(مداخلات في الشعرية والشعراء)

شاكر لعيبي
(العراق/ سويسرا)

بُنية النصّ الشعريّ

(بحث في النواة)

يحاولُ هذا المبحث طرح أسئلة بريئة، إذا كانت هناك أسئلة بريئة، من قبيل ما الذي يجعل نصوصاً شعريةً قديمة، ضاربة في القدم أحياناً، تمتلك هذه الجدة والطراوة في عيوننا نحن المعاصرين، وما الذي يجعل نصوصاً شعرية حديثة تحتفظ هي بدورها بشعريتها وتشترك بهذه الشعرية مع تلك النصوص، ما هي علة استمرار (الشعري) في التاريخ؟ لكأن السؤال يتمحور حول الذي يمنح الشعري شعريته، وهو سؤال جوهري، معاصر. ولكننا نتحدث عن الشعر العربي خاصة.
لقد لوحظ بوفرة، بحيث صار الأمر بداهة تؤكد نفسها بنفسها، أن الإرث الشعري وغير الشعري العربي، مثقل بالثمار جميعاً، بالمزاجات والتيارات كلها، ولو أن زعامة مدعومة وطالعة من بُنية أخرى غير بُنية النص ما فتئت تولّد بعضاً فقط من تلك المزاجات، بحيث أن غالبية المحاولات النقدية الحديثة، أو القراءات المتقصية لهذا الإرث ما فتئت هي بدورها تحاول، مدعومة هذه المرة، ببنية أخرى غير بنية النصوص أو الظواهر نفسها تنحية الكثير من ذاك المزاج وإشهار المزاج الذي لم يكن رائجا، وما كان سوى محض هامشي، أو جرى، ببساطة، لسبب من الأسباب، تهميشه لكنه يلتقي بهوى سائد اليوم.
قراءات ما انفك بعضها يتعسف وهو يفتش عن مفاهيمه ومصطلحاته في مفاهيم أخرى ذات مصطلح آخر وبنُى أخرى. أو أنه يؤكد أن ما نظنه تمام الجدة إنما جرى المرور عليه على الأقل إن لم نقل تناوله بدرجة من الدرجات، فتكون المسألة برمتها بالنسبة إليه مسألة درجات فحسب، حيث كل شيء سبق أن تعوطي وأُبدع بشكل أعمق أو أقل عمقاً، إنه يقول مستنتجاً أن من "فحش الأغلاط الظن بان الحداثة هي شيء من مبتكرات العصور الحديثة.." (1) . هل هذا الاستنتاج صحيحٌ؟.
إن مسألة الشعري، في تقدير هذا المبحث، هي مستوى أولي، جوهري، يجب أن يغتني بالفحص قبل الذهاب خطوات أخرى إلى الأمام، رغم انه مستوى لا ينفصل عن البُنى الأخرى، ولكنه مستوى يحتفظ بنواته الخاصة به، نواته الجوهرية. لنرَ قبل المضي بعيدا أن جزءً أساسياً، بل واسعا، من هذه المحاولات لقراءة الإرث تنحو نحو يقين يقول بان النزعات التي نعرفها اليوم كانت مبذورة في رحم تراثنا وتراث العالم، وانه يعجُّ بها جميعا (لن نفعل سوى أن نصف هذه المحاولات لا نقدها ولا تأبيدها) وإن اتجاهات قرننا في الفكر تجد لها أصولاً عريقة تمتدّ إلى ماض سحيق، اعتمل بها اعتمالاً أو اشهرها بذات الظلال، وربما الدقة، التي يمكن أن تظهر بها لاحقا. إن الماركسيين هم اكثر المروجين لهذه (النزعة) لأننا، حسب حسين مروة مثلاً والطيب تيزيني نلتقي بعناصر مادية كثيرة لدى فلاسفة العصور الإسلامية السابقة، وأن بمكنتنا رؤية بعض مبادئ الديالكتيك في منهج فيلسوف مثل الشيرازي المتوفى سنة 1640م حسب (2)هادي العلوي.
وأن بمكنتنا التقاء مقاربات لسانية، مهمة، مثل التي نعرف اليوم، حسب ليس واحد من النقاد المعاصرين، إلى (ابن جني) و (ابن فارس)مثلا، وأن نعتبر: "عبد القاهر الجرجاني (...) آخر باحث عربي نعرفه الآن حاول أن يقيم بناء نظريا متكاملاً لفهم الظاهرة الأدبية عن طريق أسكتناه تجسدها النصي" (3)، حسب كمال أبو ديب الطالع من حداثة نقدية لا شك فيها، تلتقي، رغم ذلك، مع تزمت نقدي كما لدى باحث مثل إبراهيم السامرائي بشأن الجرجاني نفسه: "نأتي إلى عبد القادر الجرجاني فنجد انه بسط في كتبه، ولا سيما (دلائل الإعجاز) من العلم اللغوي ما نستطيع أن نقرر بعبارة عصرنا التي استميح الدارسين عذرا في استعمالها في هذا السياق القديم: إن الفكر البنيوي بلغ مستوى من النضج يطمئن إليه الدارس مستفيدا يملؤه إعجاب وفخر.." (4) . أما النزعات الشعرية، فانه لأمر كثير الدلالة النظر إلى (المختارات) الشعرية التي حاول الشعراء والنقاد العرب طرحها على الجمهور، ففيها يجري تلميحاً في الغالب، أو تصريحاً، اللقاء بفكرة مؤداها أن النزعات والأخيلة والرؤى والاتجاهات الشعرية السائدة اليوم تجد لها أسا في شعر سابق علينا. إنها مختارات تنزع، من طرفها، إلى توكيد ذات الفكرة التي جرى تطبيقها على تاريخ الفكر، بذات الاحتراس لان القضية كما يطرحها أدونيس مثلا، بشيء من البساطة الخلاقة وبدراية، إنما هي قضية ثابت سلطوي، جامد الرؤى، وغير مهتم بالمغامرة، ومتحول يقف على مسافة من ذاك الأول، خلاق. إن محاولته في اختيار (الشعري) عبر قرون من الإنجاز الشعري العربي تود، في عمقها،البرهنة على أن الشعري يقف خارج العصور، إن اختياراته تذهب، من طرف آخر، إلى توكيد ذات النزعات الموصوفة أعلاه.
إن اختيارات الجواهري الشعرية تنحو المنحى نفسه، ليبق الفارق الجوهري بين الاثنين هو الاختلاف في فهم الشعري ذاته، لان أدونيس، في اختياراته كما في بحوثه حول الشعر، يفتِّش عن جوهر الشعري، أي ما يعطي اللغة أفقها الشعري المستمر في التاريخ، في غرابة الصورة تارة، أو في مطابقتها لهاجس لغوي أو تخيلي معاصر، وتارة لمجرد سيادة الصورة ذاتها في البيت الشعري أو في المقطوعة المنتخبة، وتارة لهيمنة روح خاص في لغة الشاعر، لغة التصوف مثلا المولع بها، أو في اللعب على اللغة الذي يسميه تفجيراً للغة. في حين يبقى الجواهري، والمقابلة هاهنا بين الشاعرين ذات دلالة واضحة، ينقب في هيمنة الروح الكلاسيكي، المقاصدي، المعنوي (من المعنى) في الأبيات أو المقاطع التي يشير عبرها للشعري.
إن تاريخ الفكر يلتقي مع تاريخ الشعر في البحث المحموم عن الأصول. انهما كلاهما ينقبان في تاريخ يحفر وينحفر. يتقدم بعُدة تتجدد كل مرة، مُحتفظة بذات الحافر، وربما بذات الحافز في اختراق اللا معلوم وبما يلزم للاختراق: بداهة السؤال. تاريخان، هما لفرط توازي خطاهما، كأنهما حكمةٌ واحدةٌ. يتقدمان دون تراجع ولهذا أهميته القصوى في سؤال الحداثة.

تلك المختارات مقلقة في الحقيقة، لأننا ننبش في تربة التاريخ لكي نستخرج تماثيل وأدوات الأجداد التي، مرات، لفرط شبهها بملامحنا وأدواتنا إنما هي عرضة للإيحاء لنا بأنها ملامحنا وأدواتنا. إننا نؤسس حداثتنا، من بين أشياء أخرى، على (مختارات) تؤكد لنا خياراتنا المعاصرة، وإننا لا نركن إلا قليلا إلى ما يقلقها أو يهزها ليست قليلة لذلك تلك النصوص التي تستعير من الماضي مواد تدعم حداثتها(تنا)، ملتقية، فيها، ليس هواجسها الراهنة فحسب وإنما بعضا من طرائقها(ئنا) في التعبير وشيئا، قليلا أو كثيرا، من لغتها. إن بإمكاننا أن نقرأ، مرة أخرى، أفكاراً مثل:
"فعمر ابن أبي رييعة في نظرنا أول من اختص بفن الحوار الشعري، وأول من جعله من مقومات شعره ومن ركائزه الأساسية، وقد كان يدرك جيدا قيمة الحوار في الشعر". د. عبد الفتاح نافع (5) .

"يبدو أن بشار (ابن برد) كان أول الشعراء الذين اتجهوا إلى المنهج الواقعي في التصوير" د. نافع (6) .

"أبو تمام بداية جديدة ني الشعر العربي (...) انه الشاعر العربي الأول الذي خلق لنفسه سلاسل فنية وعاش يرقص ضمنها" أدونيس(7) .
"بشار ابن برد هو أول من "وصف" على الصعيد الفني، التحول في الحساسية الشعرية العربية" أدونيس(8).

إن أبو العلا (المعري) هو أول شاعر ميتافيزيقي في تراثنا الشعري" أدونيس (9).

"أليس أبو العلاء رائد الوجودية الحقيقي، قبل هيدجر وكيركجرد وسارتر وكلوديل" علي شلق (10).

"فإذا فارقنا الشاعر الأبيقوري طرفة بن العبد رأينا..." صلاح عبد الصبور (11).

"أكدتُ على (نظرية العمل الإنساني) عند أبى تمام (...) العمل عنده وطن ونسب ودين بالعمل يتغير الواقع تغييرا يقربه من المثال، ويرفعه سوية أعلى، فيزداد إيمانا (بنظرية التعالي المتطور)" د. اسعد احمد علي (12).

إن صيغة ال (أول) السائدة في الاستشهادات البليغة أعلاه تحتاج إلى بعض التمعن لأنها لا تحيد عن اليقين ذاته، غير المُدان هنا.

