عباس بيضون
(لبنان)

ملف (السفير)

نجيب محفوظطال عمر نجيب محفوظ واذا كان عمر المرء يقاس بما أثمره، فإن عمر نجيب محفوظ أطول من ذلك بكثير. لقد أنجز مكتبة كاملة وظل يكتب إلى أن شحّ بصره فاستبدل الكتابة بالإملاء وكان من روائع ما أملأ سيرته الذاتية وأحلامه. واذا كان نجيب محفوظ حاضرا في شيء فهو كتبه، الأرجح أنه آثر ان يعيش على هامشها، وان يكون في نهاية الأمر كائنا من حبر وورق وحروف. ليست حياة محفوظ دهليزا ولا سرا غائرا. ظل يقول انها حياة موظف لا حياة كاتب، انها دوام ونظام واجتماعات عائلية واصدقاء طفولة وكتابة. قد تكون حياته اغنى من ذلك كما يلمح آخرون لكن الرجل شاء ان يبعدها عن العيون، وان لا يكون بين القارئ وبين كتابه اي واسطة، وحسنا فعل فإن التشخيص والتجسس على المؤلف والنمذجة البطولية هي ما يتواطأ عليه القارئ والكاتب عندنا. نجيب محفوظ، إذن هو كتابه، وهذا الكتاب يطل عليه ويصفه لنا. يتطوع كثيرون للحديث عن لاعب الكرة القديم ولاعب <القافية> وابن الحارة المصرية وذي الحياة السرية والوفدي والمتفلسف، لكن كل هذا لا يساوي الصورة التي تستنتجها من كتبه. يتراءى ان حياة محفوظ الاغنى والأكثر صدامية موجودة فيها. في هذه الروايات نجد فلسفة وسياسة وتجربة ومواقف نجيب محفوظ. ليس لنجيب محفوظ فلسفة متكاملة ولا تبني الروايات نظما فلسفية على كل حال لكن له مزاجا فلسفيا ومقاربة فلسفية. فالأرجح ان روايات محفوظ، اذا اخذنا ثلاثيته مثلا، تصور التكون الصعب وشبه المأسوي للفرد العربي، كما تصور البحث المضني عن المكان المفقود التاريخي والأنطولوجي والسياسي للعربي المعاصر، كما تصور البناء التأسيسي وشبه العبثي احيانا للمدينة والتاريخ والمجتمع. رواية محفوظ هي رواية هذا التأسيس وهي بالتأكيد ملحمته ولوحة احتدامه وغلياناته التي تنتهي غالبا بأن تأكل نفسها او تتطاحن بلا نتيجة.

لم يقدم نجيب محفوظ نفسه كمناضل من اي نوع، غير انه لم ينحن كفرد لأي نظام وإن يكن تجنب العاصفة. روايات نجيب محفوظ ليست في احتياط نجيب محفوظ وربما حماها بسكوته الشخصي. ما تقوله هذه الروايات بلغة روائية، لا تتساهل في هذه الناحية، نقد عميق وداخلي لخيانة النظم العسكرية التي هي ايضا خيانة طبقية وايديولوجية قدر ما هي افتضاح ثقافة فوقية طنانة. يذهب دارسو محفوظ الى التشديد على تاريخانيته، أي ايمانه بالتاريخ واتكاله عليه ورده العالم والاشياء اليه. والحق ان روايات نجيب محفوظ، عدا عن انها روايات افراد في صراعهم مع شروطهم التاريخية، فإن التاريخ عند محفوظ خال من اي مهدوية او خلاصية. انه مليء بالعكس بالسخرية التي يتقنها محفوظ وبقدرية تشارف العبث او اليأس. طالما عثرنا في روايات محفوظ على الدرويش او الصوفي الذي يتكلم بلغة إشارية احتمالية ناظرة للمستقبل، لنقل ان دراويش محفوظ كانوا غالبا صورة لليأس من اي مهدوية ووقوع التاريخ في عجز نفسه. بدا في وقت بأن رواية نجيب محفوظ هي رواية التأسيس المديني وان الزمن تجاوزها بقدر ما تجاوز هذا التأسيس. اشتبه نقاده وروائيو ما بعد جيله في ان أفراده لا يقولون كلمتهم الخاصة وانهم في حربهم مع ظروفهم يتركون الكلمة الأخيرة لها. لا نشك ان نجيب محفوظ ما كان ليترك للنفس الانسانية ان تنطلق في اغنية غير محدودة، ما كان ليؤمن بعجائب اللاوعي ولا طوفان الشعر الداخلي. رؤيته مليئة بالسخرية والنقد واليأس الصلب. واقعيته اذا جازت التسمية هي واقعية التحولات المسخية والتشوهات التدريجية والخيانة الاصلية (على غرار الخطيئة الاصلية) وكل هذا لا يقال الا بوضوح كامل وعصابي ايضا وبفم مليء بالشكوك وبمحاكمة شبه منطقية. كانت صورة العالم الواضحة المليئة بالزوايا الحادة وبالكتل الصريحة اكثر معاصرة لدى نجيب محفوظ منها لدى كثيرين من منتقديه الروائيين الذين مال بعضهم من حيث يدري ولا يدري الى ريفية كامنة والى نوستالجيا أثرية والى غناء هوية والى تاريخانية خلاصية ومهدوية. والآن وقد اكتمل الاثر المحفوظي وبعد ان زالت ثورات لم يترك بعضها الا الزبد فإن الاثر المحفوظي اكثر ما يكون شبها بنا. واذا جاز للمثقفين مثلا ان يبحثوا عن عارهم الخاص وتاريخهم الفعلي الذي تنكبوا عن ان يكتبوه فعلا فسيرونه في <ثرثرة فوق النيل> و<اللص والكلاب> اكثر مما يجدونه في روايات اكثر شبابا.

نجيب محفوظ مؤسس. ليس قطعا فحسب في الرواية العربية، بل هو الاول في ما ندعوه الرواية العربية المعاصرة. ليس مؤسسا فحسب بل هو صانع هذه الرواية وواضع هذا النوع الذي نسميه الرواية العربية، انها في الواقع لحظة تأسيس تاريخية اجتماعية ايضا. رواية محفوظ تحمل لحظة تبلور المدينة المصرية المعاصرة، صنع محفوظ المقابل الروائي لهذه اللحظة المركبة. لقد وجد النص الروائي، اعطاه اولوية وجعله نهاية في ذاته. لقد خلص النص الروائي من شوائب مراحل وزيادات لاحقة واختلاطات لسواه. خلصه من الشعر الكاذب والتفنن البلاغي والانشاء والنوستالجيا الريفية والمسخ العاطفي والافكار المسبقة والمثالات الضمنية والانحيازات اللاحقة.
بدا النص الروائي لذلك صارما حديديا محايدا وشبه لا شخصي، واذا اضفنا قلنا قاسياً وواضحاً. لقد جعل محفوظ الأفكار والمشاعر والشطحات والفيوضات الداخلية لعبة النص الروائي. انها في الغالب ادوار سرعان ما تنتهي الى غايتها وتستهلك نفسها فيه. وُجد الكاتب الذي لا يسلم نصه لأي رهان، الرواية تستنفد كل شيء وتحيله ركاما. الرواية اي اللعبة، اي البناء، اي الميزان والحركة هي الغاية وكل ما فيها تابع لها وليس شيئا سوى مادتها وجبلتها. اخترع نجيب محفوظ الرواية العربية وكان من الدهاء بحيث أمّن لها ان لا يطيح بها حاجز ايديولوجي او نفسي او أدبي. مع ذلك فإن لنجيب محفوظ رؤية القاع. التهافت والتخلع والانحطاط والخيانة هي الواقع بالنسبة لنجيب محفوظ. انه واقع يتفاعل نزولا وفي تكشف تدريجي لقاعه. من هنا رتابة العالم المحفوظي. انه لا يجد باهرا ولا قفزة حقيقية ولا ابتكارا فعليا في هذا التحول. من هنا فانتازياه الضمنية. من هنا تشاؤم عقلي يجعل محفوظ شبيها من بعيد بسويفت ورابليه، تشاؤم لا يملؤه سوى ذكاء لمّاح لم يعوز نجيب محفوظ وسخرية لاذعة كانت سلاحه الخفي.

