عباس بيضون
(لبنان)

الربيع العربي في درسدنلكل جسد ساعته الداخلية، ننام ونصبح في الأوقات ذاتها تقريباً، لكن الجسد لا يغدو ساعة كل لحظة. عندما كان عليّ ان أصل في مطار فرنكفورت في 25 دقيقة فقط إلى الموقع الذي انتقل منه إلى الطائرة المسافرة إلى درسدن، انهمكت في السير بسرعة. لكن موظفة الأمن التي انتظرت حتى وصلت إلى شباكها سألتني عن ورقة الدعوة التي لم أحضرها معي لأن طابعة الكومبيوتر تعطلت ولم أصبر عليها، لم يكن بيننا لغة فانتظرت حتى وصل إلى الشباك المجاور واحد يعرف الفرنسية فتولى الترجمة بيننا، كان معي الفيزا ولم يسبق في سفراتي الماضية أن طلب مني أحد الدعوة. أطلقتني الموظفة أخيراً بعد أن ضجرت مني فأسرعت لأجد صفاً طويلاً في انتظاري. وصل دوري بعد وقت فعجلت إلى البحث عن A19. فتشت عن A وبعدها أخذت أعد إلى أن وصلت إلى الرقم 19. كان هذا الرقم لازمني من بداية الرحلة، بدأت في موقع 19 وكان مقعدي في الرقم 19. قالت لي الموظفة أن الوقت انتهى والطائرة أغلقت أبوابها. لم يجد احتجاجي ومراجعتي فأرسلتني إلى موقع آخر لتبديل البطاقة. في الموقع سألت عمن يتكلم الفرنسية وشرحت للموظفة أنني آت بدعوة وأن هناك من ينتظرني الآن في المطار ولا أظنه سيبقى إلى موعد الطائرة الثانية وأنني أعرف فقط رقم مركز الجماعة التي دعتني. طلبت الموظفة الرقم وأعطتني السماعة فسمعت المجيب الآلي يتكلم بالالمانية، فهمت أن المركز مغلق في هذه الساعة وما من مجيب، شرحت للموظفة أنني لا أعرف أحداً في درسدن ولن أجد أحداً بانتظاري وهذا مأزق لم يسبق لي أن مررت به ولا أعرف له مخرجاً. طلبت الموظفة مطار درسدن وقالت لي انهم وعدوها بأنهم سيذيعون أنني سأصل في الطائرة المقبلة، لعل من ينتظرني يسمع ذلك. سيذيعون غالباً قبل وصول الطائرة وقد لا يصل هذا الا مع وصولها. فهمت أن هذا لا يحل شيئاً، لن يكون هناك أحد عند منتصف الليل ولا أعرف كيف سيمكنني أن أمضي بقية الليل، ليس أمامي إلا التسكع والتوهان في الشوارع، انقبضت لهذه الفكرة وذهبت إلى الطائرة وأنا في أشد الانقباض. وصلت الطائرة فخرجت من المطار مع من خرج وها أنا أجد اثنين يحملان كل يافطة باسم المسافر الذي جاء لأجله. أتقدم فأجد اسمي، صبية نحيلة تحملها. أمنع نفسي من معانقتها لكني أشرح لها بالفرنسية التي تفهمها أنني ممتن للغاية. وأنني لو لم أجدها سأقضي الليل متسكعا في الشوارع. ترافقني إلى الفندق وهناك أعاود شكرها وتتقبل الفتاة شكري وتودعني وتمضي ولن أرى لها، بعد ذلك، وجهاً. في الفندق الذي يسمى «موتيل» رغم انه من عدة طبقات وأجنحته طويلة ومديدة. هناك أجد عادل فرشولي ونجوم الغانم وجرجس شكري وهند همام المصرية التي كانت فتية جداً بالنسبة لنا جميعاً. كان الوقت منتصف الليل، في الصباح أخذونا في جولة في باص بطبقتين داخل المدينة التي تعرضت في الماضي لقصف مبرح في الحرب العالمية الثانية، كان قصفاً، أحرقها ودمرها بالكامل تقريباً. خرجت المدينة من الحرب متجلببة بسواد تركه الحريق وقد أعيد بناؤها. لكن من فعلوا ذلك حرصوا على أن يتركوا السواد الذي خلفه على واجهاتها وعلى مطلات كنائسها وعلى قامات تماثيلها وحتى على جسورها، لم يعد في المدينة دمار لكن الحرب بقيت في ذلك السواد الذي استحال زياً للمدينة. صار جزءاً من مشهدها وبوسعنا القول انه لم يعد يلطخ الأماكن لقد صار عليها موزوناً منظماً. نستطيع الزعم بأنه صار جميلاً ولا نحتاج إلى وقت طويل لنعتاده. لقد صارت له جماليته، المدينة منذ ذلك الوقت ترتدي الحداد والحداد يليق بدرسدن كما كان يليق بالكترا في مسرحية أنوي. إنها الآن عامرة منتعشة ولا يستطيع اثر الحريق أن يفعل إلا التذكير بنجاتها. الشعراء سبعة، ذلك الرقم المقدس يعتمده مهرجان برادينال كل عام. أمسية لسبعة شعراء كانوا هذه السنة ألمانيين أحدهما «سعيد» من أصل إيراني، وأربعة شعراء بالعربية وشاعر تونسي بالفرنسية (عبد الوهاب المؤدب). كان الشاعر يلقي بلغته فيما الترجمة بارزة على شاشة. بدأت الأمسية بسعيد الإيراني، الألماني وبالطبع جرت القراءة والنقاش الذي تلاها بالالمانية. تلت سعيد هند همام المصرية، كنت سألت جرجس عنها فقال انه لم يسمع بها والتقاها لأول مرة في درسدن. فهمت أنها ألقت قصائد خلال الثورة ومن المفروض ان هذا سبب اختيارها، لكن جرجس الذي شارك في الثورة لم يعرفها، أخيراً فهمنا أنها أتت بناء على اقتراح المانية قدمتها غالباً على انها من شعراء الثورة. كان شعر هند ركيكاً ومبتدئاً لكن الجمهور حياها رغم ذلك والأرجح انه رأى فيها ممثلاً للثورة المصرية، بعد هند ألقيت وتلتني نجوم التي قرأت قصائد غير منشورة أهدتها إلى البلدة الالمانية التي تعالجت فيها بعد أن أصيبت بعطل جسماني أقعدها وخرجت من البلدة قادرة على السير، بعدها قرأ عبد الوهاب المؤدب الشاعر الالماني وجرجس شكري الذي قرأ قصائد إحداها تتحدث عن بيته الذي تتصايح غرفه غيرة وغضباً. اثر كل قراءة كان مقدم الأمسية يحاور الشاعر ويلقي عليه بضعة أسئلة تكررت فيها مسألة العلاقة بالغرب والموقف من الربيع العربي كانت الأجوبة متفاوتة لكنها اتفقت على ان الأثر الغربي كبير لكننا نعيد خلق هذا الأثر في لغتنا الخاصة وأن الشعر لغة عالمية ولكل شاعر فيها حضوره الخاص

السفير- 9-9-2011