أول شاعر سوريالي عربي كان عباسياً

إن بمكنتنا أن نجد أوائل على الدوام. إن بمكنتي الآن، بدوري، أن التقي ب (أول) شاعر سوريالي عربي، وادخله في عداد شعراء ورسامي هذه الحركة التي تضم اثنين: الفكر والشعر كليهما لم تعرف الحركة الشعرية العربية الكلاسيكية، كما يقال، إلا فلتات من صور شعرية سوريالية، جاءت في سياقات أخرى، غير سوريالية البتة، وأنها لم تعرف مثالا سورياليا على المستوى الشخصي، لأنه لا يمكن اعتبار المجون والشعراء الموصوفين، أخلاقيا، بالخلعاء والمجان، العباسيين خاصة، إلا مثال انفلات اجتماعي فقط، إلا طرفات لا تذهب إلى بناء رؤية شاملة لكون فوق واقعي. سوى أن لدينا أمثلة تخرج من ذلك إلى نوع من تخيل من نمط سوريالي يقدِّم أحدهم هذه الصورة السوريالية لوجه كبير الأنف:

لك وجه وفيه قطعة انفٍ   كجدارٍ قد دَعَمُوْهُ ببغلهْ

بينما لا يتحرج أبو ذؤيب الهذلي من أن يصف المنارة بالصلع في شطر بيته: (فيها سنان كالمنارة اصلعُ) رغم أن المفسِّر القرشي يذهب إلي أن الصلع هنا يعني البياض، الأمر الذي لا نلتقيه بأي من القواميس المتوفرة بين أيدينا، حتى أن ابن منظور يفسِّر البيت نفسه بمعنى: برَّاق، أملس تحت مادة الصلع المعروف. ثمة نزعة سوريالية تطفو على حياء في محادثة شعرية ينقلها بن حجة الحمري بين الوزير القوصي وقد انشد ابن المُرصّص بيتين في وصف جارية جاء في أحدهما:

(وماست فشق الغصن غيظا ثيابه)
ليطرق الوزير ويجيب:
(وفاحت فألقى العود في النار نفسه)
(وقالت فغار الدر واصفر لونه)
وكان في المجلس الشاعر النواجي المنشد بدوره:
(وغنت فظل الجنك يطرق نفسه).

لكن هذا ليس كل شيء، فان العباسي (أبو العبر) يخرج عن نطاق المجون إلى مجال التسريل أو شبيهه. فمن هو أبو العبر؟ هو " أبو العباس محمد بن احمد ويلقب بـ (حمدون الحامض) بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، أي انه، وياللغرابة، ينحدر من أسرة النبي، "كان صالحا مطبوع الشعر المستوي وهو غلام إلى أن ولي المتوكل الخلافة فترك الجد وعدل إلى الحمق والشهرة به وهو ينيف على الخمسين" (13) حسب تحديد أبي الفرج الأصفهاني الذي لم يحفظ لا هو ولا ابن المعتز في (طبقات الشعراء)(14) إلا نتفاً قليلة من أشعاره التي يبدو إنها كانت تحتوي على شيء ليس بالقليل، ولنكن حذرين تماما، من الاختراق اللاعقلاني للشعر السائد، فان الأصفهاني يضيف: "كسب في أيام المتوكل مالا جليلا، وله فيه أشعار حميدة يمدحه بها، ويصف قصره وبرج الحمام والبركة.." ويضيف جملة لها أهمية: "<هي أشعار> كثيرة المحال، مفرطة السقوط..شهرت في الناس"(15) . انه شاعر (المحال) إذن، أي اللاعقلاني (السوريالي!). إننا لا نستطيع استكناه سورياليته المزعومة هذه عبر الأشعار لأنها أسقطت من تاريخ الشعر وحذفت بسبب قيمتها المسماة (محال أي غير منطقي) سوى أننا نستشف فحسب بعضا منها فيما تبقى من مقطوعاته:
"باض الحب في قلبي وفرخ" مثلاً.
لكننا عبر الروايات التي ينقلها أبو الفرج عن طريقته في الكتابة، سنكتشف شاعراً سوريالياً من الطراز الأول:
"سمعتُ رجلاً سأل أبا العبر عن هذه المحالات التي يتكلم لها: أي شئ اصلها؟ قال: أبكر فأجلس على الجسر ومعي دواة ودُرج (أي ما يُكتب به) فاكتب كل شيء اسمعه من الذاهب والجائي والملاحين والمكارين، حتى أملأ الدرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضا، وألصقه مخالفا، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه".
كتابة آلية إذن على الطريقة العباسية. ينبغي الانتباه هنا إلى معنى (الحمق) الذي يعزز مفهومة اللاعقلانية، فالحمق هو المروق عن السائد بمعنى من المعاني الذي كان يعتبر وصمة ومازال لدى البعض(16) (أنظر إبراهيم السامرائي ص119 ويسميه لوثة).
كتابة آلية أو لاعقلانية بوعي، فان كنية شاعرتا كانت "أبو العباس فصيرها أبو العبر، ثم كان يزيد فيها كل سنة حرفاً حتى مات وهي أبو العبر طرد طيل طيري بك بك بك" وفي مخطوطة من (الأغاني) "طر طيطليري بك بكبك". وإذا ما بدت هذه القصة الأخيرة محض طرفة من الطرفات (والطرافة على كل حال ميل سوريالي) فانه في رواية أخرى يلعب على اللغة متطرفا، بشكل لا نلتقيه إلا قليلا لدى مجايليه المُجان، ونلتقيه بالأحرى في المحاولات المعاصرة:
"قدم أبو العبر بغداد في أيام المستعين، وجلس للناس فبعث إسحاق بن إبراهيم فأخذه وحبسه، فصاح في الجيش: لي نصيحة. فاخرج ودعى به إسحاق، فقال: هات نصيحتك، قال: على أن تؤمنني، قال: لقد أمنتك. قال:الكشكية أصلحك لله لا تطيب إلا بالكشك، فضحك إسحاق وقال: هو فيما أرى مجنون، فقال: لا هو امتخط حوت. قال: أيش هو امتخط حوت؟ قال: زعمت أنى مججتُ نونا وما فعلتُ إلا امتخطت حوت، ففهم ما قال وتبسم ثم قال: أظن أنى فيك مأثوم، قال: لا ولكنك ماء بصل، فقال: أخرجوه عني إلي لعنة الله ولا يقيم في بغداد" .

بل أن هذا اللعب باللغة كان يجد في عصره من المريدين والاتباع الذين، يقول أبو الفرج، كانوا "يكتبون (ها) عنه" ولكن يكتبون بدورهم بطريقة سوريالية تماماً (انظر التفصيلات في ص 79 - 80 مج 23). بل انه يذهب في هذا الاتجاه اللاعقلاني حتى منتهاه في الموقف الاجتماعي الذي يذكر بمواقف الدادائيين المعاصرين:

" قال (جحظة) رأيت أبا العبر بسرَّ من رأى، وكان أبوه شيخا صالحا، وكان لا يكلمه، فقال له بعض إخوانه: لم هجرت ابنك؟ قال: فضحني كما تعلمون بما يفعله بنفسه ثم لا يرضى بذلك حتى يهجِّنني ويؤذيني ويُضحك الناس مني، فقالوا له: وأي شيء من ذاك؟ ولماذا هجَّنك؟ قال: اجتاز علي منذ أيام ومعه سُلّم فقلت له: ولأي شيء هذا معك؟ فقال: لا أقول لك، فأخجلني واضحك بي كل من كان عندي، فلما أن كان بعد أيام اجتاز بي ومعه سمكة، فقلت له: أيش تعمل بهذه؟ فقال: أنيكها. فحلفتُ لا أكلمه أبداً" .
وأخرى عن طريقة اصطياده للسمك بـ(جميع جوارحه). لم يكن بهلولاً ولو أن أبا الفرج يروي لنا كيف "كان المتوكل يرمي به في منجنيق إلى الماء وعليه قميصُ حريرٍ، فإذا علا في الهواء صاح: الطريق الطريق، ثم يقع في الماء فتخرجه السُبّاح، وفي ذلك يقول:

ويـأمـر بـي الـملـِكْ
 
فيطرحني في البرَكْ
ويصطادني بالشبك   كـأنـي مـن الســمكْ
ويضحـك كـكْ كــكْ   كـك كــك كــك...

هذا الاستطراد وتلك الإستشهادات تحيلنا، مباشرة، إلى المرجعية. إننا نعاود، كل مرة، التفتيش عن أصول عتيقة تدعم حداثتنا، حتى أن مرجعيتنا العربية هذه تشابه هذا الحوار الأوربي الحداثوي مع اليونان القديمة التي يطرح عليها الغرب "أسئلة هي أسئلته هو، أملا أن تُجيب اليونان عليها" (17). إن اليونان بالنسبة لجزء كبير من الثقافة الغربية المعاصرة كما يقول هنري لوفيفر "هي الأصل وتقدم المثل الأعلى الوحيد والفكرة الوحيدة للإنسان الممكن" . إنها حالة تشابه حالتنا. إن أمثلتنا تقترب، بدرجهَ ولأخرى، من حداثتنا، وهي تطرح، من طرف خفيّ، قضية الحداثة نفسها موضوع الإشارة أمام مشروعية التساؤل. إننا نطرحها هنا على مستوى التسلسل التاريخي، بمعنى الأسبقية.

هكذا نجرأ على اعتبار أبى تمام ما نعتبر، ونعتبر أبا العلاء المعري رائدا للوجودية وأول شاعر ميتافيزيقي عربي، وبإمكاننا موضعة أبى العبر في إطار سوريالية عربية (إذا ما وُجدت مثل هذه الحركة) مثلما وُضع جيروم بوش (1450- 1516م) في الرسم الأوربي من بين آباء السوريالية وكما اكتشف ووُضع مؤخراً ارشيمبولدو الإيطالي (1527- 1593م) في ذات الاتجاه. وببساطة فان تناقضا سيطلع من افترض أن منهاجا ما لرؤية العالم ينبثق، فحسب، في سياق من التطور معين، يجري بسبب تراكم في الوعي وفي الخبرة وفي المعرفة إذا لم تكن هذه الأشياء الثلاثة شيئا واحدا، إن ما اعتبرناه، للحظة، محض رؤية تامة الجدة، تليق بعصرنا الذي تأمل الماضي واستوعاه وراكمه لن يستطيع المضيّ مع هذا التناقض البديع: لقد سبقونا في اكتشاف الكتابة الآلية.

إن تاريخ الفكر لن يتطابق تماما مع تاريخ الشعر، كما لو أن لهذا الأخير فضيلة أخرى، هي، بدقة، فضيلة الاستشراف والاستباق، كما لو أن للشعر وللشاعر إيقاعهما الخاص له الذي، كالبوصلة الصالحة للاستخدام في كل زمان، تهدي إلى مسارات أخرى، كما لو أن الشعر يتضمن نواة تساعد على رؤية "نبوية"، لا زمنية، نواة لا تاريخية، تنبع من طبيعته نفسها، من الشعر نفسه الذي يحتوي على بُنية قائمة بنفسها وعصية على التشظي رغم التاريخ، أي رغم التغير في الفكر، وبعبارة أخرى بُنية ثابتة نسبيا، ونسبيا فقط، لأنها لا تفعل سوى أن تتصلب وتحسِّن، جوهرياً، أداءها.

