صلاح بوسريف
(المغرب)

" شُذَّ، شُذَّ بِكُلِّ قِوَاكَ عَنِ القَاعِدَةِ "
[إلى شاعر شاب]

[1]

صلاح بوسريففي ما كتبه محمود درويش في أعماله الأخيرة، بشكل خاص، و بِدايَةً من ديوانه " أحد عشر كوكباً "، تحديداً، بَدَتِ المسافةُ واضحةً، في تجربته، بين كتابةٍ، كانت، في أول أمْرِهَا تَحْرِصُ على مَوْضُوعِها، كما حَرِصَت علـى مفهومٍ للشِّعْرِ، هو نفسُه الذي ظلَّ ( الرواد )، و مَنْ جَاؤوا بعدهُم، بما فيهم محمود نفسه، يَحْرِصُون على مُمارَسَةِ بعضِ ثوابته، و اعتبـار الشِّعـرية، لا تَحْدُثُ إلاَّ بِدَالِّها المُهَيْمِن؛ الوزن. و هو ما ستأتي الشِّعْريةُ المُعاصِرَةُ لِتُوَسِّعَهُ بعض الشيء، بتحويل الاتِّجاه إلى مفهومِ " الإيقاع "، بَدَلَ الوزن.

في الشِّعر العربي القديم، ثمِّة إيحاءات كثيرة، رَقَتْ بالإيقاع، إلى هذا المفهوم ذاته، لكنها لم تُبَرِّرْهُ نظرياً، و هذا هو الفرق بين المفهوم الضَّيِّق للوزن، و المفهوم الواسع للإيقاع.

ليس الإيقاع، هو الوزن وَحْدَهُ، كما أنه ليس النَّبْرَ وَحْدَهُ، أو ما ستَحفَلُ به النصوص، قديمُها و حديثُها، من تكرارات، و تقابلات، في أكثر من مستوىً من مستويات بنائِها اللغوي. ثمة أكبر من هذا يَحْدُثُ في النص الشِّعْرِيِّ، هو ما يجعل إيقاعَهُ يتحقق ليس، كدالٍّ أكبر، و هذا هو عَطَبُ الشِّعْرية المُعاصرة، التي سقطت بدورها في مفهوم (الواحد)، و هو مفهوم مَسْكُونٌ برَعَشَاتِه الميتافيزيقية، في ما كان يَسْعَى للنَّأْيِ بنفسه عنها، أو الإقامة خارج سَمائِها.

[2]

محمود، طبعاً، كان خارجَ هذه السماء، لأنه، في تجربته الأولى كان مشغُولاً بِنَصِّ، شِعْرياً، لا يمكنُهُ أن يَحْدُثُ دون وزن، و هذه حقيقة لا يمكن تبريرُها بغير شَرْطِها هذا، لذلك فالتجاوزات التي حَدثَتْ، و زْنِياً، في سياق هذه التجربة، ظلت محدودةً، لأنَّ النص كان، آنذاكَ مُنْهَمِكاً في مَوْضوُعِهِ، أكثر مما كان الشِّعْرُ، كموضوع، في ذاته، أو في شَرْطِهِ الشِّعري، أو الجمالي، هو ما يَحْكُمُ سياق التجربة، أو يُوَجِّهُها.

لا يمكن إنكار القيمة الشِّعرية، لنصوص هامة في هذه التجربة، كما لا يمكن نسيان، أن محمود زَاوَلَ الشِّعرَ بِحِذْقٍ، و بِحِرَفِيَة خاصة، لكن حِجَاب الموضوع، كان، في هذه النصوص ذاتها، يُعَتِّمُ الشِّعْرِيّ، وَيُلْبِسُه لِباسَهُ، هذا ما جعلَ النص كَجَسَدٍ، يَحْدُثُ بِحِجَابٍ، شَفَافَتُهُ ستَظَلُّ مُؤَجَّلَةً إلى حينٍ.