بدا نجيب محفوظ وكأنه بين أدبائنا الوحيد الذي يملك نموذجا، لم يكن خاصا لكنه كان متكاملا. كان يمكن ان نقارن نجيب محفوظ ببلزاك، والقول أنه لم يمر بالتأكيد بجويس وفوكز وبروست. لقد تأخر هنا لكنها كانت المسافة ذاتها التي يبدأ منها كل تحديث عربي. مع ذلك فإن المسألة لا تقاس هكذا. لم يكن نجيب محفوظ مستخفا بالشكل الروائي، في الواقع لحق بداريل من دون افراط في ميرامار ولحق بتيار الوعي في <الشحاذ> وغيره. هذه المحاكاة لم تخدم الاثر الروائي المحفوظي ولم تبد لازمة له وان دلت على ديناميته. الآن وقد غدت المغامرة الشكلية هذه في تاريخ الرواية وانطوت في العملية الروائية من دون ان تكون شرطا، الآن يبدو البناء الكلاسيكي المحفوظي اقل قدما. بل يبدو ان العالم الذي يقدمه هو الذي يميز شكله. عالم مقابل بالتأكيد للارتطامات العمياء والدورانية للتاريخ المصري المعاصر ولتاريخنا الحديث كله. عالم اللامكان واللا إسم واللا هوية واللا موقع، عالم البحث عن مكان مفقود والخوض في صراعات زائفة والعودة القدرية الى بدء مستأنف. هذا العالم هو الذي يحدد الشكل المحفوظي الصارم الذي أقام بناء الرواية العربية وكان ثقيلا أحيانا، لدرجة ان أساليب واشكالات عدة خرجت من تصدعاته.

يبدو الأثر المحفوظي متسلسلاً متداخلاً كدوائر الماء وحارات الملك. إنه يكسب في تواتره هندسة مدينية. بل هو نوع من قاهرة مكتوبة فإذا أخذنا الأثر في مجموعة بدا في تواتره ذا مسحة شرقية. بل بدا رغم بنائه الكلاسيكي متصلاً اتصال ألف ليلة وليلة، ألف ليلة وليلة سوداء، تحولاتها بطيئة لكن ماسخة ومهلكة وذات طابع انحداري.

حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل له شخصيا وللثقافة العربية وللظروف التي أحاطت بالعالم العربي يومذاك، هكذا يحدث كل مرة لدى منح نوبل. بعض مواقف محفوظ من الصراع العربي الاسرائيلي اعجبت ولم تعجب، لكنها كانت في سياق موقف علماني تحديثي، استحق عليه سكينا في رقبته. لم يسافر لاستلام الجائزة وأوكل ابنته بذلك بدلا عنه. لم يسافر محفوظ الا مرة واحدة مرغما الى اليمن بتكليف من عبد الناصر. لقد نجح وفرض نفسه قمة للأدب العربي بأدبه وحده. من دون سلطة ولا علاقات عامة اعطى نجيب المثل بأن احترام الأدب هو ايضا احترام للذات والتزام بالحرية. بهذا الأدب كان معارضا وناقدا صلبا وواعيا للغاية، وبهذا الأدب كان ايضا قويا بحيث تجنبته شرطة الأدب وحادت عنه. لقد جعل من أدبه سلطة فعلية واليوم نرى موته وكأن امبراطورية هوت والفراغ، الذي يتركه لا يتركه سوى قلائل.

****

نجيب محفوظ هرم الأدب العربي وقمتنا العالمية

سميحة أيوب:
فضله على السينما

نجيب محفوظالفنانة سميحة أيوب: الحقيقة ان السينما العربية لم تستفد من كاتب ومبدع بقدر ما استفادت من نجيب محفوظ فالكثير من أعماله الروائية وقصصه قد تحولت إلى أعمال سينمائية ووصلت درجه اهتمام نجيب محفوظ بالسينما أن كتب لها خصيصا في بداية حياته الأدبية مجموعة كبيرة من الأعمال وشارك في كتابة السينما والحوار لاكثر من فيلم وظلت السينما ولسنوات طويلة ومن هذا يتضح العلاقة القوية بين نجيب محفوظ والسينما أي انه على علم ودراية بهذا العالم..

*(ممثلة مصرية)

هاني فحص:
بيني وبين أولادي وأحفادي

فرحت بنجاحي في إغرائي أولادي بقراءة نجيب محفوظ وبات مع غيره من شؤون المعرفة فضاء يجمعنا نستعيد شخوص وأحداث رواياته فنعيد إنتاجه كل على مذاقه، ما لم أنجح فيه هو إغراء أحفادي بنجيب محفوظ رغم أنهم وأنهن يقرأوون كثيرا وخاصة في الرواية، وأحاول ان أعوض هذا الفشل بشدهم من آن لآخر الى عالم نجيب محفوظ، ولدي سؤال هنا: هل ثقافتنا هي حالة منعطفة، أي ينقطع جيل فيها عن الجيل الآخر، ما يعني أننا قد نكون مستقبلاً من دون ذاكرة ثقافية، إذن كيف سيكون بإمكاننا ان نجدد ثقافتنا ونتجدد بها ان لم تكن لدينا المادة الأولى؟ أليست هذه حالنا مع موروثنا القديم والذي لا نستحضر منه الا ما يؤدي الى الانطفاء وإطفاء الآخر!..
أنا أدعو الى اغتنام فرصة غياب نجيب محفوظ لتثبيته في الذاكرة كشرط لإحيائه وتجديده، وبذلك نثبت ان الماضي الجميل لا يمضي، وأننا يمكننا استقباله اذا لم نستدبر المستقبل.

أنا رجل دين، قرأت نجيب محفوظ في النجف، في الحوزة الدينية، قرأته كله واستمتعت به كله، ولكن الرواية التي دارت بيننا أكثر، كطلبة أصدقاء ومشاغبين وحاملي أسئلة، في الحوزة، هي <أولاد جارتنا> التي قرأناها قراءة غير أزهرية، مقتنعين بأن جمالية العمل الأدبي لا تأتي من كونه حقاً او باطلاً. الى ذلك فإن السؤال لا يمكن ان يكون باطلاً، السؤال حق وحقيقي والجواب عليه هو الذي يكون حقاً او باطلاً، وليس مطلقاً طبعاً، نجيب محفوظ في <أولاد حارتنا> عاد إلى اختصاصه الاول، الى السؤال الفلسفي، الى السؤال المعرفي، الى قراءة الغيب بعين الشهود، حذراً من الخلط العشوائي بين الغيب والشهود، وعلى حسابهما دائماً.

يُظلم نجيب محفوظ اذا ما اعتبر روائياً فقط... فقصصه القصيرة، التي حاول فيها ان يتجاوز ذاته، الى حداثة اكثر <خمارة القط الأسود> و<تحت المظلة>، مثلاً وما زالت عالقة في ذهني وطرف لساني وعيني وأذني قصة <الحاوي خطف الطبق>.. نجيب محفوظ الذي رصد حركات طبقاتنا الاجتماعية في متحول او تحدّ حداثوي بعد الحرب الثانية، وفي مصر، ام الدنيا، وفي <بين القصرين> و<زقاق المدق> و<خان الخليلي> و<ميرامار> و<ثرثرة فوق النيل>.. كان استحقاقنا فاستحقّنا كما استحققناه، وحق لنا ان نرقى بفهمنا للعمل الروائي، للإبداع على انه معرفة اخرى.. وأعمق من المعارف الاخرى، أتمنى على أحد ان يقنع أحفادي ان لا يحرموا أنفسهم من نجيب محفوظ.
(كاتب لبناني)

شوقي بغدادي:
نكبة ثانية

هكذا دفعة واحدة تقفز إلى وجداني عوالم هذا الروائي الكبير مع خبر موته الفاجع بدءاً من روايته التاريخية إلى الاجتماعية إلى السياسية إلى الفانتازية، إلى مذكراته، إلى كل كلمة قدّمها أو تصريح تفوّه به، كي أتأكد من خلود هذا الرجل الكبير الذي أذكره الآن وقلبي يكاد يتفتت على وطني العربي المصاب بألف داء وداء، وكأن موت نجيب محفوظ لم يأت إلا في سياق النكبات الكبرى. غير أنني أتفاءل بذكراه، هذه الذكرى التي تعلمنا الكثير، نحن المثقفين المغلوبين على أمرنا، تعلمنا الصبر والاستمرار وحب السلام والعدالة والحرية والشجاعة في قول الرأي، والإيمان بالناس الذين نعيش معهم، والأرض التي نحيا فوقها. تلك هي دروس نجيب محفوظ المحفورة في قلبي. لقد مات الجسد في نجيب محفوظ كي تبقى الروح وحدها، وليس لهذا من معنى سوى أن نجيب محفوظ لم يمت، ولن يموت.