إننا نلتقي، سواء بالمختارات أو القراءات الشعرية بفكرة توحي بتأبُّد الشعري في التاريخ، الجوهر الواحد للمتعدد، كما نلتقيها، بشكل صارخ، في الدراسات اللسانية والبنيوية عن (الشعرية) Le poétique. إن هذه الشعرية في هذه الدراسات تمتلك طبيعة لا تاريخانية، وبناء شبه ثابت تجري دراسته في الغالب عبر (الاستعارة). في هذه الأخيرة فقط، المعروضة للتشكُل والتحوير دون أن تنتفي هي بذاتها، يمكن التقاء الشعري، وإن لها قوانينها الموصوفة كما لو أنها قائمة رغم قوة الزمن وإن المحاولات التي تسعى إلى نقد البنيوية عبر إلغائها، أو تجاهلها على الأقل، للتاريخي، لم تكن تستطيع البرهنة، وليس هناك محاولة على حد علمي من هذا القبيل، في المجال الشعري، كما لو أنها تقدر على إنجاز هذه المهمة على المستوى الفلسفي بتفاصيل دقيقة، ولكن ليس على المستوي الشعري بتفاصيله الدقيقة، كما لو أنها تعجز عن مواجهة لا تاريخية الشعري، أي قدرته على الحضور الدائم أمامنا.

إننا في الدراسات الحديثة هذه، خاصة، وهي تفحص (الشعري) وتحلله إلى عناصره الأولية، لا تفعل سوى طرح فرضية مؤداها ثبات بُنية الشعري من الداخل، فهي لا تقيم وزنا كبيرا للسياق التاريخي الذي أبدع النص داخله. فدراسة كمال أبو ديب (في الشعرية) (18) تفتش عما يعزز فهمها للشعري عبر مزيج من شعر قديم وحديث، بل عبر نصوص مترجمة، وتنقب في ملحمة كلكامش وفي أشعار أبي ذؤيب الهذلي وأبي الهندي وأبي تمام وسان جون بيرس وجبران خليل جبران وشكسبير ورامبو وبدر شاكر السياب وعروة بن الورد والفرزدق ولوركا وأبي فراس الحمداني وستيفن سبندار وأدونيس وامرؤ القيس...الخ، مؤكدا بصريح العبارة أن فرضيته بشان (مسافة التوتر): "هي خصيصة بنيوية مميزة للشعرية، أي أنها شرط مطلق..." مجيباً على الاعتراض القائل بأن الشعرية (مفهوم) متغير عبر التاريخ بالقول بأنها: "تتغير مفهومياً، أي على صعيد التصور النقدي لها، لا في طبيعة مكوناتها" . أما دراسة د. محمد مفتاح (تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص) فهي تحلل نصاً واحداً لابن عبدون، بشكل موسع جدا، وتفتش عن مفهوماتها عن الشعري فيه وكأن مفهوماتها الحديثة هذه متضمنة في نص سابق مثل النص الذي تحلله كما متضمنة في أي نص آخر. معتبراً الاستعارة ليست مجرد عملية لغوية وإنما: "مرآة لثوابت الذات الإنسانية بما فيها من نماذج عليا ورموز، ولنماذجها المعرفية والنظرية" (19) . كما أن دراسة جان كوهن (بنية اللغة الشعرية) تتأسس بدورها على وحدانية الانزياح وسيادة الاستعارة بوصفهما قانونين أساسيين، ثابتين للشعري، وإذا فعل والتفتَ إلى التاريخي فذلك من اجل البرهنة على تفاوت مستويات (الانزياح) بين زمن وآخر . (19)

في الوقت الذي تسعى فيه يمنى العيد إلى مزاوجة بين المفاهيم التي يصير بها القول شعرياً، وتعتبرها بدورها قوانين وهي الموسيقى والانزياح، وبين المتغيرات الجديدة في توليد رؤى مختلفة وجديدة "طالت التركيب" . إن تحليلها لموسيقى مقطع من إحدى قصائد أدونيس (أي قصيدة حديثة) بوصفها عنصراً في بـُنية الشعري، يماثل تحليل محمد مفتاح لذات العنصر في قصيدة ابن عبدون القديمة. إننا هنا لا نقيم وزناً للعنصر الزمني، أبداً، (أي الفارق في تاريخ كتابة النصين) ويظل التحليلان معقولين مع ذلك.
إن الانزياح يظل قانوناً جوهرياً في تحليلات جميع النقاد المذكورين، وعنصراً قائماً بثبات تاريخي، وهو أمر يتنافي مع نزعة التطور والقطيعة التي تسم علوم الاجتماع المعاصرة. مع ذلك تظل التحليلات المذكورة معقولة ومنطقية رغم إلغائها للزمن، أو بدقة، تهميشها له إلى أبعد الحدود.
ليس عبثا، لذلك، أن يجري التشديد منذ أرسطو وحتى آخر المحاولات النقدية على الاستعارة كتعبير عن هذا الشعري. سوى أننا اليوم، عن حق، لا نجعلها هي العنصر الوحيد الفاعل في العملية. إننا لا نغفل اليوم العناصر كلها، الإيقاعية والتخيلية في تشييد مفهومة تحاول أن تكون دقيقة للغاية للشعري. لكن السؤال ليس هنا فحسب، فما نطرحه يتعلق بالضبط بالعناصر وهل هي ذات ديمومة عصية على الموت؟ هذا هو ا لسؤال.
إنها عناصر ليست تجريدية ويا للمفارقة، فإننا في سياق الحديث عن الموسيقى، لا نتحدث عنها وكأنها شئ معزول لا علاقة له باللغة، وبالكلام. إن الدورة النغمية، المعتبرة عنصرا شعريا أساسيا تصلح كمثال للبرهنة على أن عنصرا مثلها لا يمكنه أن يكون مجرد تكرار نغمى دون رسالة Message. وإذا حدث وأن جردنا في وقت متأخر الأوزان العربية إلى بنيِّات صغيرة (فعلن) (مستفعلن)...الخ، فذلك لدراستها عن كثب لا غير، لأنها ليست موجودة على هذه الهيئة في النص، فهي فيه كلمات وصيغ لغوية ذات محمولات. تكمن المفارقة في أن هناك (عناصر) توحي لنا بأنها تجريدية أو يمكن دراستها كما لو كانت أمرا تجريدياً في حين أنها، في الحقيقة، مُحمًلة بمختلف أنواع الدلالات التي على قدر أهميتها تكون أهمية النص، وحضوره. بعبارة أخرى، يمكن الافتراض أن مشكلة الفكر أو التأمل في الشعري تبقى بارزة ولا يمكن تجاوزها. وان القدرة على إثارة أسئلة جوهرية عن الوجود تظل في قلب هذه الاستمرارية.
إن النصوص، حتى تلك التي تستلهم العابر والمؤقت لكي تقفز عليه للتشبث بسؤال كبير، تملك نصيباً وافر من البقاء. وان شعريتها تعني بأنها قادرة على أن تخلق لنفسها زمنا خاصا بها لوحدها. إن المختارات الشعرية المقدمة لنا اليوم تبرهن ذلك، ولكنها النصوص، في النهاية، من يبرهنه، دون أن تلغي هذه النصوص تاريخها. من هنا نجد صعوبة كبيرة أن يكون (أبو نوّاس بودلير العرب) كما يذهب أدونيس، أن يتطابقا ويتوحدا دون التاريخ، ولو أن التشابهات ستظل مفردة معقولة لوصف الحالة، حالة الاقتراب والتماس بين نفس الأسئلة التي يطرحها نصان ينتميان إلى لغتين - ثقافتين مختلفتين. إن أسئلة المعري ستتماس هي أيضاً مع أسئلة ميتافيزيقية، جرى حدسها قبله أو جرى تناولها بوعي نقدي بعده في الفكر الفلسفي، ليتبقى أن فضاء المعري يظل محفوراً في الثقافة العربية الإسلامية، المخصبة والمتلاقحة مع ثقافات مجاورة أخرى، من هنا التشابه والاقتراب دون الذهاب إلى إفراط علي شلق المستشهد به قبل قليل. إن الإفراط في إعطاء الريادة (الأول) لاسم من الأسماء يذهب إلى تجاهل حقيقة أساسية تتعلق بأن الأسئلة الحاسمة لم تنفك في حركة طرح مستمرة أمام الوعي البشري. وإن غياب السؤال يبقى لحظة عابرة في التاريخ، سوى أن حضوره لم يكن على الدوام ضمانة للنص من الضياع والانفراط. من هنا هذا (الانصهار) بين البُنيّات الشعرية ومحمولها بحيث يبدوان وكأنهما شئ واحد في النص، بحيث يبدو وكأن الإحكام والحكمة، الصنعة والرؤية يحلان ببعضهما حلولاً اتحادياً، وسنتمكن من الذهاب من هذا الإحكام إلى تلكم الحكمة، من تلك الطرافة إلى ذلك السؤال عند شاعر عباسي مثل أبى نوّاس، وهو يقول مثلاً:

يا شقيق النفسِ من حكمِ   نمت عن ليلي ولم أنم
فاسقني الخمر التي اختمرت   بخمار الشيب في الرحم
ثمت انصات الشباب لها   بعدما جازت مدى الهرم
فهي لليوم الذي بُزِلت   وهي تربُ الدهرِ في القِدم
عُتقت حتى لو اتصلت   بلسانٍ ناطق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة   ثم قصّت قصّة الأمم
قرعتها بالمِزاج يدٌ   خـُلقت للكأسِ والقلم
في ندامى سادةٍ نُجُبٍ   أخذوا اللذات من أمم
فتمشّت في مفاصلهم   كتمشي البُرء في السقم
فعلتْ في البيتِ إذ مُزِجتْ   مِثل فِعل الصبح في الظُلم
فاهتدى ساري الظلام بها   كاهتداءِ السفرِ بالعلمِ

إن الشعري هنا، وسنتحدث عنه بتوسع بعد قليل، يتلاحم في الكلام، وإن الإيقاع الذي يرنُّ صادحاً لا ينفصل عن اللغة، وإن اللغة ليست فخامة ولا تقليداً محضاً للعرف اللغوي. لن تكفي فخامة معاصريه اللغوية لوحدها لإنشاء مثل إنشائه وإن طرافة بعضهم ستمنحنا مُجـَّاناً، عابثين في الحياة لأنه لم يكن ممكناً أن يكونوا في اللغة.
ستصير اللغة، هي ذاتها، في مثال النفَّري، السبيل الوحيد لرؤية العالم، للفكرة، بينما يتموضع مأزق ابن الفارض الشعري في وقوفه عند تخوم التقاليد التي صارت الآن تقاليد الكتابة الصوفية. كما أن فارق حماد أجرد في مقابلته مع أبى نوّاس يكمن في أن طرافته الحياتية لم تلتقِ برحابة لغوية ولا بتخييل خصب (إذا استعرنا كلمة الأقدمين لتفريق مخيلتنا المعاصرة). تخييله كان كحولياً فحسب.