[3]

المفهوم المُشتَرَك، الذي حَكَمَ تجارب شُعراء مُحدَّدِين، تَحَدَّروا من نَسَبِ السِّيَاب، هو ما ظل يَسْرِي في الشِّعْرِيَةِ العربية، و هو ما كانت " شعر "، بتأثير الشِّعْرَيْن؛ الأمريكي و الفرنسي، الحديثين، تعمل على تحويله، و الخروج به من أرضه المُفْعَمَةِ بقديمها، إلى أراضٍ بَدَتْ، آنذاكَ، ذات نَسَبٍ بعيدٍ، أو أصلٍ، هو غير الأصل الذي به احْتَمَى أحفادُ السياب.

درويش، لَمْ يَنْسَقْ وراء هذه التجـربة، و لم يخُضِ الحداثة، بمعنى " شعر "، فهو، كان، كما قال في أحد حواراته، ما زال، آنذاك، يُقيـم في مرجعياتٍ شِعْرِيَةٍ، بعيدةٍ عن هذا الذي جـرى قريباً منه. فالقضيةُ، كانت في ذِرْوَاتِها، و كان الشِّعر، في المفهوم العربي، الذي ارتبط، بمفهومات، من مثل القومية، أو الالتزام، أو غيرها مما انتشر في ثنيات الخطاب العربي، طبعاً بما كان يَفِدُ من هَبَّاتٍ آتيةٍ من هنا و هناك، كان ما يـزالُ، أداةً لِحَمْلِ أعباء هذا الوَافِدِ، أو المرآة التي عليها تنعكسُ كُل أحداث، الزمن، و انتكاساتِهِ.

[4]

لم يَخـرُج درويش، فـي " أحد عشـر كوكباً "، عن الموضوع، بل عَمِلَ علـى تَوْسِيعِه. لم تعُـد القضية، فـي إطارها الشخصي،

أو القومي الضيِّق، هي موضوع الشاعر، فهو نَقَلَهَا إلى بُعدها الإنساني، و جعل حَجْـمَ المأساة، يَتَّسِعُ، ليشمل الضميرَ الإنساني، و لتصير المأساة، شامِلَةً، لها تاريخ، يعودُ إلى أبْعَـد مما كان الشاعـر نفسه يعتقدُه من قبـل. المأساة ليست عربية، و لا هي مسألة هوية، إنها مسألة ضمير إنساني، فَقَدَ كُلّ شروط إنسانيته، ليجعل من الدَّم و الإبادة، لُغَتَهُ التي بها يُؤسِّس لِوُجُودٍ، هو الوُجُود كما يراه هو، لا كما هو مَوجود. أي وُجُود بالدَّم، لا وُجُوداً بغيره.

لعلَّ في توسيع حدود القضية، و في هذا البُعد الإنساني، الذي به، غَيَّر محمود درويش اتِّجاه القضية، ما جعلَ الشِّعْرِيَّ، في تجربته هذه، يَصير غير ما كان عليه من قبلُ. ضاعَفَتِ اللُّغَة تَخَفُّفَها مِنْ أحْمَال الصُّوَر، و الاستعمالات البلاغية الثقيلة، و خـرجَ بالنص، من شِعْرية الوزن، إلى شعرية الإيقاع. الوزن صار رَقْماً ضمن مُعادَلَةٍ، لا يمكنُ حَلُّها بالاكتفاء بأحد عناصرها، فهذا سيكون ابْتِساراً، ونوعاً من الاجتزاء غير المقبول، لِما لا يقبل التجزيء.

[5]

في ديوان " لماذا تركتَ الحصان و حيداً "، لم تَعُد تجربة النص الواحد هي ما يحكُم العمل، كما حَدَثَ في " أحد عشر كوكباً ". نصوصٌ قصيرةٌ، الذَّاتُ فيها، في تَقاطُعاتِها مع ماضيها، مع الشخصيِّ البعيد، هي ما يجمع بين هذه النصوص، و يُوَحِّدُها، رغم انْفِصَالاتِها، في مستوى العناوين، و الصفحات.