* (شاعر سوري)

نور الشريف:
تأثير بالغ

الفنان نور الشريف يرى أن عملاق الادب العربي نجيب محفوظ له تأثير بالغ على الأدب العربي كله وليس المصري وحده وأيضا كان له أثر بالغ على السينما المصرية والعربية فالحقيقة أن السينما وجدت في أعماله المباشرة لها وفي رواياته وقصصه رافدا لا ينضب من الأفكار المتدفقة التي اعتمدت عليها في توفير غذائها الأساسي لإنتاج أفضل ما عندها من أفلام تمثل في قمتها أرفع مستويات السينما العربية بما فيها من مرتفعات ومنخفضات والحقيقة أن نجوم السينما وجدوا لأنفسهم أدوارا مهمة في أفلامه منهم فاتن حمامه أنور وجدي ومحمود المليجي وشكري سرحان وشادية وعمر الشريف وأحمد مظهر ومحمود ياسين وأحمد زكي وعزت العلايلي وفريد شوقي وأغلب أبناء جيلي ونجوم السينما والتلفزيون في مصر..

(ممثل مصري)

عزت العلايلي:
آفاق عالمية

أما الفنان عزت العلايلي فيرى أن نجيب محفوظ هو الأديب العربي الذي انطلق بالرواية العربية من حدودها الإقليمية إلى آفاقها العالمية ولا يقل وجود نجيب محفوظ في السينما عن أهمية وجوده في الأدب المعاصر بل لعل وجوده في السينما يفوق أهمية وجوده في الأدب، إنه يمثل معينا لا ينضب للأفكار التي ينهل منها السيناريو وتحتل الأفلام التي كتب لها نجيب محفوظ السينما أوالقصة أوأخذت عن أعماله الأدبية مكان خاصة في تاريخ السينما المصرية..

(ممثل مصري)

وليد منير:
مبدع الشخصية المصرية

لا يمثل نجيب محفوظ مجرد شخصية أدبية كبيرة فحسب وإنما يمثل في الحقيقة حقبتين كاملتين من تاريخ مصر الحديثة، حقبة الكفاح الوطني والديموقراطية المزدهرة والتحرر من المحتل، وحقبة ما بعد حركة يوليو بكل تحولاتها ومخاضاتها الكبرى، ومن الثلاثية المجيدة والقاهرة 30 وخان الخليلي إلى يوم قتل الزعيم، يمتد خيط زمني يلف على نصف قرن تقريبا ليحكي لناس عبره، عبقري الرواية المصرية تفصيلات حياة الطبقة الوسطى المدينية عاكسا عبر مرآتها دراما الحلم والواقع بكل دقائقها. لن ينسى تاريخ الأدب إضافة إلى ما تقدم اعمالا إبداعية مدهشة كالمرايا وملحمة الحرافيش وأولاد حارتنا، فقد خلقت هذه الأعمال أفقا جديدا للمجاوزة والتحديث..
تكمن عبقرية نجيب محفوظ الأصيلة في قدرته الفذة على الكشف عن طبيعة الشخصية المصرية بدءا من مكنون أعماقها الضارب في تراث متعدد الأبعاد فرعوني وقبطي وإسلامي وكيف انصهرت هذه الأبعاد جميعا في سبيكة تشكل منها وعي الأمة المصرية ووجدانها..

كذلك أوجد نجيب محفوظ شكلا جديدا من كتابة السيرة في عمله الجميل أصداء السيرة الذاتية حيث أخذ خطاب الحكايا بطرف من الشعر وطرف من القصة القصيرة وطرف من الرواية وطرف من الفانتازيا الشعبية واندمج كل ذلك معا لصنع شكل شفيف وعميق الأثر من أشكال الاعتراف الفني.
سيبقى نجيب محفوظ في رأيي مؤسسا رائدا للرواية العربية الحديثة ومجددا عظيما من مجدديها فيما بعد مرحلة التأسيس. لم يكن نجيب محفوظ بالطبع أول من كتب الرواية العربية لكنه كان أول من منحها الاسم الذي تستحقه بوصفها فنا رفيعا من خلال الأدب المعاصر، وفي ذلك ما يكفي لخلود اسمه وإضاءة ذكراه في الحاضر والمستقبل.

(شاعر وناقد مصري)

جبور الدويهي:
المديني الممانع للأيديولوجيا

ليس فقط أن نجيب محفوظ أكد إمكانية الرواية في اللغة العربية بل انه اختزلها في مرحلة ما من تاريخها اختزالاً كاملاً بكافة تعبيراتها واشكالها وموضوعاتها، وهو من دون شك يستحق هذا التتويج بجائزة نوبل، إذ إنه بدا وكأنه <الروائي> في اللغة العربية.

يعنيني أن أتكلم على محفوظ والمدينة وهذه لعبة المرايا بين قاهرة روائية وقاهرة حقيقية، باعتبار أن محفوظ يمثل العربي المديني على ندرته، وهذا ما أتاح له التعبير الروائي بامتياز كفرد وكمواطن وكابن المدينة.
ما يسحرني شخصياً فيه هو ممانعته على الايديولوجيا، بمعنى ان ما عجزت عنه انا وجيل كامل من رفاقي كان نجيب محفوظ قد وجد له مخرجاً، هو ان الحياة أقوى من الايديولوجيا، وهو في موقفه هذا يعطي الرواية هذا البعد الإنساني الخطير، حيث الرواية أقوى من الأفكار، تماماً كما الحياة أقوى من الايديولوجيا.

(روائي لبناني)

جورج دورليان:
أحد<أولاد حارتنا>

خرج نجيب محفوظ من الحياة بعد أن ملأ دقائقها بأعمال كانت بمنزلة إعادة إحياء لها عبر الكلمة. فعلى غرار كبار حالمي الكون وأنبيائه، توسّل نجيب محفوظ الكلمة للكشف عن أسرار الحياة ومكنوناتها، وألبسها ثوب الرواية، أكثر الأنواع الكتابية خطورة في بنيتها، وأكثرها قدرة على إثارة الخشية والخوف لدى مالكي السلطة ومستغلّيها. لم يملك نجيب محفوظ من السلطة سوى ملكة القول والجهر بما اعتبره الحقيقة. من هنا البعد النقدي، الصريح منه والمضمر، لرواياته. والنقد عنده لم يكن ذا اتجاه أحادي، بل بدأه بنقد ذاتي عندما تخلّى في بداية تجربته الروائية عن النوع التاريخي الذي طبع أعماله الأولى، وتوجّه نحو الواقع المباشر متخذاً من القاهرة إطارًا يصف من خلالها التحولات الاجتماعية بنفس واقعي، وذلك منذ 1945 في روايته <القاهرة الجديدة>.

وإذا كانت الثلاثية (بين القصرين قصر الشوق السكّرية)، التي تحكي مصير عائلة في سياق تاريخي لمصر الحديثة منذ ثورة 1919 وحتى آخر أيام الملكية، تعبيرًا عن تلاؤم قناعاته مع المعطى السياسي الجديد الذي نشأ إثر انقلاب ,1952 وإشارة إلى التزامه مبادئ الحركة الأدبية والفنية الجديدة التي جعلت من الواقعية نهجها الغالب، إلاّ أن سرعان ما بدأ محفوظ في الابتعاد عنهما مع روايته <أولاد حارتنا>.

ف<أولاد حارتنا> (1959) بقدر ما هو رواية نقدية للنزعة السلطوية للنظام الناصري وللنزعات الدينية المتزمّتة، هو أيضًا عودة إلى الأصول السردية للسير الشعبية العربية الغنية بالقدرة الترميزية. وليس من باب المصادفة أن تمنع هذه الرواية (التي طبعت في بيروت) من قبل السلطات المصرية الناصرية تحت تأثير الانتقادات العنيفة التي وجّهها رجال الدين المسلمين في مصر، ثم أعيد فتح ملفّها من جديد في أواخر القرن من قبل المعارضة الإسلامية وتعرّض كاتبها إلى محاولة اغتيال فاشلة. ما يعني أن الاعتراف العالمي بأعماله ترافق مع رفض علني من قبل <أولاد حارته> لهذه الأعمال.
حياة نجيب محفوظ، روائي العربية الأول، لم يكن موضوع <إجماع> أهل البلد الذي انتمى إليه وأحبّه. وفي هذا هو رفيق ابن المقفّع والسهروردي وغيرهما من الذين توسّلوا الكلمة لقول الحقيقة فكانوا عرضة لمحاولات الإلغاء. فسلطة الكلمة، ولا سيما سلطة السرد، أخطر بكثير من سلطة السياسة والسلاح التي لا تملك سوى الموت يسلّطونه في وجه وعلى رأس الذين رفعوا راية الحياة.

