فات الوقت على مؤتمر قصيدة النثر، ربما هذا هو الوقت الأنسب لحديث بارد ولاستخلاص عبرة أو عبرتين. لا يفهم أحد لماذا تؤسس الصديقة جمانة حداد مقالها النقدي الذي استبقت به المؤتمر في <النهار> كما يؤسس ماهر شرف الدين مقاله في ملحق النهار الذي يوسع به مقال جومانة ويستعيد خطته، لا يفهم أحد لماذا أسس الاثنان مقالتيهما على مديح لأنسي الحاج وهو الذي افتتح المؤتمر واحتفى به الجميع، يتحول المديح إلى نوع من الهتاف <أعظم شاعر منذ المتنبي>. كل كتبه عظيمة، ولست أظن أن كلاما كهذا يناسب شاعراً وشاعراً مثل أنسي على وجه الخصوص، لماذا لم يجد الجميع سوى مناسبة المؤتمر للذهاب في هذا المديح الرنان، وكان لديهم كل الوقت وكل المناسبات وكل المنابر ليفعلوا ذلك، أنسي يستحق المديح في كل وقت لكن المديح الصافي وليس ذلك الذي يقصد به تغييب وتغفيل الآخرين، ضم المؤتمر جل شعراء النثر اللبنانيين وانتخابا، من نقاد شعراء النثر وشعرائها العرب، نموذجيا وان لم يكن، ككل انتخاب، شاملاً، هؤلاء لم يستحقوا ذكراً، أي ذكر أو إشارة، في المقالين واستعيض عن ذلك بذكر الغياب وجلهم ليسوا شعراء نثر أساسا وان جهلت هذا مقالة الملحق. لا أظن أن النية ستكون صادقة حين يراد من مديح أنسي إلغاء الآخرين وذم المؤتمر، الذي شرّفه أنسي بالافتتاح، بمن فيه. لكن المسألة ليست هنا، وقد لا تكون هذه سوى بادرة سجالية. المسألة هو أن هذا التغييب هو في الحقيقة نسيان لكون قصيدة النثر التي تكتبها جمانة لم تعد عند أنسي وروادها المؤسسين، فثمة خمسون سنة انقضت عليها، جعلت لها تاريخا وإنجازا واتجاهات وتفريعات. ما جعل المؤتمر حاجة هو هذا التاريخ، لم يكن المؤتمر احتفالا ليقف عند حد التكريم. كان، مع كل نواقصه، وقفة أمام أسئلة ومسائل تجمعت في غضون نصف قرن، لقد استوت قصيدة النثر العربية، وأشدد على العربية، نوعا له حركيته وإشكالاته وأغراضه المتغيرة مع الزمن، صار ممكنا قراءة هذه القصيدة من الداخل وعرضها على المراجعة والتحليل. هذا وليس غيره ما يستحق مؤتمرا وهذا ما أشار إليه أنسي في مقطع من خطاب الافتتاح. قصيدة النثر اليوم أجيال وقصائد وخيوط. إنها إنجاز ثقافة بكاملها في شتى الأقطار الناطقة بالعربية، أخشى أن هذا لم يخطر للذين لم يجدوا في المؤتمر سوى مناسبة للاحتفال والتكريم، إن شعارا ك<لا شاعر إلا أنسي>، و<لا شاعر بعد أنسي> الذي يستخلص بسهولة من مقالة الملحق، لا يعني إلا أن أصحابه غائبون عن حاضرهم وربما عن الحاضر الشعري كله.
نتساءل لماذا يكتب من يظن أن للشعر خاتمة وكمالا عند جيل أو شاعر، ربما نفهم من ذلك لماذا لا يرى البعض في مؤتمر متواضع، لم يعقب سوى ردود متذمرة، معركة مواقع. لقد تم الشعر ولم يبق سوى الاحتفال به وتقاسم مراكزه، هكذا يمكن أن يقال <أن الحصة الأكبر كانت من نصيب معد غير معلن> (هو كما فهمت أنا)، وإذا تكلم الكاتب عن الحصة الأكبر. جاز لنا أن نتساءل عمن يعتبر انه نال الحصة الأصغر، ومن يتذمر من غبن يرى أنه لحق به، من كتب هذا الكلام ومن نشره أيضا سهوا عن الدلالات والأصداء اللبنانية لهذا الكلام وما يحيط بالمحاصصة والحصص الكبرى والصغرى لبنانيا من إشارات كريهة. مهما كان السجال فلا ينبغي أن نصل إلى هذا الحد، أو أن ننقل إلى حقل السجالات الثقافية والعلاقات الثقافية تلاوين مقلقة من هذا النوع.
