في المسألة 124 من كتاب ‘الهوامل والشَّوامِل، سُؤالات أبي حيان التَّوحيدي لأبي علي مسكويه’، يسأل التوحيدي، مسكويه عن عَروض الشِّعر ‘ لِمَ صَارَ العَروض رَدِيءَ الشِّعر، قَلِيلَ الماء، والمطبوع على خِلافِه؟ ألَمْ تُبْنَ العَرُوض على الطَّبْع؟ أليستْ هي ميزانُ الطَّبْع؟ فَما بَلُها تَخُونُ؟’.
في السُّؤال ما يُشِيرُ لمعرفة التوحيدي، العميقة بـ ‘إيقاع الشِّعر’، فهو هُنا لا يسأل عن ‘الوزن’، بالمعنى الذي كان يجرى به عند القُدماء، من نُقَّاد الشِّعر، بل يعتبر الوزن، صَنَاعةً، أو آلةً، أصبحت في يَدِ من يستعملونها، خارِجَةً عن الطَّبْع، أي عن الشِّعر الذي يصدُر عن بديهة الشَّاعِر، وعن معرفته بالنص، قبل معرفته بعَروضه، الذي كان الخليل هو من اسْتَنْبَطَه، وأن الشُّعراء، لم يكونوا يعرفون شيئاً عن هذا الذي صارَ عَروض الشِّعر، أو مِعْرَاضَه، أي ميزَانَه الذي يُقاس به ‘صحيح الشِّعر من فاسِدِه’!. فهذا الشِّعر الذي اكتفي بالعَروض، كَحَدٍّ للشِّعر، صار، في سؤال التوحيدي ‘رَدِيءَ الشِّعْر’ لا ‘مَاءَ’ فيه، بما تعنيه كلمة ماء من جريانٍ وتَدَفُّق، وسَلاسَةٍ، وهو ما يُوحِي بتمييز التوحيدي بين ‘الوزن’ و ‘الإيقاع′، حتى دون أن يُفْصِحَ عن المفهوم، أو يعمل على تَنْظِيرِه.
مَنْ يعود للمُقابسة 60 في كتاب ‘المُقابسات’ للتوحيدي، ‘في النثر والنَّظْم وأيُّهُما أشَدّ أثراً في النفس′، يِدْرِك، تمييز آبي حيان، على لسان أبي سليمان، بين الوزن والإيقاع، خصوصاً في ما يقوله عن طبيعة العلاقة بين ‘النثر’ و ‘النَّظْم’، فهُما في حاجة لبعضهما، في كُلِّ واحد مِنْهُما ظُلٌّ من الآخر. ‘فَفِي النثر ظِلُّ النَّظْم، ولولا ذلك ما خَفَّ ولا حَلا ولا طَابَ ولا تَحَلاَّ، وفي النَّظْم ظِلٌّ من النثر، ولولا ذلك ما تَمَيَّزَتْ أشْكالُه ولا عَذُبَتْ مَوارِدُه ومَصادِرُه، ولا بُحُورُه وطرائقُه، ولا ائْتَلَفَتْ وَصَائلُه وعلائِقُه’. فلا نثر دون شِعْر، ولا شِعْرَ دون نَثْرٍ، وهو ما يَسْنِد ما كنتُ قلتُه، في مفهوم الكتابة، كما ذهبتُ إليه في كتاب ‘حداثة الكتابة في الشّعر العربي المعاصر’، من أنَّ اللغة، هي في أصلها لم تكن بهذا الفصل، ولا بهذا التمييز، الذي، يمكن معه اعتبار ‘لغة’ الشِّعر، غير ‘لغة’ النثر، وكأنَّنا إزاء لُغَتَيْن، تَحَدَّرَتا من مصدريْن مختلفين، في ما هي نفس اللغة، يَدُ الشَّاعر، هي التي تَنْأَى بها عن العام، الذي يجري على لِسان ‘العامة’، لينقُلَها إلى الخاصّ، الذي هو لُغَةٌ هي اللغةُ ذاتُها، لكنها خارِجَةٌ من لِسان قائِلها، أو من يَدِ كاتبِها، وهذا لا يظهر في مستوى المفردات، كما حاكَم النُّقَّاد أبا نواس، واتَّهَمُوه باستعمال ألفاظ الفلاسفة، بل يظهر في التركيب، وفي صياغة العبارة، أو الجملة، التي هي الصورة الشِّعرية، بما تحمله من جِدَّةٍ في إيقاعاتها، أي بما سَمَّاه التوحيدي ‘إنشاء الكلام الجديد’، والذي اعتبره ‘أيْسَر من تَرْقِيع القديم’.
جواب مسكويه، سار في هذا المعنى، وحَرِص على توكيد الفرق، بين شِعْرٍ يصلُح لِزَمَن ولِسانٍ، ويكون أيْسَرَ وأسْهَل على لِسانٍ منه على آخر، وهذه إضافَة مهمة من مسكويه، لا بُدَّ من الإنصات لها، باعتبارها تأكيداً على مفهوم الإيقاع، الذي كان حاضراً في وعي بعض القُدماء، ممن أدْرَكُو عُمْق الشِّعر، وفصلوه عن ‘النَّظْم’، الذي هو ‘رَدِيءُ الشِّعر’.
November 18, 2013