(كاتب لبناني)

ابراهيم صموئيل:
ربحناه وربحه الأدب

لم يكن خبر رحيل أديبنا الكبير نجيب محفوظ فاجعة، فالفاجعة، على نحو ما، تتضمن الخسارة، أو الفقدان. نحن لم نخسر نجيب محفوظ، ربحناه وربحه الأدب العربي الحديث برمته. ولم نفتقده، لأنه فينا منذ أن تعلمنا ما معنى مفردة الأدب، ولنا منذ أن عانينا، وبنا طالما نحن أحياء.

(قاص سوري)

سامي خشبة:
من رشحني لنوبل

ليلة إعلان فوزه بنوبل الأدب كنت أجري معه حوارا وبعد أن أجاب على سؤالي الأخير سكت برهة قصيرة ثم قال انه يريد أن يسأل بدوره سؤالا واحدا.. من الذي رشحني للجائزة؟ أجبت.. سأكون أول من يجيبك يا عم نجيب.. نحن الذين رشحناك.. الملايين من قرائك المصريين والعرب الذين وجدوا أنفسهم وأشباههم في إبداعاتك.. والمئات من نقادك المصريين والعرب الذين اكتشفوا في أعمالك.. رواية طويلة اوقصة قصيرة أوحوارية وما بينهم اكتشفوا كل مسارات تطورنا.. ربما عبر الزمان كله أوعبر عصرنا الحديث علي الأقل وتناقضاتنا على طول تلك المسارات ومكوناتها.. متجسدة في أشخاص من لحم ودم.. يعيشون فيجسدون الفكرة والطموح والحلم والأمل وأسلوب الحياة والعقيدة والأزمة والحلول..

لأننا وجدنا أنفسنا عندك.. ووجدنا معاني تكويننا وتحولاتنا في أعمالك فإننا نحن الذين رشحناك.. فلم يجد العالم غيرك من هذا المستوى معبرا عن إنسانية أمتك.. وعن ثقافتها..

(كاتب مصري)

رجاء النقاش:
مالئ الدنيا وشاغل الناس

إن الأدب العربي لم يعرف في ماضيه وحاضره أديبا نال من الاهتمام مثلما حدث مع نجيب محفوظ حتى ليصح أن نقول كما قيل في الماضي عن المتنبي (أنه ملأ الدنيا وشغل الناس)، والحقيقة أن نجيب محفوظ نفسه لم يفعل شيئا من أجل إثارة اهتمام الناس الواسع به، فالرجل قد بذل جهده في تركيز شديد على إنتاجه، وظل معنيا أشد العناية بكتاباته الأدبية بحيث تكون هذه الكتابة مرتبطة بالأحداث والتجارب والمشكلات الكبرى التي يمر بها مجتمعه من ناحية بحيث تستفيد من التطورات السريعة التي يمر بها الذوق العربي والثقافة العالمية معا، وبسبب الإخلاص الشديد للعمل الأدبي، والوعي الدقيق بما يجري من تطورات على الساحة الثقافية العربية والعالمية ووصل نجيب محفوظ إلى القمة التي وصل إليها ولفت أنظار الدنيا كلها إليه.
لقد اجتمعت لنجيب محفوظ الموهبة الأصيلة الكبيرة والإرادة القوية الأصيلة لحماية هذه الموهبة واستثمارها وصيانتها من الضياع والفساد، ومن هنا كان نجاحه العظيم مثالا فريدا للتوفيق الكامل بين الموهبة الطبيعية والإرادة الإنسانية القوية التي تتميز بالعزيمة والإخلاص معا.
إن نجيب محفوظ يمثل في أدبه وإنسانيته عالما غنيا رحبا لن ينتهي ما يقال عنه في هذا الجيل أوالأجيال القادمة، ونجيب محفوظ لا يعطي أفكارا عن النجاح الأدبي فقط بل يعطي الكثير من الأفكار الغزيرة عن الشخصية الإنسانية العظيمة التي مثلها على خير وجه وأحسن صورة، لقد كان نموذجا للأديب العظيم والإنسان العظيم.

(كاتب مصري)

شوقي بزيع:
الرؤية الخلدونية

نجيب محفوظ هو واحد من القلائل الذين طبعت كتاباتهم قرنا بأسره وعالما بأسره بحيث بات من الصعب أن نؤرخ للغة أو حدث أو منعطف خارج هذه اللغة وهذا الرجل. وقد لا يكون سبب ذلك متصلا بموهبته الفذة وحدها ولكنّ ذلك يرتبط برمزية حضوره في المفاصل الصعبة للحياة العربية. فهذه التجربة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بقليل ترافقت مع تبدل شديد في القيم والأخلاقيات مع انهيارات ودلالات للغات وأساليب ومع قراءات مغايرة للواقع العربي.

وهو ظهر أيضا عند المفاصل السياسية الحساسة للمجتمع المصري الذي انتقل بشكل حاد من ملكية ناقصة وديموقراطية ناقصة مثلهما عهد فاروق وحزب الوفد باتجاه الثورة الناصرية التي شكلت انقلابا آخر في الرؤى والمفاهيم، وقد أدى هذا التحول المباغت إلى إصابة محفوظ بشيء أو بنوع من الكوما الروائية التي امتدت لخمس سنوات كاملة كنتيجة للبلبلة العميقة التي أصابته في العمق، لينتقل بعد ذلك إلى أحد أهم أعماله على الإطلاق وهو الثلاثية. ولم يكن نجيب محفوظ في تلك الفترة منفصلا عن حالة الحراك الإبداعي والفني التي أصابها المجتمع المصري في مرحلة الغليان القومي وما رافقها من جيشان عارم في المشاعر. إذ في الفترة ذاتها تبلورت تجربة عبد الصبور وعبد المعطي حجازي ولويس عوض وغالي شكري ورجاء النقاش، كما ظهرت الأعمال الفنية الهامة لأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم والأعمال الموسيقية التي رافقتها، لكن ما وسم محفوظ وما ميزه عن غيره هو ابتعاده عن الطمأنينة واتسامه بروح القلق المعرفي والوجودي التي كانت تقف وراء كتاباته كلها، هو الذي كان ينقلب على نفسه باستمرار متنقلا بين الروايات التاريخية والواقعية والاجتماعية والنفسية، متجاوزا المدارس والأشكال وصاهرا كل ما يكتبه في أتون التجربة المعيشة والتفرس العميق في البشر والأشياء. ولعل البعدين الأساسيين في أدب محفوظ، إضافة إلى لغته السردية الطرية والرشيقة، هما بعدا الزمان والمكان. فالبشر عنده كالأوطان والمجتمعات ينتقلون بسرعة فائقة من الطفولة إلى الشباب إلى الكهول. ولا نملك نحن القراء سوى التعاطف البين مع مصائرهم المتحولة سواء كانوا جلادين أو ضحايا، قساة القلوب أو طيبين. وهذا الانهدام الشديد الذي يصيب أبطاله يتلاقى مع الرؤية الخلدونية إلى المجتمعات التي تتحرك بشكل دائري لتعود دائما إلى لحظة الصفر، كما تتصادى مع أبطال ماركيز الذين نحبهم أيضا حتى ولو كانوا طغاة أو بطاركة. أما المكان فهو اللقية المحفوظية الأثمن، إنه الشرنقة والقبو والرحم بقدر ما هو المنفى والفضاء المفتوح. ولم يكن ليتوافر له ذلك، لو لم يكن ابن أحياء القاهرة الفقيرة التي انجبل بطينها وغبارها وروائح بيوتها الرثة. ولو لم يمتلك تلك الحواس البالغة الرهافة التي مكنته من الإصغاء جيدا إلى كل نأمة أو ضحكة أو قطرة دمع أو خلجة قلب تضطرب في جواره.

لقد أثبت محفوظ خلافا لكثيرين سواه أن البشر وحدهم هم ذهب الحياة ونواته الأصلية وأن لا شيء خارجهم سوى التأتأة والعقم. كما أثبت أن العالمية الحقيقية ليست عالمية سياحية تقوم على الهجرة المفتعلة إلى بلاد الآخرين أو ارتداء أزياء لا تتناسب مع جسد الكاتب ولا مقاساته وأن أقرب نقطة إلى العالمية هي النقطة التي نقف فوقها تماما.