مساجل آخر هو الصديق محمد بنيس، أفهم أنه غاضب وإذا كان غضبه من سهو المؤتمر عن المغرب فهو على حق. هذا السهو غير مغفور لكن هذا لا يبرر أن <صمت المغرب> لم يكن كذلك عند الصديق بنيس. ليس التعالم ورمي الآخرين بالجهل وتسميتهم زراية بالصحافيين هي ما يوحي به ابن عربي. ثم أن هؤلاء الذين في لحظة غضب غدوا نكرات عند بنيس هم، حسنا كان هذا أم سيئا، يشكلون في مجموعهم جانبا مهما من مشهدنا النقدي والشعري وطالما تعامل بنيس معهم على هذا الأساس. هذه بادرة سجالية وأفضل أن نغض عنها. وجد بنيس جملة المؤتمرين جاهلة بالنموذج الفرنسي لقصيدة النثر وتطوع ليكلمنا عن هذا النموذج في مبحث تستطيع أن تضمه بسهولة إلى أعمال المؤتمر، أستطيع أن أثني على مبحث بنيس وعلمه لكن الصديق الذي لم يطلع كفاية على أبحاث المؤتمر لم ينتبه إلى أن مبحثي عبد القادر الجنابي وكاظم جهاد عالجا من وجهتين مختلفتين هذا النموذج الفرنسي. لست في معرض التقييم بالطبع لكن علم بنيس كان كله موجودا في مبحثي الجنابي وجهاد وربما بقدر أكبر من التقصي والتحديد. ثم أنني لا أفهم أن تكون معلومة كسبق الوزيوس برتران لبودلير هي مادة الامتحان الرئيسية لجدارة شعراء النثر ونقاد قصيدة النثر.
المسألة ليست هنا أيها الصديق، ومهما زدتنا علما فإن المسألة ليست في معرفة نموذج قصيدة النثر الفرنسي ولا في الفهم الصائب أو غير الصائب لسوزان برنار، ولا بالطبع في سبق برتران لبودلير. أمر كهذا كان يصح أن يطرح على المؤسسين والرواد. أما بعد خمسين سنة من الإنتاج وبعد أن صارت أخطاء هؤلاء وربما فهمهم غير الصائب وربما توهماتهم وانحرافاتهم أعمالا وإنجازات بنى عليها شعراء بعدهم، وحوّلها ولعبت بها أجيال وأجيال، بعد أن غدا الفهم الصائب وغير الصائب في أساس إنجاز متواتر ابتعد كثيرا عن النقطة الأولى، فإن الرجوع إلى هذه النقطة والمطابقة عليها ضرب من العبث، إن في هذا ادعاء لأصل ونموذج أول وإلغاء للحاضر ومجريات الزمن يشعر بأصولية معاكسة. ثم أن الاستعارات الثقافية الأجنبية خاصة خضعت في الماضي والحاضر وفي كل وقت للظرف الثقافي واللغوي الذي تستعار له. هذه الاستعارات لا تبقى هي نفسها ولكن تدخل في سياقات وتكوينات غريبة عنها، لنقل إنها في مواطنها الجديدة لا تعود تشبه نفسها ولا أصولها الأولى. يسهل لمحقق أن يرى أي تلفيق وأي تحويل تتعرض لهما هذه العناصر المجلولة، وقصيدة النثر العربية مصداق ذلك بالتأكيد. يكفي أن تنظر إلى ما فعلته ترجمة أدونيس لبيرس من استنهاض لغة قرآنية ومد تراثي على سبيل المثال. إذا ذهبنا بعيدا عن الشعر فسنجد أن للماركسية والوجودية والوضعية المنطقية سياقات أخرى ومعاكسة للأصل في ثقافتنا.
ليس درس نموذج الشعر الفرنسي هو ما نحتاج إليه وليس هذا امتحاننا، إن في وسع ناقد جدير ومنظر جدير كمحمد بنيس أن يفعل أكثر في دراسة الإنجاز الخمسيني لقصيدة النثر. لقد وجد هذا الإنجاز واستقام وابتعد عن البدايات، وليس المهم مطابقته على أي بداية وعلى أي نموذج أول. المهم أكثر هو ما يكون من التهجين والانحراف وعدم المطابقة. المهم أن هذا لا يقرأ هذا الإنجاز سلبا فحسب وعلى أنه فقط نفي وغير مطابقة، ولكن يُقرأ إيجابا على أنه إنجاز، وعلى أنه أشكال خاصة، وعلى أنه تكيف مع الظرف الثقافي واستعدادات اللغة والمخيلة. أظن أن هذا هو ما يفوتنا عند الحديث عن قصيدة النثر، لعلها عند بعض قرائها وليد لم يفطم بعد ولا زالت المسألة هي ولادته، لعلها عند البعض الآخر كاملة تامة على أيدي روادها ومن جاء بعدهم يعيشون في ظل هذا التمام والكمال وليس عليهم سوى امتداحه أو تقاسم أمجاده، قصيدة النثر وحدها تحظى بهذا التجاهل وهي وحدها التي لا يصدق كثيرون أن لها تاريخا. هذا ما يشعر بأن تناسيها والسهو عنها نفذ إلى داخلها بحيث أنها تحتاج إلى نبش وربما صدمة لتتعرف على الأسئلة المتراكمة في مراحلها ووجهاتها. لقد تم إنجاز فعلي في ظل صمت نظري. (لعل العودة الدائمة إلى سوزان برنار مصداقة) ولا بد من إنعاش حقيقي لاستعادة دينامية نظرية.
ليس هذا دفاعا عن المؤتمر، فليس هناك أي مؤتمر يستحق الدفاع عنه، كبوات المؤتمر أكثر مما ذكرها نقاده. الأرجح أنه أيضا لم ينتبه كفاية إلى الإنجاز الخمسيني، لكنه مع ذلك لاحظ أسئلة معلقة. لم يذهب بعيدا لكنه اقترب من الحاضر ولامس، من قرب أو بعد، بعض أسئلة العمل الشعري اليوم.
ذلك قليل بالطبع. لكن، ناصحي المؤتمر لم يقدموا أكثر منه والأغلب أنهم لم يقدموا بقدره، لقد غضبوا لأمر لا يدري أحد ما هو بالضبط. أخرجهم شيء عن طورهم في الصداقة واللطف ولا أظن انه في المؤتمر نفسه. في أوراقه ومباحثه.
استبقت الصديقة جمانة المؤتمر واستنتج الصديق بنيس من عنوان كلمتي التي لم يكن قرأها، حسب قوله، كان السبب فيما يحيط بالمؤتمر ولا أدعي البراءة إذا قلت إنه فوق فهمي، لا أريد أن أجده في <الشللية والمحاصصة> اللتين انتهى إليهما مقال الملحق، إذ لا أريد أن أسأل عمن يتكلم كشلة وعمن المحاصصة مسألته، لا أريد أن أجده فقط في ما سماه بنيس <صمت المغرب>. صمت المغرب أيها الصديق عميق وواسع دائما ونريده أن يبقى عميقا وواسعا. أما أنا فقد كنت مستشارا معلنا لا معدا غير معلن. لم يكن هذا موقفا ولا حصة كبرى لكنها خدمة لبرنامج جامعي ولصديق، ومن يعرفون البرنامج والصديق يعرفون انه يستشير في نشاطاته أشخاصا من هنا وهناك يذهب أثرهم وريحهم ولا تبقى لهم بعد ذلك مواقع ولا حصص.
السفير
2006/06/23