ثمَّة لُحْمَة بنيوية تَشُدُّ نصوص الديوان، و تُوَحِّدُها، هي " نثـريةُ إيقاعاتِها ". و لن أستعمِلَ مفهوم الصديق صبحي حديدي الذي، اعتبرها نثرَ وَزْنٍ. فهو ذهبَ، بانتباه سَدِيدٍ إلى إحدى أهَمِّ خُصوصيات تجربة درويش، لكن ليس في ما سماه بـ " قصيدة النثر " التي كتبها في بعض نصوص السبعينيات، أو غيـرها، بل إن الأمـر، يطـالُ ذلك ليشملَ علاقـة درويش باللغة من جهـة، و بمفهومه الجديـد للشِّعر، الذي، لم يعـد مُقْتَصِرأً، علـى ظلال تجربـة ( الرواد )، أو من جاءَ بعدهم، فهو قَلَبَ المفاهيمَ، و لم تعد قضيتُه الشِّعرية، هي ما يفصل الوزن عن النثر، بل صارت أكبـر من ذلك بكثير، لأنها أصبحت مسألةَ شِعـْرِيَةٍ، لا تكتفي بالبناء الكلاسيكي للشِّعر، بِحَصْرِهِ في القصيدة، و لو أن محمود بَقِيَ نظرياً يُسمِّي عمله هكذا، بل سَتَعْمَلُ على العودة بالشِّعـر إلى أُصُوله الأولى؛ إلى اللغة، قبل أن يَتِـمَّ فَصْلُها، أو شطرُها إلى ما هو نثر و ما هو شِعر. محمود، في ما تَلا تجربته الأولى، زَاوَلَ الشِّعـر بانشراحِ المفهوم، بإحراج الخليل، في أكثر من مكان، و بالنظر إلى النص، إِبَّانَ انكتابه، لا بما هو مَوْجُود، و سابق.

[6]

سَيُصبِحُ هذا النوع من الكتابة المُتَحَلِّلَةِ من سُمْك تعبيراتِها البلاغية، هي الأفُق الجديد الذي سارت فيه تجربة درويش. " الجدارية "، كانت نوعاً من الكتابةِ السَّائِلَةِ. أوَدُّ أن أُذكِّرَ هنا، باستعمال القُدماء

للماء، في حديثهم عن الكتابةِ، أو عن الشِّعر تحديداً. فِعْلُ الماء، في الكتابة، هو أحدُ أسرار انْسِيَابِها، و ما تَحْفَلُ به مِنْ تَنَوُّعاتٍ في إيقاعاتِها. لم يَعُد الوزنُ في حدِّ ذَاتِهِ مُشكلةً، أو هكذا وَصَلَ درويش إلى قناعَتِهِ الخاصة، التي سَتَنْجُو به من فِخاخ الصُّوَر، و التعبيرات المُشْتَـرَكَةِ، في قَديمِ الشِّعر، و حديثه.

كانتِ " الجداريةُ "، لحظةَ أَلَقٍ شِعْرِيٍّ، فيها وَضَع محمود يـَدَهُ على نَبْضِ شِعْـرٍ آخرَ، فيه، اللُّغَةُ تَنْسَابُ، كما لَوْ أنَّها النَّهْرُ الذي لا يَتَعَثَّرُ، أو تَخْنُقُهُ احْتِبَاسَاتُهُ.

فـي حديثي مع محمود، في رام الله، فـي هذا الموضوع بالذات، و خَاصَةً، ما تعلَّق، بالعلاقة بين الإيقاع، و انْسِيَاب الماء، و تَدَفُّقِهِ، كانت اسْتِجابَتُهُ واضِحَـةً، و اعتبرَ أنَّ الشِّعْـرَ اليـومَ، و هو كان فـي لحظـةٍ ما يَعْتَبـرُ " الجداريةَ "، رُبَّما آخر عملٍ لهُ، في حَاجَةً لِتَنْويعِ شِعْرِيَته، و للخروج باللغة من سُمْكِها، بالمعنى البلاغي، إلى حالة مَنَ الانْشِراح، و التَّدَفُّق، أو ما سَمَّيْتُهُ بالسَّيَلانِ.