(شاعر لبناني)

ابراهيم عبد المجيد:
عصر كامل

نجيب محفوظ هو الرجل الذي تتلخص فيه الأمة العربية، وبعيداً عن الأدب فنجيب محفوظ هو الذي أخذ بهذه الأمة ووضعها على الخريطة العالمية أكثر مما فعله أي سياسي عظيم، والعالم كله الآن لا يعرف عن مصر الا الحقبة الفرعونية، ونجيب محفوظ. فكأن نجيب محفوظ بل هو كذلك فعلاً عصر كامل، سيظل محفوراً في التاريخ المصري والعالمي.. وعلى المستوى الشخصي أنا مدين لنجيب محفوظ بالكثير فهو الذي أشعل في روحي حب الرواية منذ قرأت له <كفاح طيبة> وأنا في الثالثة عشرة من عمري وعندما قرأت له <زقاق المدق> بعد ذلك بسنتين ثم <الثلاثية> ثم <خان الخليلي> هربت من الاسكندرية وجئت الى القاهرة أمشي في حي الجمالية أبحث عن أبطال نجيب محفوظ وأبحث أيضاً عن عمل. لقد قررت أن أترك الدراسة وأعيش في القاهرة الا أنني لم أستطع. كنت صغيراً جداً على ذلك، مؤلماً جداً لأسرتي التي قلبت الدنيا عليَّ ولا تعرف أين ذهبت وعدت مصمماً أن أفتح الرواية في روحي، كانت قد انفتحت بالفعل، منذ ذلك اليوم، وأنا أجري في الهواء خلف هذا الفن العظيم الذي كان مستهجنا قبل نجيب محفوظ، كان مستهجناً لدرجة أن كاتباً مثل حسين هيكل لم يستطع أن يضع اسمه على الرواية زينب، نجيب هو الذي أعطى هذا الفن القيم والاعتبار في مصر والعالم العربي..

(روائي مصري)

فواز حداد: رواية أخرى

يرحل محفوظ بعد أن أكمل مشواره مع الحياة التي أجاد كتابتها روائياً، وشكل في عالمنا الأدبي مرجعية ثقافية واجتماعية، وأحياناً سياسية. وكان إنجازه الأهم الذي أراده وعمل عليه، نجاحه في وضع الرواية العربية على طريق واضحة، مثمرة وبلا نهاية، موفراً على من جاء بعده الكثير من التخبط. لم يصبح العمل الروائي أقل عناء ولا خطورة، وإنما أكثر جلاء وعنفواناً. وسواء ابتكر محفوظ أم استعار أشكالاً غربية، تبقى مأثرته العالية، أنه طوّعها للعربية، من دون حذلقة ولا افتعال، وأكد على الأخذ مع الإضافة. لم يكن متأثراً سلبياً، كان روائياً فاعلاً، مبتكراً ورائداً، وما قدّمه لا يضارعه به كاتب من ناحية شموله واتساع آفاقه وغنى مراحله. يحمد له بأنه كان أستاذاً متواضعاً لعدة أجيال، تعلمت منه، سواء الذين اعترفوا بتأثيره أو الذين أنكروا أستاذيته؛ الجميع مدينون له.

نجيب محفوظ لم يختطفه الموت، ذهب إليه وكأنه يكتب رواية أخرى، راودته طوال حياته، وإذا كان من رسالة كُلف بحملها، فقد أتمّها على أحسن وجه، لكن ودّعنا بشيء من الألم العميق: أحوال الأمة ليست بخير.

(روائي سوري)

****

الأكثر حكمة من شخصياته

حسن داوود

بعد نيله جائزة نوبل، وُزعت لنجيب محفوظ لوحة تشكيلية رسمها، في ما أحسب، الفنان المصري صلاح عناني يبدو فيها محفوظ جالسا على كرسي وحوله، أي فوقه وإلى جانبيه، انتشرت مصر القديمة ذاتها، تلك التي شاهدناها في المقهى الآنف وصفه. وجوه واجسام ملأت المشهد مؤدية ما يشبه ان يكون عرضا من الحياة الشعبية. أما محفوظ الجالس بينها، وان متقدما عنها قليلا، فوحده يرتدي ثياب الأستاذ: البدلة وربطة العنق وما يستتبعهما. نجيب محفوظ، المندمج بالكتلة والمقيم في المكان الواحد معها، سمحت له الكتلة بأن يتميز عنها وهي أحبت منه ذلك، كأنها هي التي أرسلته رسولا من عندها الى مجتمع الأساتذة. وهي غبطته لتمكّنه من الوصول الى هناك، هكذا، شأن عائلة علّمت ابنها لترفعه الى حال أعلى من الحال التي هي فيها، أي ليتغيّر عنها، ويظل هو ابنها برغم ذلك.
هذه المسافة بين محفوظ وأهل المقاهي القديمة والحارات نستطيع الاهتداء الى حدّها، او الى مداها وطولها، من الثلاثية التي تردد انها سيرة شخصية عائلية لنجيب محفوظ وأسرته. لم يستطع الشاب كمال، وهو صغير العائلة، ان يكون مثل الذين أوصلته المدارس الى رفقتهم. في المنتزه الذي دُعي اليه ليتغدى مع رفاقه، وبينهم أبناء باشوات، أحس انه كشف عن انتمائه للمجتمع الآخر، مجتمع الحارات والأحياء، من لحظة ما فتح حافظته وأخرج الأكل الاحتفالي الذي أعدته له أمه، أمينة، للمناسبة. كانت الفرختان قد حُشيتا بالأرز والصنوبر وقُليتا بالسمن. بنت الباشا، رفيقته، ومحبوبته من طرف واحد فقط هو طرفه طبعا، جعلت تضحك إذ رأت ذلك، هي التي تعرف ان في مناسبات كهذه يجب ان يُكتفى بسندويشات الروز بيف والجبنة وما اليهما.
أما الشخصيات الأخرى في الثلاثية فتدلّ على هذا الموقع للعائلة. فهمي، الأخ الذي قُتل في التظاهرة كان قد اصطفى نفسه من بيئته، وهو بعد يافع طريّ العود، لينافح عنها بأفكار التقدم والتحرر. لكن ياسين، الأخ الأكبر، كان في الموقع الاجتماعي ذاته لأخيه كمال لكنه، بدلا من ان يتطلع الى الأعلى، شأن كمال هذا، آثر ان يحصر اهتمامه بالأسفل، حيث يسهل له اللعب هناك والغواية ومطاردة النساء. انهم في المنطقة الوسطى بين الأهل ومن هم هناك فوق الأهل. لكن هذه المنطقة التي نقلهم اليها اليسرُ المادي الذي بلغته تجارة الوالد، أحمد عبد الجواد، كانت رجراجة زلقة والاقامة فيها خطرة ومؤلمة. فهمي، الابن الأوسط، قُتل رميا بالرصاص في نهاية <بين القصرين>، جزء الثلاثية الأول، وكمال عاش في ما يشبه ان يكون انكسار طموحه وهزيمته، أما ياسين، الذي ارتضى ان ينظر الى الأسفل لا الى الأعلى، ففشل هو ايضا إذ لم يبق من ولعه بالنساء إلا مصادفات وذكريات خائبة.
وهذا كان حال أبطال آخرين في روايات نجيب محفوظ الأخرى. المأساة المحفوظية او الدراما المحفوظية تبدأ منذ ان يتحرّك المقيم في بيئته باتجاه الخروج منها: حميدة في زقاق المدق، الأخت في بداية ونهاية... يصير المرء، او المرأة، ضعيفا هشا قابلا للاصابة منذ ان يبدأ رحلة خروجه، التي قد تتخذ أشكالا متعددة، من بيته. انهم هشّون ضعاف والقويّ بينهم مثل هرم هو أحمد عبد الجواد، ذاك الذي جعله يُسر حاله يوسع عيشه لكن من ضمن ما تتيحه البيئة تلك لرجالها وليس لنسائهم او لأولادهم، لأسيادها وليس لضعاف النفوس فيها.