هكذا الأمر، ربما، على الدوام، فان تساؤلات طرفة بن العبد ستمنحنا، بوضوح، سؤال الكائن الحر الحاضر في الزمن عبر اللغة. انه استطاع، وهو الفتيّ، أن يحدس السؤال رغم عصره الجاهلي أو بمعاونة هذا العصر. كانت معركته هي معركة الروح وهي ترى إلى نفسها مفردة (إفراد البعير الأجرب) وهي جملة تؤكد ذلك العابر المستلهم في النص والتي يتخطاها بسبب تمسكه بعرى شعريته لوحده. إن هذه الأخيرة ساعدت، وربما تساعد على الدوام، في إنشاء خطاب شمولي. فان الاستعارة عند طرفة تنحدر، مثل شعراء عصره، من مفردات العصر ولكنها لا تتبقى عندها. إنها تؤبد النص وتعطيه مسحة من الديمومة، من السحر يتعلق فيه مثل كوكب عصيِّ على الانطفاء. إن قدرة النص على الحضور إنما هي قدرته الاستعارية في النهاية.
إن رسالة الخطاب ليست هي الأمر الحاسم في شعريته. بمعنى أنها تلعب، بالضرورة، دورها اللازم، ذلك أن اللغة ذاتها تتألف من منظومات رمزية ثابتة، ذات هدف توصيلي، وإنها، اللغة، بمقدار ما تكون معطى جماعياً فإنما هي أيضا معطى فردي، إنها تُخلَق بطريقة خاصة أثناء الاستخدام الفردي، وهذه مفهومة متداولة اليوم.
إننا ننطلق في الصحفات اللاحقة من فرضيات صار بعضها بداهات في البحث النقدي الحديث في حين أن بعضها الآخر هو من اجتهاداتنا:

أولاً:
ثمت نواة شعرية، بُنية داخلية للشعري، تميل إلى الثبات، هي نفسها ما يجعلنا نعود إليها كلما أردنا معرفة الشعري عن غيره. ولكنها ليست حجراً متصلباً منغلقاً على نفسه. وأنها محاطة بدورها بمجموعة من العناصر، تدور في فلكها وتحف بها، تحورها قليلا أو كثيراً أيضا، أي

ثانياً:
إنها تتعدل وتتحور، بين زمن وآخر، وإننا نضيف إليها عناصر جديدة، إننا نطورها لكي تستجيب لمعادلات (وأفكار) لم يعرفها بدؤها، وصولاً إلى تحويرها الكلي دون إلغائها نهائياً، مستجيبة، لذلك، لسنن الأشياء. سوى أننا، دائماً، نستطيع العودة إلى (النواة) لقياس الشعري عن غيره. إن لها القدرة على معرفته.

ثالثا:
إنها (نواة) تتأسس، نفسها، على قدرتها في قبول الجديد والغريب والمستغرب، ومثلما هي مرنة وواسعة فهي أيضا قياسية، لأنها تستجيب للخيالي الذي هو مرن وشاسع ولكنه يقول. إن مرونتها هي مرونة الحلم نفسه: الدال والمدلول في آن.

رابعا:
إن المقتربين أو القابضين على هذه النواة، وهم الشعراء، يشتركون في الدوران في مداراتها، كل من مكانه، وبطريقته الخاصة في الوصول إليها، في استخدام اللغة. من هنا اشتراكهم بالكثير من الملامح المسمى اليوم تناصاً intertextualité والذي يفسر لنا التشابهات وما كان يسمى بالسرقات الشعرية.
هذه الفرضيات تقود إلي ملاحظات تجاورها:
إن هذه النواة - الاستعارة، هي في النهاية القدرة على التخيل، قدرة المُتخيَّل على الحضور القوي في اللغة، على التجسُّد بها وكأننا نراه أو نلمسه أو نشمه أو نحاكيه.
إن هذه الاستعارة - النواة قد تبلورت لاحقاً، بحكم التعديل والتحوير، وقدرة المتخَيـَّل على التخيُّل تبعاً للمستجد إلى ما نسميه بالصورة الشعرية التي ظلت تستفيد من جميع العناصر البلاغية ولكنها لم تكف عن الاحتفاظ بطابعها الاستعاري.
إن ثمة نيّة، هي هاجس عصر آخر، عند الشاعر الحديث إلي تجاوز الاستعارة بمعناها الضيق إلى خلق الصورة الشعرية. حيث لم يكن بإمكان الشعراء القدامى ولا في نيتـهم خلقها لكنهم كانوا يتوصلون إلى نظائر لها مدفوعين بالحاجة إلى التعبير عما لا تستطيع البلاغة التقليدية لعصرهم التعبير عنه. إننا اليوم في موقف الوعي بالجمالي، وعيٌ يتأمل نفسه وصناعته بأدوات أخرى وبالاستفادة من الأدوات السابقة كلها، انه وعي يسعى إلى الخلق أحيانا لذاته، وإلى إمساك العصي بالوسيلة الوحيدة الممكنة شعرياً: الصورة الشعرية. ففي بيت بكر بن خارجة:
زنـَّاره في خصره معقودُ كأنه من كبدي مقدودُ
يطرح إشكالية تلك البلاغة التقليدية التي تركن إلى قاعدة التشبيه كلما تعلق الأمر بالمتخيل التي نزعم بأننا نلغيها نحن اليوم.
إن الاستعارة التقليدية التي لم تستطع سوى البقاء في حدود النواة الشعرية والتي هي شعرية مع ذلك ولم تسمح للمتخيل بأن يندفع إلى أقصي المديات، ليس في الشعر العربي فحسب، تطرح علينا قضية جذرية هي:
إن الإنسان البدائي، الأول، كان يعيش المتخيَّل كأمر واقع، كان في داخله، وكان هو فيه، وكان عالمه هو نفسه عالماً غير مكتمل، سحري، متخيل، بينما العالم العربي - الإسلامي عالم معطى، متصوَّر من ذي قبل، جرى تأسيسه وانتهى الأمر، انه ممنوح إليه كما هو وعليه أن يتقبله دون الكثير من الأسئلة. إن مشكلات الخير والشر، الجمال والقبح، الموت والحياة،...الخ التي أضعها في ثنائية لا أتقبلها أنا نفسي، كانت مسائل أساسية جرى حلها حلاً حاسماً، وحيداً. هذه هي مشكلة الفكر الديني في طوره الأكثر نضوجاً مع الشعر. انهما لا يتفقان، فالشعر يحاول تعمير عالم آخر، في اللغة، مسكون بالمراميز والسحر والتشبيهات الموصومة بالكذب دوماً من طرف المهيمن الديني. إن هذا الأخير يحيل القضية برمتها إلى قضية أخلاقية، ويسعى إلى إلغاء الرمز- الاستعارة- الصورة- التشبيه لصالح المعنى الفاضل، لصالح المعنى لوحده. إن ثنائية المعنى- المبنى ضمن هذا النسق إنما تهدمهما كليهما معاً عندما تنفي واحداً منهما، ذلك أنها ترفض أي نسق من المعاني الملتبسة (القول الذي لا يُفهم)، وأنها تطالب (بمعان) سلسة، مقبولة. من هنا يحتفظ الشعر الجاهلي بقدراته الخاصة به وتفارقه الواضح عما سيلي، كونه الأكثر قرباً إلى البدائي، إلى المتخيل، إلى اللغة التي هي جسد الأشياء.
إن تلك النواة تتألف من نويـَّات وان بعضا منها سيستمر في الحضور في الشعر المعاصر، وربما استمر في الشعر القادم إذا ما كان للشعر من مستقبل.?

جزءٌ، لعله ليس هيناً، من معطيات البلاغة التقليدية مازال فاعلا في شعرنا الحديث، من ناحية شكلية على الأقل، ولن تعوزنا الأمثلة، وينبغي اخذ ذلك بالحسبان. إن التاريخي مندمج بالثابت. انهما يؤثران على بعضهما بعلاقة تستوحي الفضاء الثقافي السائد. إن الاستعارة، بجميع أقسامها الموجودة في الكتب التقليدية، وتصنيفاتها المشوشة والاعتباطية أحيانا، ستظل ثابتاً، ولكنه ثابت زئبقي بحكم طبيعتها القادرة على التحوُّر. من هنا يمكننا معالجة النصوص بمعزل عن الزمن إذا شئنا، أو في سياقه إذا شئنا. ومن هنا يمكننا أن نقارب البـُنيـَّات التي ندرسها في النصوص القديمة والحديثة دون أن تفقد مفهومتنا، فرضيتنا بشأن النواة أهميتها، وأن ندرس العناصر مجزوءة عن السياقات، كبُنى، من اجل رؤيتها عن كثب، فحصها وتمعنها. ولكنها، كلها، تلتحم في النص بشكل لا فكاك منه، مجتمعة ومتداخلة لا ككميات بل كبُنية للشعري، ها هي ذي العلائقية بين البُنى.
ذلك يتطلب، بدءاً، استقراءها، كلها أو بعضها، ثم لاحقاً رؤيتها في النص فاعلة وفعـَّالة.

أحسب هنا، وهي فرضية شخصية، أن أبسط البُنى، شكلياً، في الجملة الشعرية هي الكناية، وبالتحديد ضرب واحد منها وهو المسمى في الكتب الدراسية (بالتلويح) وهي تقوم على نوع من مضاف ومضاف إليه، إلى كلمتين، جزء ين ينتمي كلُ واحد منهما إلى حقل دلالي مختلف في الغالب:

مثال (1):
سئل أعرابي عن سبب اشتعال شيبه، فقال: هذه رغوة الشباب.