ليس عَبَثاً أن يكون محمود مُعْجَباً بتجربة سعدي يوسف، و مُتَحَمِّساً لها، فهو كان يرى فيها استجابَةً لِشِعْرِيَةٍ، نَأَتْ بنفسها عن اختياراتِ الكتابةِ الكلاسيكيةِ، و أَحَلَّتْ مكانَها، كتابةً، تَسْتَبيحُ اليَوْمِيَ، ليس في

ألفاظه، و تراكيبه، بل في سَلاسَتِهِ، و ما بِهِ يَحْدُثُ الكلام بلا كُلْفَةٍ، أو ذهابٍ لِما صارَ اليومَ بعيداً عن اسْتِعمال الناس، و عن حساسية القاريء الحديث نفسه.

ثمة مَنْ يَخُوضونَ هذا النوع من الاستعمال اللغوي، لكنهم يُوَلِّفُونَهُ، وفق سياقٍ شعريٍّ بِهِ اتَّسَمَتْ تجربتهم، و تَسَمَّت. أُذّكِّرُ هنا بتجربة الشاعر المصري، محمد عفيفي مطر، مثلاً، أو بتجربة سليم بركات التي كان محمود يعتبرها، و فق اختيارها هذا ذات أهميـة خاصة، و هي كذلك بالفعل.

[7]

في النصوص الأخيرة التي نشـرها درويش، في جريدة " القدس العربي "، قبل وفاته، و في ما ظهـر بعد موته، كان واضِحاً لِي، على الأقل، أنَّ يَدَ محمود اسْتَطَابَت مَاءَها بِسَلاسَةٍ نادرةٍ، و بَدَتِ التجربة، في أُفُق ما يجري عربياً، قد انْعَطَفَت عمّا كانت تَخُوضُهُ من قبل، و أنَّ محمود كان في كُلِّ نَصٍّ يُضاعِف جُرُعات التجريب أكثر، رغم أنه، في ما كتبه، في آخر حياته، بَقِيَ على صِلَةٍ بِنَسيجِ بناء " الجدارية ". المسافةُ، رغم ذلك، أصبحت أوسع، لأنَّ محمود لم يكُن مُغامِراً كبيراً في مجال التجريب الشعري، كما هو الشأنُ عند بعض مُجايِليه أو مَنْ جاؤوا بعدَه.

صحيح، أنَّ محمود بَقِيَ حَريصاً على شفَاهِيَةِ نُصُوصِهَ، و قابِلِيَتَها لِلإنْشَاد بِجُرُعاتٍ عاليةٍ، لكن النصوص الأخيرة، بَدَا فيها المَكْتُوبُ

حاضراً، من خلال اختياراتِ محمود في بناء الصُّوَرِ، و في انتقاء جُمَلٍ مُرَكَّبَةٍ، من حيثُ بناؤها، رغم أنَّ الشفاهِيَ يتدَخَّلَ دائماً، لِفَرْضِ حُضوره، باعتباره أحد مُهَيْمِناتِ الاختيار الجمالي لدرويش.

الذهابُ إلى الكتابة، ليس اختياراً شاملاً في تجارب (الرواد)، و مَنْ أَتَوْا بعدَهُم، فهو نوع من الوعي الشعريِّ المُتَأَخِّر، الذي حَدثَ التَّنَبُّهُ لهُ، في الثقافة العربية، بعدَ وَعْيِ الصفحة، كدالٍّ من دَوَالِّ النص الشعـريِّ، أو ما سَمَّيْتُهُ بـ " تمجيد الصمت "، فـي كتابيَ الأخيـر " نداء الشِّعر ".