أحسب ان اكثر ما يبقى من نجيب محفوظ في من اتى بعده من الكتّاب هو بذرة الدراما تلك او جرثومتها كما احب ابو تمام ان يسمي البذرة الفاعلة في الشيء والصانعة له، تلك التي في ما يتعلق بي، شكلت ريحي الأدبي الاول، او حزني الادبي الاول، ذلك الانكسار الحتمي البطيء للشخصيات الذاهبة الى مصائرها، هو ما أسس فيّ ما يمكن ان اعتبره النظرة الروائية الى الحياة. من الثلاثية اذكر تماما صفحات احتضار احمد عبد الجواد الطويلة. الآن، بعد ان كبرت عقودا على قراءتي لذلك، يحلو لي ان افكر ان نجيب محفوظ ادرك، فيما هو يكتب هذه الصفحات، انه اهتدى الى الموضع الذي يمكنه فيه ان يكون اكثر تجليا وإيلاما في الوقت نفسه. ادرك انه، في وصفه لاحتضار احمد عبد الجواد، يستطيع ان يفتح الابواب ويشرعها لرياح الحنين والكبر والموت وذهاب الازمنة. بين ما قرأته من روايات لا احسب ان شيئا ترك فيّ اثراً بهذا العمق استطيع ان ألمسه في نفسي واعرفه.

اي ان نجيب محفوظ اخذني الى معنى الرواية، وهذا حصل في الادب العربي. كنت بالطبع قد اسلمت نفسي للامواج العنيفة تأتيني من قراءات مترجمة لبؤساء فكتور هيغو وجين ايير لشارلوت برونتي ولرواية غادة الكاميليا التي اوصلتني الى البكاء الحقيقي. لكن يبقى ان محفوظ كان آتياً من الادب العربي، من اللغة التي حين عدت إليها مستعيداً بعضا من مطالع كتب محفوظ، رأيت كم انها حاضرة بنفسها القديم ذاك. لغة نجيب محفوظ، عبارته، لم تبتعد ذلك البعد القاطع عن البيان المسجدي او عن التلاوات الدينية التي يرددها أهل الحارات في مصر بوصفها لغة ثقافتهم التي تتخلل اجتماعهم ومعيشهم اليومي. ثم ان الثقافة نفسها السرد نفسه، ومحيط السرد وبيئته، أساليبه وتقنياته، مشدودة كلها عند محفوظ الى محافظة ما. كأن كتابة الرواية هي وصف ما جرى بلسان راوٍ عاقل. بحسب ما اعتقد نجيب محفوظ في رواياته التي سبقت <الشحاذ> و<ثرثرة فوق النيل>، ليست الفنية هي ما يصنع الرواية بل التمكن. الزمن في الرواية ينبغي له ان يجري جريانا عاقلا لا تقافز او تسابق بين اجزائه.

اما الشخصيات فلا ينبغي ان تبتعد في اهوائها وأمزجتها عن الحد والمتفق الاجتماعيين. احمد عبد الجواد، وهنا اجدني ما زلت عالقا بالثلاثية دون سواها، لم يذهب في لهوه الليلي الى الحد الذي ينقص من هيبته ورجوليته في النهار. هذا لهو اتاحته له معايير مجتمعه. اي ان ذلك، على تطرفه ومجونه، ليس فساداً ولن يكون كذلك ما دام انه حق لفاعله ومنحة له من مجتمعه.

ربما نقول إن الكتابة هنا تبدو اعقل من الواقع الذي تقاربه واقل مغالاة. نجيب محفوظ اهدأ من بطله احمد عبد الجواد واكثر تعقلا. اقصد ان هذا الاخير ذهب في عيشه الى الحد الذي لم يبلغه الاول في كتابته. اقصد، ايضا، ان نجيب محفوظ كان، فيما هو يروي، احكم من شخصياته جميعا. كأنه كان يراقبهم ذاهبين قاصدين الى مصائرهم فيما هو محصن من اي حدث. هو ابن العائلة العاقل ما دام انه يصف فقط ويروي، انه الروائي الذي لم يترك لنفسه حتى حرية ان يشاهد بعينيه الخاصتين شيئا يصعب ان يشاهد سواه. وقد تراءت لي شهوة ياسين نحو النساء غريبة التفاصيل احيانا إذ بدا نجيب محفوظ كأنه يلجأ الى منطق كتابة آخر حين راح يعين شحمة الاذن مصدرا للشهوة. كأن محفوظ سمى لنا تفصيلا ليس من تفاصيله. او كأنه هذه المرة، كان هو، كان نفسه، بقدر يفيض عما ألفناه من سمته العام.
(روائي لبناني)

****

مؤسس الرواية العربية وعابر الاتجاهات والأساليب

سمير فريد:
روائي السينما المصرية

في المرحلة الثانوية كنت قد بدأت التطلع لأن أكون مثقفا وأديبا، وكان الناقد المعروف الراحل أنور المعداوي هو مدرّس اللغة العربية في المدرسة والذي أرشدني في هذه السن المبكرة إلي قراءة نجيب محفوظ، وهذا ما وفّر علي الكثير من الوقت والجهد، وجاءت القراءة الرشيدة بشكل صحيح ومنهجي ومرتب حسب صدور الأعمال، وأنهيت على يديه قراءة نجيب محفوظ كاملا قبل أن أنتهي من المرحلة الثانوية، وطبعا أنا أورثت ابني قراءة نجيب محفوظ، وفي العمر نفسه الذي عرفته فيه، لأنني في الحقيقة أدركت شيئا مهما لا يقف عند حدود الأدب وروعة العمل الروائي وقيمته وجمال لغته وبنائه، لكنني أدركت مصر وأردت أن يعرف ابني هذا الإدراك ويتعرف على وطنه ومجتمعه وناسه من خلال نجيب محفوظ، فأعماله هي التي تكشف عن ماهية هذا المجتمع وطبيعته ومما يتكون، ومن هم الأشخاص الذين يعيشون فيه، وكيف يفكرون وما تركيبة المواطنين.. وإذا أراد أي فرد أن يعرف الإجابات على هذه الأسئلة، فما عليه إلا أن يقرأ نجيب محفوظ وسيجدها في أعماله التي أراها مهمة جدا في مراحل التكوين الفرد وهي المرحلة الثانوية وليست الجامعية كما يشاع لأن المرحلة الثانوية أكثر تأثيرا وأقوى في تكوين الفرد.
فيما يتعلق بعلاقة نجيب محفوظ بالسينما، فأراها علاقة مركبة جدا وللأسف لم تدرّس هذه العلاقة الدراسة الجيدة والكافية، فقط تمت دراستها في حدود العلاقة بين الروايات والأفلام، كما كتب المخرج والناقد هاشم النحاس التي أعتبرها أهم ما صدر في هذا الجانب، لكن محاولات الكشف عن هذه العلاقة تتجاوز هذه الحدود في الحقيقة عمل رقيبا علي الأفلام بعدما اختاره الأديب يحيى حقي لهذه المهمة في أواخر الخمسينيات، ثم أصبح رئيسا للرقابة ثم رئيسا لمؤسسة السينما وهو ما يعني أن حياته الوظيفية ارتبطت بالسينما منذ منتصف الخمسينيات تقريبا إلى أن أحيل إلي المعاش. هذه الحياة الوظيفية التي عاشها نجيب محفوظ مع السينما لم يتم بحثها نظرا لأن البعض اعتبرها شيئا ثانويا وليس له أهمية في حين أن الكاتب كل متكامل لا يمكن فصله أو تجزئته وطريقته في الحياة الوظيفية لها تأثيرها علي أدبه أو على الأقل يمكن أن تلقي ضوءا على أشياء كثيرة في هذا الأدب لم تزل غامضة.

ان أديبنا الكبير نجيب محفوظ كان كاتبا سينمائيا محترفا فهو عضو نقابة السينمائيين شعبة السيناريو، وهذه الكتابة شملت قسمين قسم السيناريو أي يكتب السيناريو والحوار أو كتابة المعالجة الروائية أو الأديبة لقصة أجنبية أو مسرحية مترجمة ويجري لها نوعا من التمصير، وهناك أكثر من عشرين فيلما كتب لها نجيب محفوظ المعالجة السينمائية بهذا المعنى ومن الصعب العثور عليها فهي نصوص غير مكتوبة، أما القسم الثاني فهو رواياته التي تحولت إلى أفلام فليس هناك كاتب مصري آخر في القرن العشرين وهو قرن السينما والرواية أعدت أفلام عن رواياته بالكم نفسه الذي تم مع روايات نجيب محفوظ إذ يكاد يكون أكثر من 80? من أعماله أعدت للسينما أو التلفزيون أو المسرح وكذلك قصصه القصيرة حتى أفلام خريجي معهد السينما استندت في بعضها على قصص لنجيب محفوظ، فهناك مكتبة سينمائية ضخمة تحمل اسم نجيب محفوظ، وهو في هذا الإطار كان يفضل كتابة السيناريو والحوار على كتابة المعالجة السينمائية باعتباره خبيرا في المعمار الفني، وهذه المكتبة السينمائية في الحقيقة غير متوفرة حتى الآن وأتمنى أن تتوفر بشكل منهجي ومنظم في مكان ما وأن ندرس العملاق نجيب محفوظ بشكل كامل إذ أن حياته موظفا ومسؤولا عن السينما لم تدرس الدراسة المرجوة ولم تدرس أيضا أفلامه بشكل كامل.