مثال (2):
قال المعري في وصِف السيف:

سليل النار دقَّ ورقَّ حتى كأن أباه أورثه السُلالا (أي مرض السل)

إن الكناية (رغوة الشباب) و(سليل النار) هي قول مقتضب للغاية، من هنا أيضا شعريته، نعدل به عن التصريح إلى الإشارة، والإشارة بدورها معطى شعري لا تخطئه العين. سنقتصر على هذا الضرب من الكناية، قادرين على بسط تحليلنا له إلى ضروب أخرى من الكناية اكثر تعقيداً. ضرب يوفر لنا اقتصاداً مفيداً، يظهر، بجلاء، بعداً من أبعاد الشعري. إننا نلتقي بمفارقة مثيرة هي أن بنيِة (الكنايات) التقليدية ستظل مستمرة في البنية الشعرية الحديثة، وأنها تؤسس بُـنية شعرية في الشعر القديم والشعر الحديث.
أمثلة أخرى:

في القرآن الكريم:

(متاع الغرور) (جناح الذل) (سكرة الموت).

في المأثور:
(ثوب العافية) (رسول الشر) (جناح سفر) (سيف الدولة) (بحر العلوم).

المتـنبي:
(ثوب الغي) (ثوب الرشاد) (رياح اللؤم) (جيش الشوق) (كرم الغمام) (أمل الفقير) (زهر الشكر) (رياح المعالي) (جماجم المال) (شمس الزمان).

أبو تمام:
(موسم اللذات) (حسام اللسان) (جلباب الدجى) (بنان الكفر) (أنف الضلال) (صدور المجد) (كف الندى).

عروة بن الورد:
(حسك الصدور)

البحتري:
(يد الغيث) (بحر (الـ) حديد)

ابن الرومي:
(لعاب الليل) (ثوب اللهو).

الشريف الرضي:
(لون الشباب) (سواد القلب).

نصوص نثرية متفرقة في (نفح الطيب) وخاصة نص للسان الدين بن الخطيب:

(تراب الخمول) (حربة الجدال) (أذيال الصون) (هضبات الذنوب) (رواق الرحمة) (وشائج المحبة) (آية العناية) (طلعت شمس دعوتنا) (غول الشرك) (بساط العتاب) (غمامة رحمة) (سطور المؤاخذة) (ينبوع الخير) (رواق الإسلام) (أفق الرحمة المنثالة) (غوائل المحن).

أدونيس (قصيدة الوقت):

)سنبلة الوقت) (برج نار) (ليل الهبوط) (خد الحجر) (أرق الليل) (آية الصمت) (شجر الحب) (شجر الموت) (غابة النفي) (خارطة العشب) (أحشاء السهول) (خارطة الموت) (ذاكرة الأرض) (كف الفضاء) (زمن التيه) (أدغال من الرغبة) (لحظة الكشف) (جرثومة الماء) (أطباق السماء) (مستودع الرعد) (مرساة الحنان) (ضوء المطر) (حوض الرغبات).

لنلاحظ في البدء أن التركيب، من مضاف ومضاف إليه يبقى واحداً في جميع الحالات، التقليدية والمعاصرة، انهما يلتقيان ويفترقان في الأمثلة من حيث:
أولا: إن المثال القديم يسعى إلى نوع من التوازن الدلالي بين طرفي الكناية لكنهما رغم ذلك ينتميان في النهاية إلى حقل دلالي مختلف. انهما يشدان أزر بعضهما، سوى أن التناقض يظل تناقضا ذا دلالة، فبين (الجيش) و(الشوق) في مثال المتـنبي ثمت تفاوت دلالي يشير إلى انحراف اللغة البارز عن مستواها القاموسي، وان (بساط العتاب) المشير إلى سعة العتاب وامتداده يفضح أيضا مثل هذا التناقض الدلالي لان الفعل (بسط) يعود قاموسياً إلى الانفتاح، انه حسب (لسان العرب): "بَسَط الشيء: نشره. والبسط نقيض القبض" ، بينما الفعل (عتب) فيشير بشكل عام إلى الانغلاق (القبض): "بعض الصعوبة في الكلام وغيره ومنه العتبة" (ابن فارس) . إن الدلالة في المثال تذهب إلى فتح الصعب (الذي لا ينفتح)، العتاب على مصراعيه، وإن الصياغة المنتمي طرفيها إلى حقلين قاموسيـين مختلفين تسعى إلى تدعيم هذه الدلالة. في حين أن تحليل (غوائل المحن) ستؤدي إلى نتيجة غير متشابهة لان الطرفين هنا يدعمان بعضهما بشكل بارز ويحيل الواحد منهما إلى الآخر كما التوكيد، فالفعل (غَوَلَ) دلالياً هوِ: "خـُتـل وأخذ من حيث لا يدري" (ابن فارس) أي أصيب بشيء ما بغتة أما (مَحَنَ) فهو فعل يدل على الشدة: (ومحنته وامتحنته: بمنزلة خبرته واختبرته وبلوته وابتليته" (اللسان) . إننا هنا أمام ضرب من التوكيد، لكن المثال (طلعت شمس دعوتـنا)- وأخذناه بكامل سياقه- لا يحيد إلا قليلاً عن ذلك التوكيد أيضا، فـ (الدعوة) التي تتضمن البروز والظهور والسطوع تلتقي مع صورة الشمس ذات البروز والسطوع والظهور، إننا ضمن نفس الدلالات، سوى انه ضرب من التوكيد المستند على المُتعارف عليه، لنقل على عرف كنائي يجد له أصولا في الاستخدام السائد، العرف، المأثور مثله بالضبط مثل (غمامة الرحمة) الطالع من تقليد يقرن الملموس بقرين ذهني لا يخرج عن نطاقه الدلالي، فان (الغين والياء والميم كلمة تدل على ستر شيء بشيء" (ابن فارس) وهي كلمة الغيم المستندة في الكناية موضوع الإشارة إلى التعبير القرآني: "وابسط لهما جناح الذل من الرحمة"، جناح الذل = غمامة الرحمة = أفق الرحمة المنثالة. انه تقليد صارخ لكن (رواق الرحمة) ينحرف بشكل واضح فالطرفان يتفارقان دلالياً ويشكلان دلالة أخرى جديدة.

إن الكناية القديمة تقوم، بالضبط، ولو بحياء، بقرن كلمتين مختلفتين لاستخراج دلالة جديدة، وان ثمة، في هذا السياق، تركيبات (كنايات) جرى تثبيتها لتكون معياراً قياسياً، كما في المثال أعلاه، وكما في القياس على ما يمكن إجماله بثلاثة عناصر:
عناصر طبيعية (رياح الـ..، شمس الـ..، سحاب الـ..، بحر الـ..، زهر الـ..، الخ ).
أعضاء الجسد، وأحصيت الكثير منها لدي أبي تمام (بنان الـ..، كف الـ..، أنف الـ..، صدور الـ..، الخ)
عناصر متفرقة، الأردية خاصة (ثوب الـ..)
سنجد هذه القياسات، بشكل مثير في التشبيه بعد قليل. من هنا عدم ذهابها إلى أقصي مديات الانحراف.
ثانياً: تُجري الكناية الجديدة بدورها إقامة هذا التنافر الدلالي بين الطرفين المكونين بحيث أننا سنرى تشابهاً واضحاً جداً بين بعض كنايات المتنبي وأدونيس، وإذن فثمت استمرارية على المستوى الشكلي كما على المستوى الدلالي في مقابلة الكنايتين:
زهر الشكر – المتنبي
شجر الحب – ادونيس
ثمت تقاطع، ولكن ثمت، أيضا، تفارق واضح، فالكنايات الحديثة تريد الخروج من إطار العرف القياسي إلى فضاء آخر مجهول، مُحتفظة بنفس البُنية. إن التناقض الدلالي الجديد يسعى إلى الاندفاع إلى أقصى التناحرات أو أقصى التشابهات من اجل توصيل دلالة أخرى، أي رؤية أخرى. يأتي هذا التشابه على مستوى الشكل والتفارق على مستوى الدلالة من عدم تشابه السياقات. إن العلاقة بين (سنبلة) و(الوقت) هي علاقة الخفاء الذي يطلع، أو يتجلى إذا شاء البعض. إن الدلالة تتدعم عبر طرفين ينتميان ظاهرياً إلى حقلين مختلفين. فالسنبلة المعروفة، الزرع، تتزاوج مع الوقت الذهني لكن لا تخرج عن إطار دلالة مشتركة للاثنين، لان (سبل) تدل كما يقول ابن فارس: "على إرسال الشيء من علوٍ إلى أسفل وعلى امتداد الشيء" . إننا إزاء كناية جديدة تقتنص التشابه الخفي. وهذا أمر جديد. سوى أن الدرس يبقى هو نفسه في كلا الحالتين القديمة والجديدة: كلمتان تنتميان إلى حقلين متنافرين كانت الكناية قادرة على مزاوجتهما وإخصابهما لإعطاء أفق دلالي جديد، أي إلى فضاء جديد. إننا لا ننكر أن (رواق الرحمة) تحتفظ بقوة استعارية لا يُستهان بها وأنها يمكن أن تكون بعض كلامنا المعاصر.
ثالثاً: إن الجزء الآخر الذي ستتشابه به الكنايتان، القديمة والجديدة، هو في أن أحد طرفيها ينتمي، غالباً، إلى حقل دلالي ذهني أو فلنقل تجريدي بينما الآخر حسيٌّ أو ملموس. وهذا الاستنتاج الأخير يستحق بعض التوقف، فقد التقيناه كذلك عند الإمام عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة) الذي توصل بحسه النقدي شديد التوقد إلى القول وهو يتحدث عن ضرب من الاستعارة يكون الشبه في أحد حدودها "مأخوذاً من الصورة العقلية وذلك كاستعارة النور للبيان <و> وهذا الضرب هو المنزلة الرفيعة التي تبلغ الاستعارة غاية شرفها". الصورة العقلية ينبغي أن تقرأ بمعنى الصورة الذهنية أو التجريدية، ثم يمضي بعد اسطر قلائل إلي توضيح أقسام الاستعارة التي هي، بالنسبة إليه، علائق تشبيه معلنة بأدوات التشبيه وغير معلنة، والتي لا تحيد قيد أنملة عن تركيب كنايتنا الثنائية هذه مما يشير من أوسع الأبواب إلى إمكانية تطبيق النتائج المستخلصة من درسها وبسطها على الاستعارات الأكثر تعقيداً، إن الجرجاني يقسم ما يسميه (بأصول الشبه) وما نسميه بالحقول الدلالية إلى ثلاث: "أحدها أن يؤخذ الشبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواس على الجملة للمعاني المعقولة، والثاني أن يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها إلا أن الشبه مع ذلك عقلي والأصل الثالث أن يؤخذ الشبه من المعقول للمعقول"، ثم يزودنا بأمثلته. إنه يتوصل إلى اختزال الظاهرة إلى أصول محددة، إلى تشريح بنيانها وفصلها واستقرائها وإن استنتاجاته تبدو صحيحة إلى حد كبير سوى أن علينا، اليوم، الذهاب خطوات أخرى في التحليل بفضل الإمكانيات النظرية والتحليلية التي تراكمت لدينا. إننا نجد خطوط لقاء يمكن الإضافة إليها. إننا نزعم بأن تركيب الكناية التقليدي (الشبه حسب الجرجاني) يظل علاقة أساسية بين الملموس والذهني.