كُنتُ نَبَّهْتُ، إلى أن محمود، في ما يتعلَّق بالصفحة، وتوزيع الأسطُر، بقيَ مُلْتـَزماً بنفس نمط توزيع السَّطر الشِّعري، كما ظهـرَ فـي التجارب الشعرية الأولى لِما سُمِّيَ بـ " الشِّعـر الحُـر ". لم يَحِدْ محمود عن التوزيع العمودي للأَسْطُر، و لم يعبأ بالصفحة، كدَالٍّ، فهو واصَلَ رِهانَهُ الشفاهي، المُلْتَصِق، بطبيعة ذائقته الشعرية، التي لم تَبْـرَح، في اختيارها القديم، سُلُوكَ المتنبي، أعني، ما كان يَحْرِصُ المتنبي على اختياره من صِيَغٍ، تُتِيحُ له أن يُخاطبَ مُسْتَمِعيه.

لم يتنازل درويش عن هذا الشرط، رغم أنَّه خَفَّف كتابتَهُ من أحْمالِها السابقة، و وَسَّعَ مِسَاحَةَ الكِتابي فيها.

[8]

لا أعتقدُ أن محمود، في ما مضى من مراحل مُعَانَاته مع المرض، و ما كان يبدو له، بِحَدْسِ الشَّاعرِ، طبعاً، من نهاياتٍ وَشيكَـةٍ، كتب وصيتَهُ إلى " شاعر شاب "، بتأثير ريلكه، أو غيره، المسألةُ في وضع محمود أَعْقَد من ذلك بكثير، فهو، حين اختار أن يكتُبَ وصيتَهُ شِعراً، كان يَضَعُ كتابتَهُ في مُواجَهَةِ مُسْتَقْبَلِها، أي في مُواجَهَة القادم من تجارب، في الشِّعر، و في الكتابة.

فـي الوصية، دَعَا محمود إلى شِعْرٍ، هو غيـر ما كَتَبَهُ هو نفسُهُ، و هو غيـر مَا هو مَوْجُـود من مُقْتَرَحـات شِعْـرِيَةٍ. كُلُّ الشِّعـر لا يصلُح أن يكون نموذجاً، أو بالأحرى، فتجربةُ الشاعر، تَخُصُّهُ هو، و هي تَوْقَيعه الخاص، و لا تعني غيره ممن هم قادمون، أو مَنْ ما زالـُوا يَخُوضون الشِّعـر، كاختيار في الكتابة، و في التفكير.

رغم ما عُرِفَ عن تَشَبُّت محمود، بمفهومٍ لِلشِّعر، يَسْتَمِدُّ بعض أُسُسِ شِعريَتِه من الموروث الشعري القديم، فهو، فـي الوصية، عَمِلَ على النَّظر إلى الشِّعر، بِرُؤْيَةٍ أَوْسَع، و خارجَ النَّمَطيَةِ، سواء كانت، نمطية شخصيةً تَخُصُّ شاعراً بعينه، أو نَمَطِيَةً مُشْتَرَكَةً، تَهُمُّ الشعر بشكل عام.

ليس ثمَّةَ " منهج " بتعبير هاروكي موراكامي، يحظى بسُلطةً ما، الشِّعريُّ، الذي هو صِنْوٌ للشخصيِّ، و لكُلِّ ما هو خاص؛ دَمُ الشاعر و هو يكتُب، هو ما كان محمود، يَحْرِصُ، في الوصية على تَثْبِيتِهِ.

يقول، الروائي الياباني، هاروكي موراكامي، و هو يختزلُ، جوهرَ ما ذهبَ إليه محمود في وصيته؛ " عندما يتحَوَّلُ الفردُ إلى جُـزء من المنهج، فهو يفقد الجزء الأكثر حساسيةً، و أهميةً في نفسه، و هو القدرة على أن يَشْعُرَ و يُفكِّرَ بنفسه ".

أن تكونَ أنتَ.
لاشَيْءَ إلاَّ أنتَ.
لا دَمَ إلاَّ دَمكَ الشَّخْصِيّ.
بعيداً عن الآخرين، في ما أنتَ تُحَايِثُهم، و تُنْصِتُ لِدَفْقِ دِمائِهم.
قُدْرَتُك على التفكير بما يَشْغَلُك، لا بما يشغَلُ غيركَ...

هذا هو جوهـر ما كان محمود يُدْلِي به في وَصِيَتِهِ. لم يُوصِ محمود بشعره، و لا بأشيائه الصغيرةَ التي تَرَكها، مما كان يَمْلِكُهُ. فهو أوصى بالشعر، و اختار المُستقبلَ، لا الماضِيَ، كـزمَنٍ، راهَنَ محمود على قُدُومه.

زمنُ الشعر، هو المستقبلُ دائماً، بعكس غيره من الأجناس الكتابية الأخرى، التي، ربما اختارت الرَّاهِنَ دون غيره. ما يعني أنها تَتُوقُ للماضي، أو لِما هو في طريقه نَحْوَ المُضِيِّ.

[9]

لا صِلَةَ لِوَصِيَة محمود، فـي تَصَوُرِها هذا، بوصية أبي تمام للبُحتري. فأبو تمام، كإضافة نوعية، أو كقيمة شعريةٍ استثنائية في الشعر العربي، حين أَقْدَمَ على كتابة وصيته، فهو اختار النثرَ، و لم يكتُبْها شعراً، كما فعل درويش. رسالة أبي تمام، رغم ما اتَّسَمَت به شِعْرِيَتُه من استثناء، في لُغَتِها، و في طبيعة العلاقة التي تُقيمُها اللغة مع الأشياء، فهو كانَ يَحُـثُّ البحتُرِيَّ على اتِّبـاعِ القاعـدة، و على قياس الثوب، بنفس قياس الجِسم؛ لا زيادة و لا نُقصان. عَمَلُ الخياط، هو ما أوْصَى به أبو تمام الشَّاعرَ البحتريَّ. محمود درويش، لم يذهب إلى القاعدة، بل أَكَّدَ على الاستثناء، و فتحَ أمام الشاعر القادم، أُفُقاً أوسَع. الشَّخْصِيُّ، هو ما يجعلُ من الشِّعر يَحْدُثُ خارجَ المعيار. كُلَّما انتَفى دَمُ الشاعر، أو تَوارى خَلْفَ دِماء الآخرينَ، تلاشَتْ ذاتُهُ، و امَّحَت. هذا ما لم يكُن محمود يرغَبُ فيه، بل إنَّ وصيَتَهُ كانت أكثر كَرَماً مما هو مُتَوَقَّع، لأنَّهُ لم يُمَجِّد نفسَهُ،

أو جعلَ من نفسه صَنَماً، بل عَمِلَ نفس ما عَمِلَهُ لاَوتْسُو، في كتابه الذي فيه وَضَع فلسفة " الطَّـاو "، فهو جعل الشِّعـرَ، فـي وصيته " أَصَمّاًَ فَارغاً .. مُسْتَقِلاًّ، و غير قابل للفساد "، كأنَّهُ يَشْرَعُ في الانْكِتابِ للمرَّة ألأولى، و كتابَتُُهُ تَحْدُثُ دونَ سابقِ عَهْدٍ بالكتابة.

