيَة، في الشِّعر، على تثْبِيته من خلال تحديد مفهوم القصيدة، في عدد من الأبيات، ذهب ابن جني إلى حَصْرِها في ما يتجاوز خمسة عشر بيتاً، بعكس ما ذهب إليه الأخفش، الذي اعتبرها في الأقل ثلاثة أبيات. ولفصل 'القصيدة'، كمفهوم مُكْتَمِل، على غيرها من الأشكال الأخرى، فقد تَمَّ وضع تَسْمِيَات أخرى لهذه الأشكال، مثل المُسَمّطات، والمُخَمّسات..وحتى البيت الواحد، سُمِّيَ يَتِيماً، كما سَيُسَمَّى البيتانِ، أو الثلاثة أبيات، نُتْفَةً، وهذا ما ذهب إليه الفرَّاء.
لم تَكْتَفِ الأصولية النقدية بِحَصْرِ الأشكال الأخرى، أو بتَسْمِيَتِها، دَرْءاً لِكُلِّ التباس مع 'القصيدة'، وهي أشكالٌ، كما يبدو من تَسْمِيَتِها ناقصة، ومُضْطَرِبَةً، أو تُعاني من سُوء اكتمالٍ، قياساً طبعاً بالقصيدة، باعتبارها الشكل التَّام والمُكتمِل، بل ذهبوا إلى حد اعتبار أوزان مُعينة، مثل الرجز، كما في موقف ابن جني، مما اضطرب بناؤُه، أي ما لا يتفق مع مفهوم الاكتمال، أو ما 'نُقِّحَ وَجُوِّدَ وَهُذِّبَ'، كما في تعريف ابن منظور.
سيسعى أصحابُ هذا الاتجاه، من نُقاد وعروضيين ولغويين، وغيرهم، كُل من زاوية عمله، إلى حَصْرِ 'القصيدة' في شكل واحد، ووضع قوانين صارمة، لا يُسْمَح بتجاوُزها. حتى في حالات 'التَّجَوُّز'،
كما في 'الضرورات الشِّعرية'، فهُم عَمِلُوا على تقنين هذه التَّجَوُّزات، وحَصَروها في خواص معينة، أجازوا ما أجازوه، ورفضوا ما بدا لهم أنه خُـروج على الشكل المثالي، الذي كان دائماً فـي تصورهم هو 'القصيدة'.
ولعل في مثال 'مجمهرة' عبيد بن الأبرص، ما يُشير إلى هذا النوع من المثالية في النظر إلى الشِّعر، في حصره في شكل، أو نموذج واحد.
هذا الحَصْر الذي أتانا من زمن التدوين تحديداً، هو الذي جعل مفهوم الشِّعر يبقى هو نفسه لا يتغير، وبقيت 'القصيدة'، بكل ما تستدعيه من مفاهيم، هي الشكل المثالي في تَصَوُّرِنا للشِّعر، ولطبيعة بنائه.
المدرسة، في هذا السياق، وهي استمرار لهذا البُعد الأصولي، في حصر المفاهيم، وتَضْيِيقِها، وهي أيضاً، المكان الذي فيه يَتِمُّ اليوم تَرْوِيج هذا النمط من الشِّعر، وفي اختيار ما ينسجم مع طبيعتها كمـــؤسسةٍ، كـــُلّ ما لــــه صلة بالدّهْشَـة، أو بتغيير المفاهيم، والتَّوَجُّهات، لا تقبله، أو هي تعمل على طَمْسِهِ، في مقابل ما تُرَوِّج له من إيديولوجيا الدولة، أو النظام الذي هو تَثْبِيت واستمرار للماضي، أكثر مما هو أفق، أو اسْتِشْرافٌ.
هذا في تَصَوُّرِنا، ما يجعلُ من 'الذائقة الشِّعرية' لدى القارئ العربي، اليوم، تبقى أسيرة وَعْيٍ خاصٍّ، هو هذا الوعي الذي يَنْظُرُ إلى الشِّعر المُعاصر، بمنظار المؤسسة، أي بمنظار الوعي الأصولي، الذي ينظر إلى الماضي كأُفُق، ولا يعتبر ما يجري من مُتَغيِّرَات، في الرُّؤَى والمفاهيم، ذا جدوى، لأنه مُقِيمٌ في غير الزمن الذي يعيش فيه.
الشِّعر المعاصر، اليوم، لم يَعُد مرتبطاً، في الممارسة النصية، لا بشفاهية 'القصيدة'، ولا ببنائها العروضي، ولا بسياقاتها البلاغية التي كانت تقتضي نوعاً من الكلام المُتَّسِم بصيغ، وبخواص لسانية معينة، أو ما يمكن أن نُسَمِّيه، هنا، بثقافة البيان. فهو أصبح أكثر ميلاً لمفهوم الشِّعر، بما يعنيه هذا المفهوم من كَثْرَةٍ وتَعَدُّدٍ، وليس بما اعْتُبِرَ مفهوماً واحداً، هو 'القصيدة'.
'القصيدة'، وهذا ما كرَّرْتُهُ مراراً، في أكثر من مكان، هي مُقْتَرَحٌ من بين جملة من المقترحات الشِّعرية التي سعى الشَّاعر العربي لِخَوْضِها، وليست هي كُل الشِّعر، ولم تكن كذلك. من يعُد لقراءة الثرات الشِّعري العربي، والمُدَوَّنات النقدية المُصَاحِبَة له، يسقف على ما حَدَثَ من انتهاكات، في التعامُل مع باقي المقترحات الأخرى، وما تعرضت له هذه المفاهيم والمُقترحات من طَمْسٍ، وإتْلاَفٍ.
ألم يذهب بعض الشُّعراء إلى حَدِّ اعتبار ما بدا نثراً، أي خالياً من شرط الوزن، نظراً لقوته، وتأثيره الشِّعري، شعراً، مثلما حدث لحسان بن ثابت مع ابنه، حين دخل عليه، وهو يبكي، قائلاً 'لَسَعَنِي طائرٌ'، قال: 'صِفْهُ يَا بُنَيَّ'، قال: 'كَأَنَّهُ حَبرة'.. ما دفع حسَّان أن يَصْـرُخَ: 'قال ابْنِي الشِّعر ورَبِّ الكعبة'. وكان ما تعرَّض له ابنُه، لسعة زنبور. [انظر، الكامل للمبرد، ج1، ص 225]
هذه الواقعة، وغيرها، مما جاء في المدونات النقدية العربية، يَشِي بطبيعة المُتَغَيِّرَات التي شَرَعَت، أو كانت تَعْتَمِلُ في نُفُوس الشُّعراء، وكانت، ربما، بمثابة الأفق الذي وَجَدَ نفسه مُحَاصَراً بقوة المؤسسة التي كانت شَرَعَت في تثبيت المفهومات، وفي ترسيخ مفهوم واحد للمعرفة، كانت 'القصيدة'، هي إحدى تمثيلاته، ما دامت 'القصيدة'، بهذا المعنى ستُصبح مرجعاً لغوياً في تفسير النص الديني، بالمعنى الذي أشار إليه ابن عباس.
اسْتُعْمِلَ الشِّعْرُ، دائماً، في غير وظيفته، وكان، في كثير مما حَدَثَ من نُقُودٍ، مُجَرَّد وسيلة لغرض ما. لم يَتِمّ استعمال الشِّعر لِشِعْرِيَتهِ، أو بالاقتصار على وظيفته الجمالية. هذا ما دفع إلـى اعتبار 'القصيدة'، مَرْجِعاً لُغَوِياً، أو 'ديوانَ' عِلْمٍ، وتاريخ، وأنساب، أو مَرْجِعاً لِمَا اسْتَعْصَى فهمه من ألفاظ أو تعابير. لهذا اعْتُبِرَت 'القصيدة'، أو الشِّعر، مصدراً من مصادر اللغة، بعد القرآن والحديث!
تحريف وظيفة الشِّعر، ساهم في هذا التعميم الذي طالَ خطاباً له خصوصياتُه، ولم يوجَد، قطعاً، في كُلِّ الثقافات الإنسانية ليكون مُجَرَّد صَدًى، أو أداة، لتفسير، أو تبرير غيره من الخطابات. فالشِّعرُ كان دائماً، خطاباً تَمَيَّزَ بانْفِلاتِهِ عن باقي الخطابات، كونه يُزَاوِلُ اللغةَ وفق رؤية وبناء خاصين، أو هو بالأحرى، يَبُثُّ الحياةَ في اللغة، ويُشْعِلُ فِتَنَها، يُوقِظُها، أو يُخْرِجُها من استقرارها، الذي هو أحد أسباب تلاشي كثير من اللُّغات، وانتهائها.
الشِّعْرُ، بهذا المعنى، إبداع وإضافات. فهو اللُّغَةُ في تَدَفُّقِها، واخْتِلاقَاتِها. وهذا ما يَنْعَكِسُ على بنيات هذا الخطاب، وعلى مكوناته. ليس معقولاً أن يبقى الشِّعر هو نفسُه، كما جاءنا من أوَّل التاريخ. أليس الإنسان بطبعه باحثاً ومُفَكِّراً ومُتَأَمِّلاً، ما يعني أنه يملك ما يكفي من الطاقات لتجديد وُجُودِهِ. فنحن نقبل التَّغّيُّرَ في التقنية، كما نقبلُه في المعمار، وفي نمط العيش، والطريقة التي بها نأكُل ونشرب، وننام.. وحين يتعلَّق الأمر بالشِّعر، نعتبر الأمرَ طَعْناً في ذائقتنا، وفي تاريخنا، وهويتنا! وكأنَّ الذوقَ الذي به نَلْتَمِسُ اليومَ حاجاتنا للأشياء، هو نفسه الذي به اسْتَنْبَطَ الخليل بحورالشِّعر، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن. هل الزمنُ عندنا يَتَوَقَّفُ عند شكل شعري مُحَدَّدٍ، وعند لُغَةٍ, هي ما نعتبره المقياس والمرجع، في الحُكْمِ على ما يُكْتَبُ اليوم، أو في مُصَادَرَتِهِ، باعتباره لا يَسْتَجِيب للمعايير التي بها نقرأ الأشياء، أو ننظُر إليها..
فأنا مُضطر، هنا، أن أُذَكِّرَ بشمس هيراقليط، التي ليست هي نفسها الشمس التي تُشْرِقُ كلَّ يومٍ، أي باعتبار تَصَوُّرِهِ طريقةً في التفكير والنظر، أي طريقةً في اختبار قُدْرَة الأشياء على الحياة، وعلى التَّجَدُّدِ. فالشمسُ التي نراها اليوم، ليست هي الشمس التي كُنَّا نَنْعَمُ بضوئها قبل اليوم، كُلُّ شيء إلى زَوَالٍ، وكلُّ شيءٍ في صيرورةٍ لا تَفْتَأُ تصيرُ.
ينعكس وضع الثبات على كثيرين مِمَّن ما زالوا يُعَانُونَ من قِصَرٍ في النظر. المعرفةُ اليوم لم تَعُد هي عروض الخليل، أو أسلوب الجاحظ، في النظر إلى لأشياء، فالخليل كان عالِماً، خرجَ بِزَمَنِهِ من المعرفة بالحدس إلى المعرفة بالتأمُّل، أي بالعلم. اسْتَنْبَطَ قواعد الشِّعر، ولم يَضَعْها، فهي وُجِدَت فـي الشِّعر، رغم (جَهْلِ) الشُّعراء بها، كانت مُمَـارَسَةً نَصِّيَةً، ولم تَكُن قاعدةً سابقَةً، أو هي بالأحرى، كانت سُلُوكاً شِعْرِياً، كان الشَّاعرُ يَسْتَشْعِرُ خُصُوصيته التعبيرية، ولم يكُن يبني رؤيته على وُجُودِها القبلي، لأنَّ الشاعر كان 'أكبر من العروض'.
ألا يُعْتَبَرُ اليوم، كثير من الشِّعر الذي كانَ مُبْتَذَلاً، وغير ذي قيمة، أو تَمَّ الطَّعْن في شِعْريَتِه، واتُّهِمَ أصحابُه بالفساد، من عيون الشِّعر العربي، وأحد المراجع الجمالية في قراءة الشِّعر وتَذَوُّقه..
ما يُقالُ في هذا السياق عن أبي تمَّام، يُقالُ عن أبي العتاهية، وعن بدر شاكر السياب، وسعدي يوسف، وعن الشِّعر المعاصر، أو ما سُمِّيَ في حِينِه بـ 'الشِّعر الحُر'.
ألم يَعْتَبِر بعض أعضاء مجلة 'شعر'، عند تَلَقِّيهِم النصوص الأولى لمحمد الماغوط، أنها ترجمات، نظراً لِما اتَّسَمَت به من جُرْأَةٍ في التعامُل مع اللُّغَة، وفي تحويل مجرى الإيقاع، من إيقاع يَحْدُثُ بالتناوُب، أو التواتُر، إلى إيقاع يَنْسَابُ كما لو أنه يجيء من نَغَمٍ، لم تكن الأذن أّلِفَت رَخَاوَتَهُ.
ليس الشِّعر ما يَسْتَقِرُّ في وَعْيِنا من عاداتٍ، الشِّعرُ هو ذلك المجرى المُتَدَفِّق الـذي نَخُـوضُهُ بكل احتمالاته. هذا لا يُفْضِي بنا إلى إنكـار 'القصيدة'، أو غيرها من المُقْتَرحات الشِّعرية، التي جاءت من ماضي الشِّعر أو حاضره، فقط نُحَاوِلُ أن نُنَبِّهَ إلى أنَّ الشِّعْرَ هو أُفُق احتمالات
وانشراح دائم، وأنَّ ما نسعى لترسيخه من عادات، أو تَثْبِيتِهِ من قواعد، باعتبارها مرجعاً في النظر إلى الشِّعر، أو في الحُكم عليه، هي قَتْلٌ لذكاء الإنسان، وإفراط في تمجيد الماضي، أو في اعتبار الماضي هو وسيلة النظر في كل ما يَحْدُثُ في الحاضر.
ما زلنا بعد لم نتخلَّص من تربية المدرسة، من أيديولوجيا الخطاب، أو الرؤية الواحدة. ليس صحيحاً أن نقيس ما يَحْدُثُ، بما هو حَادِثٌ، وليس صحيحاً أن ننظر إلى البناء باعتباره مَوْضِعَ خَلَلٍ، وننسى أنَّ ثمَّة أُسُساً، علينا مراجعتُها. ها أنذا أعود إلى نيتشه الذي حين قرأ الفلسفة الإغريقية، لم يطمئن لسقراط وأفلاطون، باعتبارهما المرجع السَّائد في النظر إلى الأشياء، بل عاد إلى فلاسفة ما قبل سقراط، إلى أولئك الذين اعتبرهُم أُسُساً، أي بِدَايَةً وشُرُوعاً، ومن هذا المكان بالذات بنى رؤيته الجذريةَ لِمَا يجـري، وبدا له أنَّ الاكتفـاء بالتَّشْييدات، هو ما يُفْضِي إلى النوم في عَسَلِ المُسَلَّمَات، وفي خَوْضِ المعرفة كأنها حقائق لا تقبل التغيير.
فمراجعة الأُسُس، أو ما سَمَّيْتُهُ بمراجعة الأصول، هي الكفيلة بتغيير طريقتنا في رؤية الأشياء، وبإخراجنا من نفق القراءات، أو الرؤى السلفية التي اسْتَحْكَمَت في رؤية بعض من اعْتَبَرُوا الحداثة هي نهاية الطريق، أو هي الطريق الذي يُفْضِي إلى الحقيقة، واليقين.
الحداثةُ ليست نَمَطاً. الحداثةُ انْشِرَاح.
الحداثةُ ليست اكتمالاً، إنها احْتِمَالٌ، أو هي مشروع مفتوح على كُلِّ الاحتمالات. لا يَنْطَبِقُ هذا على الشِّعر وحده، بل يشمل كُلَّ الخطابات. مَنْ يكتفي بالشِّعر وحده كمرجع في النظر إلى الخطاب الشِّعري المعاصر، أو ما أُسَمِّيهِ 'الكتابة'، دون العودة إلى الخطابات التي أصبحت اليوم مُوازِيَةً للشِّعر، أو تَتَصَادَى معه، فقراءتها ستبقى جاهِلَةً، عمياء، لأنها تعاني من قِصَرٍ في الرؤية، ومن فَهْمِ معنى أن نقرأ الشِّعر اليوم، ومعنى أن نَكْتُبَهُ بالطرائق التي بها أصبح يُكْتَبُ.
لأترُكَ نيتشه في حاله، حتى لا ينزعج مَنْ يعتبر معرفةَ الآخر كُفْراً، وفَسَاداً في المعرفة. لأذهبَ إلـى أقصى الريح في معرفة هذا الآخـر، وأشير تحـــــديداً إلى الكاتب الأرجنتينـــي إرنستو ساباتو، الذي كان في أحد حـــواراته، وقف على حقائق ما تزال، بالأسف، سائدةً في زمنـــــنا، مُشِيراً إلى ما كان أصدره سانت بــــوف من أحكـــام قاسية في حق كُتَّاب، مثل ستاندال وبودلير وبالزاك، واعتبر أعمالهم غير ذات قيمة.
وهو ما ينطبق على أندريه جيد، صديق طه حسين، الذي ألقى بمخطوطات بروست في سلة المهملات، مُعْتَبِراً طريقة كتابة الرواية، بهذا الشكل المُغَايِر للعادة، خرقاً لـ 'قِيَم ٍ'، كان جِيدْ عَمِلَ على تكريسها، في ما كتبه.
كما أنَّ لُوبِي دي فيجا، وهو معاصر لسرفانتيس، اعْتَبَرَ أنَّ 'دون كيشوت'، هو أسوأ كتاب قرأه.
ليس من قبيل الصدفة أن يُعَلِّقَ ساباتو على مثل هذه السُّلُوكات النقدية بقوله 'لا نكاد نميل أبداً بالقبول أن يكون معاصر لنا عبقرياً، وخاصةً أن ينتمي للمهنة ذاتها'. لأنَّ مثل هذا الكلام، وَرَدَ على لسان البغدادي صاحب 'خزانة الأدب'، يقول فيه، إنَّ 'المعاصَرَة حِجَاب'.
المعرفة تَحْدُثُ بالتجديد، لا بالتقليد. كما تَحْدُثُ انْفِتاحاً لا انْغِلاقاً.
فلو سار غاليلي على خُطَى أرسطو، في ما يخُصُّ سقوط الأجسام، واعتبر رأيه نهائياً وحَاسِماً، لم يكن ليصل إلى نظريته التي أعادت تقييم الأمور، وفق منظور علمي غَيَّرَ مجرى النهر، وأتاح للمعرفة الإنسانية أن تسير في غير الطريق الذي كان أرسطو فتحه من قبل.
في عَمَاء الماضي، عَمَاء الحاضر. وفي الوعي المُسْتَقِرِّ بالمعرفة، جَهْلٌ بمستقبلها، بالصيرورة التي تَحْكُمُ طبيعة الوُجُود، وتحكم رؤية الإنسان لذاته، ولِمَا يُحِيطُ به من أشياء.
القدس العربي- 17/12/2009