تركيب الكناية التقليدية
ملموس ذهني        
غمامة الرحمة   شمس الدعوة
غول الشرك   بساط العتاب
ثوب الرشاد   سطور المؤاخذة
رياح اللؤم   ينبوع الخير
جيش لشوق   رواق الإسلام
زهر الشكر   أفق الرحمة
رياح المعالي   غوائل المحن
هضبات الذنوب   متاع الغرور
رواق الرحمة   جناح الذل
وشائج المحبة   ثوب العافية
             
ذهني ملموس        
كرم الغمام        
أمل الفقير        
             
ملموس ملموس        
جماجم المال        
حسام اللسان        
             
ذهني ذهني        
آيـة العناية        

لكن الإحالات ليست نفسها تماما في الكناية الحديثة:

تركيب الكناية الحديثة
ذهني ملموس        
الوقت سنبلة   خارطة الموت
الحب شجر   الرغبة أدغال    من
الموت شجر   مرساة الحنان
النفي غابة   حوض الرغبات
             
ملموس ملموس        
النار أبراج   الماء جرثومة
الحجر خدُّ   الرعد مستودع
الفضاء كف   المطر ضوء
العشب خارطة   السماء أطباق
السهول أحشاء        
             
ذهني ذهني        
الصمت آية   الكشف لحظة
التيه   زمن        
             
ملموس ذهني        
الليل أرق        

إننا نلاحظ الظواهر التالية في الكناية التقليدية:
أ- تذهب في الغالب من الملموس (م) إلى الذهني (ذ)

م "> ذ
إنها، إذن، تمنح الذهني ملموسية ما، ولهذا نتيجة مهمة على الصعيد الشعري، لأن واحداً من وظائف الشعري الأساسية هي (تحسيس) المتخيـَّل والشعوري، جعله مرئياً أو ملموساً.
فعندما أقول (رواق الرحمة) فإنني أمنح المفهومة الذهنية التي هي الرحمة بعداً من الملموسية الجلية، إنني عبر اللغة - الكناية أعطي الذهني جسداً.
ب - إنها تذهب قليلا من ذ إلى م وإذا فعلت فإنها تنتهج نهج عرف لغوي سائد، فعندما أقول (كرم الغمام) فإنني لا أفعل سوى إعادة ما سبق وأن قيل في ربط الغمام بالكرم، ومثل ذلك (أمل الفقير). إن التناقضات لا تصير هنا ذات دلالة. إنها تتوقف عند دلالات القاموس ولا تنحرف كثيرا عنه.
ج - إنها لا تفعل، إلا نادراً، بالذهاب لا من م إلى م ولا من ذ إلى ذ وكأن هذه المهمة، على الرغم من أنها متضمنة في الشكل ويبيحها هذا الشكل، مؤجلة إلى زمن آخر. فإنه لن يُغامر بها كما لو أن ذلك لم يكن ممكناً في السياق التاريخي، لان ذلك سيقود إلى نتائج حاسمة وجذرية. سوى أن هذا الاستنتاج لا ينبغي أن يؤخذ كمعادلة حسابية لا شأن لها بالصيرورة الشعرية، فهو استنتاج يتطابق مع الفترات المزدهرة، ذات الفاعلية الشعرية الكثيفة ومستخلص منها. فالجاهلي كان حسياً، وعلاقات شبهه (تراكيبه) كانت تستل على الدوام من ملموسية العالم وعبر طريقة تأمله للمباشر. أنظر إلى هذه العلاقة التي يُشبـِّه بها طرفة بن العبد ناقته بقنطرة الروم:

كقنطرة الرومي أقسم ربها   لتكتنفن حتى تُشادَ بقرمدِ

لقد كان يذهب في الحقيقة من م إلى م بشكل أساسي ولم يكن له الخيار بذلك. إن التحسيسية سمة من سمات الشعري. لكن الأخطل، مثلا، الذي يمثل مرحلة لاحقة تقف بين تلك الجاهلية الحسية جداً والخصبة شعرياً والفترات اللاحقة التي سيكون للتحضر، أي لتأملٍ من نوع آخر للعالم، لعلاقة أخرى به، سيقدم لنا تأرجحاً بين اثنين، فمن جهة ثمة وفرة في م الذاهبة إلى م لكن المتأسسة دوماً على عرف بلاغي، وثمة كذلك أنماط أخرى من العلاقة لن تحيد كلها تقريبا عن هذا العرف. لا نتحدث عن العرف. من هنا تبدو ملاحظتنا صحيحة وفي هذا السياق بعينه. أنظر ما أحصيناه في ديوان الأخطل من كنايات.
د - إن الملموس يحيل على الذهني وان العلاقة تقف في الغالب عند هذه الإحالة، بمعنى أن هذا الذهني لا يحيل على الملموس، وكأن هدف الكناية هو، فحسب، الهدف الموصوف في النقطة (أ) أي أن العلاقة تبقى، في الغالب، خارجية، فعندما أقول (هضبات الذنوب) فإنني، كما قلنا، لن افعل سوى نقل الذنوب من إطارها الذهني إلى إطار ملموس، أي أن العلاقة ستظل مركزة عليها، ولكنني عندما أقول (ينبوع الخير) فان م يذهب إلى ذ كما يذهب ذ بدوره إلى م
(م ">   "> ذ) بعلاقة تبادل داخلية تجيء من أن الينبوع والخير يكمنان في دلالة التدفق والانبثاق، ويجدان لهما أفقا دلالياً واحداً يماثل قولنا (سنبلة الوقت) من حيث دلالتها. إن تلك الأحادية في الفعل تأتي من أن اللغة لم تكن تمرق إلا قليلاً، لم تكن تخترق الاستخدام السائد إلا بعض الشىء.
هـ - إنها تتماس، ولا تجرأ أن تكون، انحرافاً جذرياً للغة على الرغم من أنها مختزنة باحتمالات تصويرية ثرية. بل أن من كان يستخدمها بوفرة كان يُنظر إليه بنوع من عدم الرضا، فحين سمع أحدهم قول أبى تمام:

لا تسقني ماء الملام فإنني   صب قد استعذبتُ ماء بكائي

أخذ وعاء وذهب يطلب منه في شيء من السخرية قطرات من (ماء الملام) هذا فيجيبه أبو تمام بأنه لن يعطيه ما يريد قبل أن يأتيه هو بريشة من (جناح الذل)، في إشارة إلى الآية القرآنية.
وإننا نلاحظ الظواهر التالية في الكناية الحديثة:

أ - إنها تستلهم، شكلياً، ذات البُنية، حيث نرى، مرة أخرى، أن بُنية (آية العناية) التقليدية تشبه (آية الصمت) الادونيسية.
ب - إنها تذهب، كذلك، من
م"> ذ
لكن م الملموس يبقى في كثير من أمثلة الحقل الثاني تابعاً لـ (ذ) الذهني، إذ أن الذهني يتحسس بدوره في غالبية أمثلة هذا الحقل، سوى في (سنبلة الوقت) المشار إليها أعلاه حيث يذهب الطرفان نحر بعضهما:
(م "> ">ذ)
يثريان بعضهما، يتفاعلان. بينما الأمثلة الأخرى فإنها تؤلف أو تؤالف بين ألفاظ لم يُتـعارف على جمعها في كناية واحدة. إنها لذلك تحطم عُرفاً رغم تشابهها البنيوي مع القديم، فـ (غابة النفي) و (خارطة الموت) رغم شيوعها الراهن إنما هي أمثلة لم تهتد لا بالقديم ولا بالكتابات المكرسة.
ج - وعطفاً على ذلك فان بمكنتـها الآن أن تذهب من الملموس إلى الملموس في كنايتين من قبيل (مستودع الرعد).
إن م   م هو شيء بارز في البنية الحديثة، ولهذا دلالته الواضحة، انه يعني أن البنية الحديثة لم تتوقف عند أحادية الطرف المعلوم الذي يدعم الطرف المجهول. إنها بمعادلة م?م تذهب من الكناية البسيطة إلى نطاق تخيلي أوسع، سيشكل جزءً أكيدا من الصورة الشعرية، كما أن معادلة الذهني الذاهب إلى الذهني إنما تدخل في نطاق آخر: اكثر تأملية، فان (زمن التيه) و(لحظة الكشف) تمنح للتأملي مكانة بارزة، كما للغوص في الذات وتأملها بطرق من هذا القبيل.
د - سوى أن النقلة الأبرز، عطفاً على أعلاه، هي انخرام البنية الشكلية للكناية عبر الحرف (من) في مثال (أدغال من الرغبة). إن الشكل يؤخذ من الماضي ويستخدم بوفرة ولكنه ينعطف الآن انعطافة حادة عبر استخدام الـ (من) هذه التي ليست مجرد حرف بسيط. انه يكسر الفكرة نفسها، ينحرف باللغة المزيد من الانحراف. إننا نستطيع بسهولة تبين الفارق بين:

أدغالُ الرغبةِ

وأدغالٌ من الرغبةِ

تأتى المحدودية النسبية للصيغة الأولى بالمقارنة مع الثانية من هذا الحرف بالضبط، الذي يُناثر الصيغة إلى ابعد الاحتمالات، وينثر الدلالة على مساحة أرحب. فإذا كانت صيغة (أدغال الرغبة) تسعى من بين ما تسعى إليه إلى تحسيس الذهني فإن صيغة (أدغال من الرغبة) إنما تنقل الطرفين إلى مجال عمل بعضهما، إلى اندغام في حقليهما الدلاليين. إن حرف الجر (من) يُكسَّر النمط ليشكل بُنيهَ جديدة، يتم خلالها الاقتراب من فضاء آخر، اكثر لصوقاً بالمُتخيل. إننا نتقدم من نسق معروف إلى نسق غير معروف. هاهنا مثال آخر اكثر وضوحا:

صفاتٌ الترابِ
صفاتٌ من الترابِ

وهو للشاعر صلاح فايق ، الأول يمكن أن يكون كلاماً عادياً جداً، والثاني مشحون بالدلالات. إننا نعيد صياغة البنية م ذ?م ذ لكي نحولها إلى (صورة)، أو مايشبهها وليس (تعبيراً). وإذا كانت معادلة العلاقة بين المحسوس والمادي هي إشكالية شعرية في عمقها العميق، حيث يجري فيها إظهار صورة مرئية للامرئي، جعل اللامرئي يشخص وينهض كيانا، كما نفعل عندما نُلبس (الرحمة) هيئة (الرواق)، فان الصيغة الأخيرة التي نضيف عليها (من) الطالعة من رحم الأولى إنما تسعى إلى وحدة شمولية بين الذهني والملموس، الملموس والملموس والذهني نفسه، وبعبارة أخرى وحدة بين العناصر اللغوية، الدالة على الموجودات. إن هذه الصيغة جديدة تماماً، لأننا يمكن أن نقرأ في التراث العربي بيت ابن المعتز في وصف الهلال:

وانظر إليه كزورق من فضة   قد أثقلته (حمولة من عنبِر)

وقول القاضي التنوخي من شعراء القرن السادس في وصف الهلال أيضا:

مثل فخ من اللجـــ   ـين لصيد الكواكبِ

وقبل ذلك في القرآن الكريم (حجارة من سجيل)، سوى أن هذه الـ (من) وما يليها ليست سوى توصيف لشيء، وكأنهما يقومان مقام الصفة، وكأن الشاعر يقول (زورق فضي) و(فخ لجيني) و(حجارة سجيلية) فهي لذلك ليس الصيغة التي تعنينا هنا رغم أنها تشكل تقدماً بارزا في الشعرية العربية، ولنر أنها تأتي، زمنياً، في وقت متأخر من تاريخ الشعر العربي، وهذه النقطة التاريخية تطرح السؤال الجديد التالي:
متى ظهرت هذه الصيغة من الكناية زمنيا؟
ها نحن أولى نقرأ ديوان امرئ القيس كله لنعثر على بضع صياغات كنائية من هذا النمط فحسب:
1 (يد المُسند)، أي يد الدهر، في بيته:

لقلتُ من القول ما لا يزال   يؤثرعني يد المسند

2 (أطراف الخطوب) في بيته:

وما المرء مادامت حشاشة نفسه   بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي

3 (رؤوس المجادل)، أي الجبال، في بيته:

تلاعب أولاد الوعول رباعها   دوين السماء في رؤوس المجادلِ

وها نحن أولى نقرأ ديوان طرفة بن العبد جميعه ، لنعثر على صيغ قليلة من هذه الكناية:
1 (شآبيب الموت)، والشؤبوب هو الدفعة من المطر، في بيته:

وتلبس قوماً، بالمعشر والصفا   شآبيب موت تستهل وتغضي

2 (سماحيق ثرب)، السمحاق هو الغيم الرقيق، والثرب قطع من الشحم، في بيته:

وإنا إذا ما الغيم أمسى كأنه   سماحيق ثربٍ وهي حمراء حرجف

3 (ظهر الترس) في بيته:

فذو النير فالأعلام في جانب الحمى   وقف كظهر الترس تجري أساجله

4 (حياض الموت) في بيته:

وان يقذعوا بالقذع عرضك اسقهم   بكأس حياض الموت قبل التهدد

أليست غريبة هذه الندرة النادرة للكناية (الصيغة موضوع حديثنا)عند شاعرين جاهليين مهمين؟ ما هي، في البدء، طبيعة هذه الكنايات.
في أبيات امريء القيس الثلاثة جرى استخدام أعضاء جسدية (اليد، الطرف، الرأس) لتشييد الكناية، وهو استخدام فطري للغاية، بدئي، يجري مجرى تشبيه الشيء بمثيله الطبيعي: قمة الجبل بالرأس لأنها كما الرأس في أعلى الجسد البشري، و(أطراف الخطوب) تأخذ معناها من (الطرف) الذي هو حسب ابن فارس: "طرف كل شيء هو الحاد منه" أي البارز والناتئ منه، كمعنى أول وكمعنى ثانٍ "يدل على حركة في بعض الأعضاء" ، وإذن هي الأطراف (الأيدي والأرجل لدى الإنسان والحيوان)، كما أن (يد المسند) لا تخرج عن ذلك رغم أن اليد مستخدمة هاهنا بمعنى (ابد الدهر) حسب اللغويين كما في قول كعب بن مالك الأنصاري:

فلو حللتم من دونه   يد الدهر عز لا يبوخ ولا يسري

إنا نلتقي الظاهرة في كناية طرفة (ظهر الترس) لكننا نجد عنده، بالإضافة إلى ذلك، تماثلات مع الطبيعة (شآبيب الموت) (سماحيق ثرب) التي لن تخرج عن طبيعة التشبيه البدئي، ليتبق (كأس حياض الموت) هو الأوضح من بينها جميعا في تركيبه كما في دلالته التي ينطبق عليها ما قلناه قبل قليل.
إن الكناية التي تأخذ من الجسد أو الطبيعة صفة ولتربطها بمكان أو صفة هو استخدام بدئي، ولا نقول بدائي. لان المقاربات نفسها انبثقت، على ما يبدو، من الطبيعة والجسد والأشياء الأكثر لصوقا بالكائن، فان (جفن اليماني) أي غمد السيف اليماني في بيت طرفة:

أتعرف رسم الدار قفراً منازلهْ   كجفن اليماني زخرف الوشي ماثلهْ

هو استعارة من (الجفن) = الغطاء بشكل عام لأشياء أخرى، للغمد في مثال طرفة، وللعين. إننا لـمَّـا نزل حتى في بعض الاستخدامات الشعبية نذهب هذا المذهب، فإننا نقول في اللهجة العراقية- البغدادية (رقبة الجسر) للدلالة على بداية الجسر كما لو أن هذه الرقبة التي (تربط) الرأس بالجسد تصلح أن تكون كناية لضفتي النهر! ونقول (راس الشارع)، في لهجاتنا العربية و (راس البلاد) في التونسية والجزائرية و(راس العنقود) وفي اللهجة الجزائرية (عرس بغل)، كما في اللغات الأوربية، ففي الفرنسية يجري، بوفرة، استخدام أعضاء الجسد:

عز الصيف (حرفياً:قلب الصيف) Cœur d’été
وسط المدينة (حرفياً: قلب المدينة) Cœur de la ville
وجه الرغيف (حرفياً: فم الرغيف) Bouche de pain
فصيح اللسان (حرفياً: فم الذهب) Bouche d’or
فوهة المدفع (حرفياً: فم المدفع) Bouche de canon
مصب النهر (حرفياً: فم النهر) Bouche d’un fleuve
سفح الجبل (حرفياً: قدم الجبل) Pied de montagne
وجه جامد (حرفياً: وجه الحجر) Visage de pierre
زهرة الشباب (حرفياً: زهرة العمر) Fleur de l’âge
ما زال هذا النسق من الكناية مرتبطاً بعناصر أولية، لم يجرِ تهذيبها ولم يجرِ خلقها عن وعيّ. غير أن هناك صياغات أخرى مرتبطة بالبناء الكلاسيكي ( الجاهلي) العربي وتشبه بنية كنائية مثل تعبيري امريء القيس (جواد المحثة) أي الجواد الماشي بالحث و(طِبـْقُ الأرض)، في بيت يصف فيه الغيث:

ديمة هطلاء فيها وطف   طبق الأرض تحري وتدر

وطبق الأرض: تعني هنا أنها تعُمُّ الأرض وتطبقها أو تُطبــِقُ عليها.
وهناك أمثلة كثيرة لمثل هذه الصياغات التي يبدو أنها تطورت إلى الصيغ الكنائية التي نتحدث عنها. الصيغ المقتصدة، الواضحة، المشتملة على مفردتين من حقلين مختلفين. لماذا نلح على هذه النقطة الأخيرة؟ لأن البلاغيين التقليديين يضمون صياغات أخرى، عن حق، إلى حقل الكناية وهي صياغات لا تعنينا هنا .
إن كنايتنا، ولو بأشكالها البدئية محتواة في الجسد الشعري الجاهلي ولكن في غاية الشحة.
إننا، إزاء مسألة الزمني، نلاحظ:

  1. قلة بنية الكناية هذه في الشعر الجاهلي وفيما يليه.
    (ولد امرئ القيس 130 قبل الهجرة وتوفي سنة 80 ق. هـ) تظهر عنده نحو 3 مرات فقط.
    (عاش طرفة في القرن السادس الميلادي أي في القرن الأول ق. هـ) تظهر عنده نحو 4 مرات.

  2. ظهورها الخجول في الشعر الأموي (توفي الأخطل بين 640 – 710م، أي في الجزء الأول من القرن الأول الهجري) تظهر عنده نحو(170) مرة كما أحصينا بأنفسنا ورودها في ديوانه.

  3. حضورها القوي في الشعر العباسي. يصير الإحصاء هنا جهداً لا طائل من ورائه. إننا نستطيع التحقق من النتائج بسهولة كاملة.
    (توفي أبو نوّاس سنة 195 هـ).
    (توفي أبو تمام سنة 231هـ).
    (توفي ابن المعتز سنة 296 هـ).
    (توفي المتنبي سنة 354 هـ).
    (توفي المعري سنة 449 هـ).

  4. ظهورها القويّ في فنون البديع والبلاغة بعد ذلك.
    (توفي ابن الخياط سنة 517 هـ).
    (توفي ابن خفاجة سنة 533 هـ).
    (توفي ابن سناء الملك سنة 608 هـ).
    (توفي البوصيري سنة 696 هـ).
    (توفي صفي الدين الحلي سنة 750 هـ).

  5. سيادتها في نثر هذه الفترة الأخيرة، وفيما يليها خاصة في الأندلس والمغرب.
    (توفي المقري التلمساني صاحب "نفح الطيب" سنة 1041 هـ) .

  6. عودة حضورها في الشعر العربي المعاصر، بغزارة وإفراط دال (كانت النماذج مأخوذة من قصيدة واحدة لأدونيس) .