إذا نظرنا إلى الموضوع من زاويةٍ شخصية، أعني كشُعراء، سيبدو لنا الأمر غير قابل للتَّصديق. كيف يُعقل أن يَدُوسَ محمود على كل هذا الماضي الشعري، على القوانين، و ما ظـلَّ هو نفسُهُ يُدِينُه مـن كتابات أساءت للشِّعـر كثيراً، أو اختزلته في نموذج واحـد، أو نمط، بديل، هـو " قصيدة النثر "، ليفتحَ، في آخر حياته، الأرْضَ على عواهِنِها، أمام القادمين؟ أهذا مَأزقٌ وَضَع فيه درويش الشُّعَـراء جميعاً، فيما تجربته هـو أصبحت ذات سيـاق شعـري خاص بها، أو امتلكت بالأحـرى، مَناعَتَها، بتوقّـُفِ إنْتَاجِيَتِها، أم أن محمـود وَضَع الشِّعـرَ، كاملاً، بكـلِّ أشكالـه، و مُقْتَرَحاتِهِ، في نَفَقٍ مُغْلَقٍ، و اختارَ أن يَذهبَ إلى القادمينَ، ممن قد يَكونُ الوَعْدُ الشِّعْرِيُّ مِلْكَ يَدِهم، أو هُم مَن سَيُكَمِّلُونَ، ما بَدا لِبَعضِ الشُّعراء، في " قصيدة " درويش، خَطَأً عَروضياً، أو مَسّاً بإحدى قِلاع الشِّعر التي مازال هناك من يَخْتَزِلُ الشِّعرَ في صَلاَبَتِها.

محمود عَرَفَ ماذا فَعَلَ، و حين كتب وَصِيَتَهُ، فهو كان في كامل وَعْيِه، لا يحِقُّ أنْ نَحجر علـى وصيته، و نعتبر ما وَرَدَ فيها، من

نِكَاياتٍ عروضية، غير مقبول، أو لا ينبغي تَمْريرُهُ. الأمر، في مثل وضعِ شاعرٍ كمحمود، يَحْتاج إلى نظرٍ، و إلى غير القراءات ذات الاتجاه الواحد، ثمة إيقاعاتٍ، في ما تركه محمود، لا يمكن اختـزالُها في الوزن و القافية، أو في ما طالَ الوزن من جمع بين وَحَدَات تفاعيل جاءت من غير المكان الذي أَلِفَت أن تكون فيه. ثمة رسالة، و راء كتابة محمود لوصيته شِعْراً و ليس نثراً، علماً أن كتابة الوصية نثراً، كان بإمكانه أن يكون ذا قيمة إضافية، مثلما في النص الشعري. لا فرق في وضع محمود، فهو يكتُبُ، في الحالتين، بلغة راقيةٍ، جميلة، و تتميز بسلاسةٍ خاصة.

قد يحدُثُ أن تقع الأخطاء في الطباعة، و في عملية النقل، أو المراجعة، و هذا ما يمكن تدارُكُه، دون الحاجة إلى " عَروضيين كبار! "، أو صغار، لكن ما يُقدِم عليه الشاعر، في سياق تجربةٍ، هو اختـار أن تَتَلَوَّنَ أََنْفاسُها، و تَتَصَادَى، في سياقٍ إيقاعـيٍ، قد لا يَجِدُ، قَبولاً، في أول الأمر، لكنه، حتى لا ننس جوهر الوصية، هو إيقـاعُ زَمَنٍ شِعْرِيٍّ، هو غير زمن " الأذُن العربية " التي كانت تنعَمُ بالصَّوتِ المُفرد، و بالغناء ذي الأساس الإيقاعي المُشترك.

ألم يحدُث هذا مع عبيد بن الأبرص، و مع أبي العتاهية.. وغيرهما، هؤلاء الكبار، الذين يأخُذُنا شعرهم اليوم، إلى أفُق شعريٍّ، فيه نَتَلَمَّسُ شَعْرِيَةً لها جماليتُها التي ما نزال نَنْعَمُ، في ضِيَافَتِها، بِكَرَمٍ لا مَثِيلَ لِسَعَتِهِ.

[10]

" الطُّرُقُ اللاَّنهائيةُ "، هذا هو مَجْهول الشِّعر الذي أراد محمود أن يفتَحَهُ أمام الآخرين. أعرفُ أن محمود قرأ بعض كتابات هايدغر، و لهذا المفهوم الذي استعمَلَهُ في وصيته، ما يُشيرُ إلى " طُرُق " هايدغر، أعني إلى كتاباته التي لم يعتبرها، في نوعها تنتمي إلى الفلسفة أو الفكر، فهو اعتبرها طُرُقاً، أي بما تفتحُه من مجهولاتٍ أمام قارئها، لا بما تُكَرِّسُـه من مفاهيـم راسخـة، و من مُسَلَّمات، و ثوابت. هو نفس ما فعلَهُ محمود في الوصية، فتح طريقاً، أو طُرُقاً بالأحرى، لا نهائية، أمام القادمين، هي طُرُق الشِّعر، التي، ربما اسْتَشْعَـرَ محمود أنها في لحظة ما ستصير طريقاً واحدة، لا تُفْضِي إلى أي أُفُق؛ ما يُغْلِقُ الشِّعـرَ و يُنْهِيهِ، فـي نفس الوضع الذي آلَ إليه مع أوزان الخليل، التي ليست هي أوزان الشُّعراء، أي ما كان يَعْتَمِلُ في جسم النص من إيقاعات. فالخليل، و من جاؤوا بعده، حفاظاً على النموذج، و على انسجام القاعدة، وقابليتها للوحدة، فهُم أبْعَدوا الكثير من التجارب، لأنها ستفتح مزيداً من الطُّرُق، و قد تُفضي بالتالي إلى انفراط حَبَّات السبحة كاملة، و القاعـدة تصير احتمالاً، أو ما لا يقبلُ التَّشريعَ، أو النمطيةَ التي كان الخليل يحرصُ في مشروعه النظري على تثبيتها، لوضع الثقافة العربية في إطارٍ تشريعي، ينسجم مع ما شَغَل الفقهاء، و علماء اللغة، و غيرهم ممن زَاوَلُوا التدوين.

ثقافةٌ لا تقبلُ الطُّرُق، هي ثقافة " الطريق المُستقيم ". السَّير في نفس الاتِّجاه؛ الاتِّباع، و الاقتفاء. و القافية، هي إحدى صُور الاستقامة، و كذلك الوزن، بما هو تتالٍ، و اقتفاء.

محمود، في الوصية خرجَ عن هذا المفهوم، في أول نص الوصية، يُحَرِّض على " النسيان "، و على " الابتداء ". فـ " الحقيقـة بيضاء "، لا حقيقة في ما كانَ، أو قيلَ و َكُتِبَ من قبل.

في مفهوم النسيان، يعود بي محمود إلى وصية خلف الأحمر لأبي نواس، حين دعا خلف أبانواس لحفظ ألف بيت من شعر مَنْ سَبَقُوه، ليجـد نفسه مدعُـواً لنسيانها بعد أن كَلَّف نفسه جُهـداً في الحفظ و المراجعة. فخلف، كان يقول لأبي نواس، كشاعر قادم، كُنْ أنتَ، و لا تَسِرْ في أراضي الآخرين، اعْرِفْهُم، لكن انسَ طُرُقَهُم، و افْتَح طريقكَ أنتَ. " ابْتَدِيءْ مِنْ كَلامِكَ أنْتَ ".

هذه ليست مُصادَفات، كُل هذه التقاطُعات التي حَدَثت بين محمود، و هؤلاء الذين اسْتَحْضرناهُم، من قديم الشِّعر، ومن حديثه، هي أمور درَسَها محمود، و يعرفُها جيِّداً، و حين قَرَّر أن يكتُب وصيتَهُ اختارَ البادئينَ، لا مَنْ كانوا " امتداداً " لغيرهم.

ألم يكُن محمود في " لا عب النرد "، يفتَحُ هُوَّةً في قراءتهِ ذاتِها، أي في وضع قُرَّائه، في منعطف تجربة ستبدو المسافةُ فيها أوْسَع مما كانت تَحْدُثُ من قبل، و صارت اللعبةُ نوعاً من المجهول، لا تُقاسُ

مُتْعَتُها بالربح، أو الخسارة، بل بتلك الدَّهشة التي تطال اللاعبَ وهو ينتظر ما ستُفضي إليه اللعبة من مآزق، وما تُتيحُه من طُرُقٍ، لا عهدَ لِلاَّعِبِ بها، أو لم تَرِد في تَوَقُّعِهِ.