(ناقد سينمائي مصري)

فاروق جويدة:
ابن الحارة المصرية

كاتبنا الكبير نجيب محفوظ رحلة من العطاء الجميل مضى فيها بكل الصبر والزهد والجدية.. ليضع ملامح فن جديد في أدبنا العربي هو فن الرواية،. ولكي يصبح بلا منازع رائد هذا الفن على مستوى الثقافة العربية.. وهذا المشوار الطويل الذي قطعه نجيب محفوظ كان محفوفا بالمخاطر والمتاعب والمعاناة،. ولكن الشيء الجميل ان رائد الرواية العربية.. وبعد كل ما وصل إليه لم يتغير.. فقد بقي ذلك المصري الأصيل في تواضعه وزهده وإخلاصه لفنه حتى الرمق الأخير..

الواقع يؤكد أن كاتبنا لم يبخل في يوم من الأيام على فنه بأي شيء.. ابتداء بالصحة وانتهاء بسنوات العمر الذي قدمه بكل سخاء للثقافة العربية.. ان نجيب محفوظ فارس من تلك المدرسة العريقة في تاريخنا الحديث.. التي اتسمت حياتها دائما بالجدية والصرامة والزهد في كل شيء والترفع عن اي شيء.. ولهذا لم يتخل نجيب محفوظ في اي فترة من فترات عمره عن تواضعه وبساطته وتلقائيته وإحساسه العميق بأنه شجرة عريقة نبتت يوما على ضفاف النيل العظيم ومنحت للناس ثمارا وظلالا وجمالا..
ولا ادري ماذا يمكن أن يقال.. هل أتحدث عن دوره في تاريخ الرواية العربية.. هل أتحدث عن هذا الجيل العظيم الذي يعتبر كاتبنا الكبير واحدا من ابرز فرسانه.. هل أتحدث عن هذا العمق الإبداعي الجميل الذي تجسد في كتابات نجيب محفوظ والتي حملت بكل الصدق نبض الحياة المصرية طوال قرن كامل من الزمان.. هل أتحدث عن نجيب محفوظ الإنسان البسيط المتواضع ابن الحارة المصرية بكل ما حملت من جوانب الانتماء والصدق والأصالة.. هل أتحدث عن نجيب محفوظ المقاتل الشرس في رواياته ومواقفه ابتداء بثرثرة على النيل وانتهاء بالكرنك.. هل أتحدث عن نجيب محفوظ كشجرة نبتت في اخصب فترات تاريخ مصر الحديث.. فكان نموذجا فذا لعطاء هذه الفترة.. أم أتحدث عن نجيب محفوظ الذي عرفته واقتربت منه وأحببت صدقه وصبره وإخلاصه.. كل الجوائز التي حصل عليها نجيب محفوظ لم تعطه حقه من التقدير.. وكل مظاهر الاحتفاء التي قامت بها حياتنا الثقافية اقل بكثير من هذا الجهد العبقري الذي قدمه كاتبنا الكبير في رحلته مع الإبداع..
لقد كان مشوار نجيب محفوظ ومازال وسيبقى صورة للصدق مع النفس والوفاء للفن.. والصبر الجميل بكل ما يحمل من جوانب العطاء والمقدرة..

(شاعر مصري)

يوسف بزي:
لم تخسره مصر

ما إن بدأت بقراءة نجيب محفوظ، وكنت في العشرين، حتى علقت فيه، رواية بعد رواية من دون توقف. أعني انني عشت نحو عام لا أقرأ سواه.
على الأرجح، هكذا يُقرأ محفوظ، عمله دفعة واحدة، من غير استراحة، ذلك لأن هذا الكاتب كان قد أنجز تراثه الروائي قبل ان أصير قارئا.
هكذا مثلا قرأنا دوستويفسكي، او حتى جبران خليل جبران. فنحن لا نطلع على أدب محفوظ مثلما نفعل مع الكتّاب الآخرين: شيء من الانتقائية، والكثير من المزاجية، ودائما بتقطع وتباعد بين كتاب وكتاب. نأخذ من هم مثل نجيب محفوظ فنجد أنفسنا أسرى عالمهم، ولا فكاك من ذلك، إلا بالتهام كل ما كتبوه.

هذا ما يتعدى <القراءة> إلى ما نسميه تكوين الوجدان. فنحن إذ ننتهي من قراءة أدب محفوظ، لا نجعله مرميا في ماضينا، وعلى محك النسيان، ولا نروح نفتش عمن هو أجدّ وأحدث، بل نظل مشدودين إليه، ومتنبهين لحضوره في نظرتنا الى أنفسنا وإلى الأدب وإلى صور الحياة.

هذا يشبه السبب الذي لا نفقهه، والذي ينقلنا من طور المراهقة الى طور الرجولة مثلا. فواحدنا لا يدرك حقا ما هي تلك التجارب التي كانت وراء تحوله من مراهق الى رجل. وأدب محفوظ يفعل في واحدنا الأمر نفسه في علاقته بالأدب والكتابة. فهو <تجربة>، بالمعنى الذي أشرت إليه.
الأمر الآخر، الذي لا أجد تفسيرا له، هو علاقتنا بشخصيات هذا المصري العتيق والمحنّك. إذ من الصعب تذكر شخصيات روائية في روايات الآخرين. فأنا لم أحفظ منها سوى جاروميل في رواية <الحياة هي في مكان آخر> لميلان كونديرا، وراسكالينكوف في <الجريمة والعقاب> لدوستويفسكي، والكولونيل اوريليانو بوينديا في <مئة عام من العزلة> لماركيز. وفي المقابل لم أنسَ مطلقا <أحمد عبد الجواد> و<ياسين>، و<كمال>، و<أمينة> في ثلاثية <السكرية> و<قصر الشوق> و<بين القصرين>.
لم أتأثر كثيرا بموته، فهو في السنوات الأخيرة بات عجوزا الى حد مرهق (ومحرج من نوع الخطأ الذي ارتكبه هو بحق روايته <أولاد حارتنا>.. لننس الموضوع).

أحسب أن مصر لم تخسره حقا، ففي القاهرة ابراهيم أصلان وابراهيم عبد المجيد ومحمد البساطي وخيري شلبي، وهذا ما يجعل غياب محفوظ أقل من <خسارة>.

(شاعر لبناني)

محمد مظلوم:
أخناتون الرواية

في محيط ميدان طلعت حرب وسط القاهرة، أخذني فتحي عبد الله إلى مقهى ريش ولم نجد نجيب محفوظ جالساً ليتفرج عليه العابرون كتحفة أو مومياء فرعونية، في الشارع الخلفي لميدان طلعت حرب قادني فتحي إلى مقهى التكعيبة الداخلة أو بالأحرى (المارقة) في ضجيج الشوارع الخلفية، بين مقهى ريش المدينة ومقهى التكعيبة مسافة يمكنك أن ترصد فيها الفرق بين الحياة والمتحف في القاهرة، حالة نجيب محفوظ تلخص حقاً تلك المسافة الحية بين اليومي المتحرك، والتاريخ المحنط في مكان ما.

برحيله بات السؤال عن الرواية العربية بعد نجيب محفوظ ممكناً وطبيعياً، فيما كان سيبدو ممتنعاً بوجوده، لكن السؤال الذي لن يغدو جذرياً في كلا الحالين هو ما يتصل بالرواية العربية قبل نجيب محفوظ!

نحن نتحدث عن بضعة أجيال قرأت نجيب محفوظ كنوع من الدرس الأدبي، والبضعة هنا بين الثلاثة إلى العشرة بقول فقهاء اللغة والعدد، والأمر كذلك فعلاً فليس أقل من ثلاثة أجيال قرأت محفوظ بعناية الدرس الأدبي حقاً، إلى جانب ألف ليلة وليلة وقصص المقاتل وعنترة بن شداد والزير سالم، ودواوين الطبعات الحجرية من شعراء مختلف العصور العربية، وهي كانت نكهة جديدة في طبيعة تلك القراءات، وبينما نتذكر أصول فن الأدب العربي الأربعة لدى ابن خلدون، فإن أي حصر لأركان أدبنا العربي بأربعة أعلام خلال القرن العشرين، سيكون نجيب محفوظ أحدها بالتأكيد.

بساطة السرد وعمق الحكاية وفوتوغرافية الواقع ومتعة السرد، جعلنا ننكب على رواياته كمسلسل طويل ممتع ينافس مسلسلات الدراما الحالية ومتابعة يوميات الحروب الطويلة على الشاشات، لقد كان دراما عصر بكل تحولاته.

الأهمية الاستثنائية لنجيب محفوظ تتلخص في كونه علمنا أن نحبَّ القراءة ونتعلم كيف نقرأ، وأن نفهم المسافة بين الصبر والمتعة. وهو بالتالي صبا ذاكرتنا ومراهقة تفكيرنا وكهولة خياراتنا.

عندما منح نجيب محفوظ جائزة نوبل في العام 1988 كثرت التأويلات المصاحبة عادة لإعلان الجائزة لكن أكثر ما يبدو معقولاً منها اليوم هو: كيف يمكن تقبل تكريم يأتي لأدب أمة من خلال الرواية ذات التاريخ المستحدث، لا لأجل تراثها الشعري الطويل، نجيب محفوظ كافح في الواقع طويلاً ليكون للرواية العربية ديوانها، في زمن كان فيه الشعراء وحدهم فرسان الديوان وأمراء الوجدان وأصوات الأمة.

(شاعر عراقي)

***********

بصمة نجيب محفوظ

اسكندر حبش

هي فعلا مراحل تنتهي في عالمنا العربي. مراحل عشنا عليها، تعلّمنا منها. لكنها الحياة التي لا تتوقف، التي تستمر في تقدمها، ليأتي آخرون ويتركوا بصماتهم وراء الذين سبقوهم. بيد أن البصمة الحقيقية التي عرفتها الرواية العربية في القرن الماضي، كانت بصمة نجيب محفوظ، شئنا ذلك أم أبينا. ومع رحيله صباح أمس، لا تفقد الرواية العربية الحديثة واحدا من صانعيها، وإنما ترحل معه مرحلة كبيرة من المواقف الثقافية والأدبية والاجتماعية والسياسية التي كان يمثلها والتي عالجها مراراً في كتاباته المتنوعة ما بين المقالة الصحافية والرواية والقصة القصيرة. بمعنى آخر، يمكننا أن نصف محفوظ بأنه كاتب <اجتماعي> بامتياز، أي كانت الرواية عنده وعاء لطرح قضايا اجتماعية وفكرية، لمناقشتها وحتى لطرح حلول لها.

لكن هذا الانحياز، لهذا النوع الروائي، لم يتأتّ منذ بداية مرحلة الكتابة، فهو بعد أن درس الفلسفة، حاول كتابة الرواية التاريخية ولم يتحول إلى الرواية الاجتماعية إلاّ في مرحلة لاحقة، ليقدم لنا أولى رواياته الكبيرة: <القاهرة الجديدة> والتي أعقبتها روايات أخرى، أفردت له مكانة خاصة في المشهد الثقافي العربي بأسره. هذه المكانة التي حفرت عميقا مع وصوله إلى <الثلاثية>.

بالتأكيد، ليست ثلاثية محفوظ عملا عابرا أو عاديا في الثقافة العربية، بل هي نقطة مضيئة في كتابة كلّ هذه التحولات التي عرفها المجتمع المصري عبر سيرة عائلة كمال عبد الجواد. لكن أن نقول إن الثلاثية هي العمل <الوحيد> المبدع لنجيب محفوظ، لهو قول فيه الكثير من الجناية على أدبه، إذ هناك أعمال لا تقل جودة ومتانة وحضوراً، لكن ربما لم يلتفت إليها الدارسون والنقاد مثل التفاتتهم إلى الثلاثية. من هذه الروايات البديعة لا بدّ أن نذكر <أولاد حارتنا> و<الخريف والسِمان> و<ميرامار> و<اللص والكلاب> وغيرها الكثير من أعمال ستبقى حاضرة في السياق الأدبي، على الأقل في تاريخ الأدب في ما لو اعتبرنا أن الرواية وتطورها لم تتوقف بعد نجيب محفوظ. أي ثمة كُتّاب كثر أجد بأنهم وقد تخطّوا الطروحات الفنيّة والفكرية التي عمل عليها الروائي الراحل الذي وقف عند <كلاسيكية> ما في لغته وفي بنائه الروائي وحتى في رؤيته للأشياء، لكن مع ذلك كله، لا يمكن أبدا أن ننفي الدور المؤسس الذي اضطلع به محفوظ. فلو عدنا إلى هذه اللحظة التاريخانية التي كتب بها، لوجدنا كم كان متقدما على غيره، وكم فتح الأبواب للذين جاؤوا بعده كي يكتبوا ويطوروا الانجازات التي وصل إليها.

ارتبطت كتابة نجيب محفوظ ارتباطا وثيقا بتاريخ مصر وبتحولاته المتعددة في العصر الحديث، من هنا، أجد أن تطوره الفكري والسياسي لم يكن ناتجا عن تغيير في المواقف مثلما يرى البعض، بل إن محاولاته لقراءة المجتمع بعمق، كانت تفرض عليه هذا التحوّل وهذا التبديل في المسارات التي حاول بعض القراء أن يسجوه في داخلها. تبدل <مواقفه السياسية> نابع من تبدلّ الحالة السياسية المصرية، بهذا المعنى نجد كم كان مرتبطا بشكل كبير بكتابة الواقع، لأن محفوظ كان وقبل أي شيء آخر، كاتبا روائيا، لا <مثقفا> بالمعنى الغربي لمفهوم المثقف.

مثلما <صالح> نجيب محفوظ القراء مع الرواية، التي كانت تعتبر يومها فنًّا جديدا في العالم العربي، استطاع أيضا أن يصالح العرب مع جائزة نوبل للآداب، إذ مثلما جرت العادة، لا نتوقف عن شتم هذه الجائزة واعتبارها معادية للعرب وبأن الصهيونية العالمية تقف وراءها. اللحظة الوحيدة التي وجدنا أنها جائزة <قيمة>، (إذ نظن أن معاييرنا ومفاهيمنا هي الصحيحة التي يجب الاحتذاء بها)، كانت يوم حازها نجيب محفوظ، مع العلم أن العديد من الأصوات علت يومها لتعتبر أنه لم يكن ليفوز بها لولا معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية. بدون شك، هذا الكلام لا يزيد عن لغط وهذر، إذ في منحه الجائزة اختارت لجنة التحكيم السويدية أكثر من عَبّر عبر كتاباته عن حداثة هذا المجتمع وعن حداثة الأدب فيه، بل لنقل كافأت لجنة ستوكهولم أول من بنى عمارة أدبية حقيقية. لا أقول إن بعض من جاء من بعده، لم ينجحوا في بناء عماراتهم أيضا، ولكنه كان أول من أسس لهذه السلسلة المتناسقة، المتساوقة، المحددة الملامح، والتي تعبر فعلا عن واقع شريحة من الثقافة العربية كما عن شريحة اجتماعية فيها.

يسقط المؤسسون ويغيبون واحدا وراء الآخر، لكنّها الحياة التي تقول كلمتها الأخيرة. لا شك بأن المشهد الثقافي سيكون مختلفا، هذا الصباح، بدون نجيب محفوظ الذي صار واحدا من واقعنا الثقافي الذي لا يمكن تخطيه أو نسيانه. لكنّ العزاء الوحيد أنه كتب أدبا حقيقيا، وبأنه أثرى مكتبتنا بجملة من الأعمال الكبيرة التي ستبقى حاضرة ولمدّة طويلة بعد. من الصعب أن يغيب أدب محفوظ بعد غيابه. <تركته> الأدبية جنّة فسيحة لا بدّ أن تستقطب زائرين آخرين، وسيكونون كثراً من دون شك، وستسمر إلى زمن لا أحسبه أنه سيتوقف ذات يوم.

******