استطرادٌ ثانٍ
ثمة شعر يتأسس اليوم كله على كنايات من قبيل الكنايات التي نصف. كله أو جله. ويقف في موضعها ويستمد كل زخمه منها لوحدها دون الانهماك بالعناصر الأخرى الكثيرة التي تكون شعرية النص. انه يتلقف الإمكانية الداخلية التي تسمح وتلوح بها هذه الكناية، خدّاعة أحياناً، متوصلاً إلى نفي نفسه. نقول خداعة لأنها كانت تغامر على الدوام بإعادة ما قيل، بالعرف، وخداعة للغاية لسبب بنيتها الخارجية التي توحي بشعرية ما ليست سوى ابتسار للمخيلة وللغة وللذاكرة. لدى هذا الشعر صياغة مألوفة، مُسْتَسْهَلة، تزعم أنها تأتى بالأعجوبة وبالمعجز في حين أنها لا تفعل سوى قول ما قيمته موضع شك كبير. إن مثال الشاعر عبد القادر الجنابي ذو دلالة هنا، وهو يؤخذ في الصفحات اللاحقة لا بصفته شاعراً مهماً ولكن بسبب سطوع المثال، في نصوصه، على هذه البنية الشعرية الصغيرة والنتيجة التي نطلع منها عند الاستناد النهائي إلى هذه الصيغة، لوحدها، كما يفعل الكثير منن الشعر العربي الحديث. فمجموعته (ثوب الماء) تشهر هذه الكناية عنوانا لها. انه يقدم الأمثولة. وان الكناية تشكل الجهد الشعري كله تقريباً له. إننا نلتقيها في كل صفحة . هنا إحصائية كاملة لجميع الكنايات الواردة في المجموعة التي تتألف من 48 صفحة فقط لا غير من القطع المتوسط وبحرف كبير:
(خبز الشهوة) (كسرة الفردوس) (إبليس الإيمان) (غدير البياض) (ذؤابة شمس) (مرايا الانفطار) (رضاب المعمور) (حلق الصحراء) (بؤس قصيدة) (رديد الزمن) (شجرة المعرفة) (ثمرة الفراغ) (حية الحنين) (زعفران الأنقاض) (ضرس الحاضر) (سلة الكينونة) (رحم الإيماءات) (وجه الربيع) (معترك الخيال) (أذيال الشفق) (شبكية المنظور) (معصم النوم) (شذور الاسم) (صدر الشعراء) (عَرَقُ الدخان) (مخادع الماضي) (فرق الملحدين) (عِلم النار) (ملأ العبارة) (زنبق الأحلام) (موطن الهواء ) (مفتاح الحقول) (رابعة النهار) (برية الماوراء) (فسحهَ الظلمات) (أوان البحر) (أحراش أول الأيام) (بهيمة الهواجس) (مفاوز الرأس) (ملمس الروح) (ليل الصفحات) (قطن المدلول) (شقراء الخُلُو) (أوار الليلة) (أقذاء فكرة) (قلب المعنى) (رائحة الكتابة) (منبثق الأشياء) (جرح الفجر) (هول الليل) (حلل الكلام) (طيور الدماغ) (لجة الشفق) (بقايا شرق) (قوى الأسماء) (مكمن أرواح) (سنابك الصحراء) (فلسفة البؤس) (بؤبؤ الموت) (هراء الأفق) (سماع الانعكاس) (شاشة الدماغ) (غلة اللغة) (لسان الناس) (رقيق الكلمات) (حيثيات المكتوب) (عطش الثلج) (دم الرسالة) (دموع السلفيين) (لآلئ فوات الأوان) (جماع الأسماك) (عقارب الوقت) (رضاب الساعة) (ممر الشمس) (وهج التغيير)(رائحة النعاس) (جوف المسام) (سطور الدماغ) (لحظة الحركات)(ثورات الحلم) (مشروع الكتابة) (ثوب الروح) (جرف الشرق) (ظل المفقودين) (أرامل الميم) (مدخنة التغريب) (ذراعا الاحتمال) (وجه القبائل) (شمع ديك أرت) (مساتير الفضاء) (طقس الجمل الفعلية) (نهر الجَمال) (مجلد الشوارع) (ملصقات ظهر الغيب) (حقل السرة) (طيات المياه) (لوح ضياع) (قصعة المشاف) (أخاديد الامداء) (دجى الاستحال) (شعلة ذكاء) (فجاج الحجرة) (نجمة الراعي) (تكشيرة ماء) (غصن القرار) (غصن الهواء) (دم المجيء) (لبن الحكايات) (حائط الأوراق) (كسرة نهار) (حركة الليل) (خندق اليقظة) (غدة الاستقصاء) (وحل الفصول)(ردهة البحر) (حطب الماضي) (نار الحاضر) (جثمان الواقع) (رماد الآتي) (قعر خنجر) (شرطي الوجه) (دورق الإحداق) (سرير العين) (بنت فكر) (أديم الوقت) (رواسب الخطيئة) (جليد المدن) (شدق المدثور) انتهى.
ماذا نستنتج؟

  1. إنها تظهر لديه 126 مرة تقريبا، لأننا أسقطنا بعض الكنايات التي تجري اليوم مجرى التعابير الشائعة، أي بمعدل 5،2 في الصفحة الواحدة. وإذا قارنا حجم ظهورها لدى شاعر آخر قديم، على سبيل المفارقة الدالة جداً، لوجدنا أنها تظهر لدى الأخطل 170 مرة فقط في ديوانه كله أي في عدد من الصفحات والأبيات يفوق كثيرا جداً عمل الجنابي. أي أنها تظل معتدلة إلى أبعد الحدود ولا تشكل جوهر عمله الشعري مثلما لا تشكل البتة جوهر العمل الشعري لدى أي شاعر حقيقي. لكن هذا الإحصاء يبقى هامشياً، وشكلانياً في المقام الأول، من دون درس من نوع آخر:
  2. إنها تصير لدى شعراء يستسهلون الكتابة الشعرية أرضية أساسية للقول، يستغني عبرها عن الجهود الأخرى الممكنة، اللغوية والتخييلية، ففي حين يحسب أنها تقدم له عالماً غرائبياً فإنها لا تفعل سوى تقديم صيغ لغوية سهلة ومُصْطنعة، وإذا ما صرفنا النظر عن صيغ مثل (قطن المدلول) و(سماع الانعكاس) و(مساتير الفضاء) و(غدة الاستقصاء) التي، بتواضع، تتجاوز فهمنا، فإنا نرى في كلام مثل:

"جبلا بلا منحدر
ثوب الروح
وجرف الشرق"

اختزالا للشعر إلى صيغ مسبقة الصنع يمكن النسج على منوالها إلى ما لانهاية. وإذا ما كان صحيحاً أن الصورة الشعرية تـقوم على أساس اقتناص العلائق الداخلية بين طرفين متنافرين دلالياً فإن العكس هو الحاصل عند الجنابي، انه يباعد اشدّ التباعد بين هذه العلائق من حيث لا يستوجب الأمر، ها هنا بيت يدلنا على ذلك:

"عقارب الوقت تتشذر لساناً يشاطيء رضاب الساعة" هكذا ينطفئ الشعر مُصْطـَنَعاً كلما حاولنا الاقتراب منه. وفي مقطع آخر نقرأ:
"النار لا تضرب أحبابي
احتطب يا هذا (حطب الماضي)
اجعله في (نار الحاضر) دماً لإعراسي
أما أنتم ياخلاني
هاكم (جثمان الواقع)
مسجى في (رماد الآتي)"
إن المضاف يبدو نافلاً وملصقا من أجل الإيحاء بعمق ما، حتى انه يمكن الافتراض أن النص ذاته، النص الأصلي، كان خالياً من هذا المضاف، وها هو ذا عارياً:
"النار لا تضرب أحبابي
احتطب يا هذا الماضي
اجعله في الحاضر دماً لأعراسي
أما أنتم ياخلاني
هاكم الواقع
مسجى في الآتي"

وهو نص يبدو لي اقل تفذلكاً بقراءتي المفترضة هذه واكثر إقناعا، شعرياً، من صيغته المكتوب بها.
يغدو التنبيه واجباً هنا إلى أن العلة لا تكمن في هذه الكناية بحد ذاتها وإنما بالطريقة التي تُدار بها. إن اقتضابها وقدرتها على الإشارة يمكن أن، كما يقول ابن المقنع في استشهادٍ يورده الجنابي نفسه بشأن البلاغة: "إذا سمعها الجاهل ظنَّ انه يحسن مثلها". سيلتقي المرء بمثل هذه الصيغة الكنائية في أدب المحسنات اللفظية المتأخر، وبذات الجرأة التخيلية المزعومة، كما لدى ابن حجة الحموي: (شبق النخيل) (نعش الغراب) (أرداف الأمواج) (مقلة البحر) (أنظر كتابه "ثمرات الأوراق" ص60-61) أو لدى الأبشيهي: (أشجار الوقار، ص14 ج1 من المستظرف) وغيرهما دون أن يغيِّر هذا شيئاً من الطبيعة الموغلة في الشكلانية لهذا الاستخدام.

خلاصة
هكذا نرى أن هذه الكناية التي ربما اعتبرها البعض إنجازا محضاً من إنجازات الشعر العربي المعاصر كانت حاضرة في جسد الشعر العربي في تاريخه بكامله ولكن بدرجات متفاوتة، كما أنها ما زالت حاضرة في اللسان الشعبي في مستويات بسيطة، مما يعني أنها ما فتئت بنية من البُنيـَّات التي تفعل في بنية النص الشعري، ليس لوحدها.

لقد تقلبت من كناية بدئية، مرتبطة بالطبيعة في الشعر الجاهلي إلى نسق يتقارب مع التشبيه (حياض الموت) (جناح الرحمة) في العصر الإسلامي والأموي، إلى بنية شعرية تلامس مفهومة غامضة للصورة الشعرية (أبو تمام) وصولا إلى كونها بنية زخرفية في العصور العربية المتأخرة وفي النثر الأندلسي خاصة، لتنتقل في العصر الحديث إلى شيئين: الاحتفاظ، مرة، ببنائها الشكلي، ومفجرة إياه، مرة،، بإضافة (من) فتكون بذلك أداة للمتخيَّل وتقترب من رؤية جديدة للعالم. وظيفة هذه النواة الشعرية هي جعل الذهني محسوساً، أو جعل اللامرئي مرئياً كما نقول اليوم.

إن البُنية نفسها شبه ثابتة، وإن الاستخدام يختلف من عصر لآخر، لكنها ليست البُنية الوحيدة التي يسري عليها هذا القانون فان التشبيه سيحتفظ بذات بنيته القديمة.

كاف التشبيه: نواة أخرى للشعري
هذا الاستناج يمكن تطبيقة، بتفاصيل مختلفة، على مسألة (التشبيه) وأدواته. ولقد كنا نود أن نبرهن في فصل منفصل موسَّعٍ على أن أدوات التشبيه البسيطة، ككاف التشبيه، تشكل نواة أخرة في بنية الشعري تذهب من القول السهل في جملة مثل (شجاع كالأسد) الذي تبرز علاقة المعنوي (الشجاعة) بإطار حسي (الأسد)، إلى تشبيهات أكثر تعقيداً بكثير تقف في مصاف الصورة الشعرية كما في أمثلة باهرة لدى المتنبي على سبيل المثال. وقد لاحظنا أن حذف أداة التشبيه يصير في الشعرية الحديثة واحدة من قواعد القول، ويرتفع بالكلام الشعري إلى مصاف استعارة من نمط غير تقليدي البتة. على أن هذه المحاولة ستستعيد الكثير مما قلناه هنا، الأمر الذي لا ينفي بأنها (نواة أخرى) تقع في صلب عملية العمل الشعري.

أقرأ أيضاً: