عناية جابر
(لبنان)

محمد علي شمس الدين (عدسةعلي علوش)عن (اتحاد الكتّاب اللبنانيين) صدر كتاب (شيرازيات) للشاعر محمد علي شمس الدين، في عمله على ترجمة وتعريب لبعض غزليات حافظ الشيرازي، ولبعض أشعاره في الحب الشامل والحرية. الكتاب مزين بلوحات للفنان حسن الجوني. عن (شيرازيات) حاورنا شمس الدين.

* في مقدمتك لهذه (الشيرازيات) عن حافظ الشيرازي، تقول إنكم قمتم بتعريب لبعض غزليات حافظ، وليس مجرد ترجمة لها.
إلى أي مدى ذهبت بالتعريب؟ وما هو الفرق برأيك كشاعر، بين خلق قصيدة وبين العمل على تعريبها؟

أعترف. لقد ذهبت إلى مدى بعيد ومثير في ما قمت به من عمل. اعترف: لقد قمت بمغامرة من اخطر وأمتع ما قمت به في حياتي الشعرية. وتتلخص بالسؤال التالي:
إلى أي مدى، أنا، محمد علي شمس الدين، وفقت إلى إبداع قصائد تنتمي إليّ، إلى عالمي الشعري ومنعرجاته وخفاياه، إلى لغتي الشعرية التي هي العربية، وإلى أسلوبي في الكتابة، تأسيساً على قصائد بالفارسية، لشاعر بهذه اللغة، من حيث انها مسّت بكهربائها، عصبي الشعري الخاص؟.

إنه حافظ الشيرازي. العظيم، الجميل، الحكيم. المشرقي الذي يقول: بوسعي رؤية قلبك داخل صدرك الشفاف/ مثل زمردة تنبض في الماء)... وقد مسني بهذه الكلمات.
إنه حافظ الجذاب أيضا.

لست وحدي في هذه الكيمياء الشعرية المشتركة مع حافظ الشيرازي. يكتب الشاعر الألماني غوته إليه قصيدة بعنوان (لقب)، يقول فيها:

(قُل يا محمد شمس الدين
لمَ سمّاك شعبك النبيل حافظاً؟
حافظ: لأني أحفظ في ذاكرتي الإرث المقدس للقرآن،
صافياً غير محرّف
الشاعر (غوته): وعلى هذا فإني سائر على خطاك
إننا حين نفكر كالآخرين
نغدو شبيهين بهم
فأنا شبهك تماماً
أنا الذي تمثلت الصورة الرائعة لكتبنا المقدسة
كما انطبعت على المنديل المبارك صورة السيّد
أنا الذي في سري
أدخلت الطمأنينة إلى قلبي
بالصورة المطمئنة للإيمان)

(غوته/ من كتاب حافظ في الديوان العربي الشرقي/ ترجمة الدكتور فكتور الكك).
فإن ما ربط بين غوته وحافظ هو تقريباً ما ربط بيني وبين حافظ، إذ كيف (بوسعه ان يرى قلبي، ولا أرى قلبه؟) وكيف، (حين نفكّر كالآخرين، لا نغدو شبيهين بهم)؟.

وحين كنت أقرأ أشعاره، كانت تشملني غبطة داخلية، هي أشبه ما تكون بالغبطة الروحية التي تنتابني حين أصغي للموسيقى الكلاسيكية الهندية، أو لمعزوفات (مشايخي) على السنطور.

هذه الغبطة هي التي استدرجتني للكتابة.

ويعود ذلك لأكثر من خمس سنوات خلت. من خلال زيارة قمت بها لإيران، بدعوة من وزارة الثقافة هناك، لفت انتباهي ظاهرة ثقافية تتمثل بالهيمنة القوية لشاعرهم العرفاني الأكبر حافظ الشيرازي، شمس الدين محمد، على المزاج الثقافي الرسمي والشعبي للإيرانيين، على الرغم من مرور ستة قرون ونيف على وفاته، ودفنه في شيراز مسقط رأسه الذي نادراً ما غادره... (هو الذي ولد في أواسط النصف الأول من القرن الرابع عشر للميلاد، القرن السادس للهجرة، ومات في العام 1389 للميلاد، 792 للهجرة).

وقد لفت انتباهي، خلال تجوالي في شوارع شيراز، عرض كرّاس شعري صغير بعشرين صفحة من القطع الوسط، ليباع على أرصفة الشوارع وفي أكشاك الباعة، بعنوان (سبوى عشق) وهو كرّاس شعري كتبه الإمام الراحل الخميني، وأهداه إلى زوجة ابنه أحمد، ومعروض ليباع لعموم الناس.
لفتني بعد ان اشتريته وقرأته، شدة تأثره لحد المحاكاة بأشعار حافظ الشيرازي، هذا الذي سماه شاعرهم الرودكي (لسان الغيب وحافظ الأسرار).
حملت معي من شيراز إلى بيروت، طبعات متنوعة من ديوان حافظ وعكفت عليه لخمس سنوات تالية قراءة وفهماً وتأويلاً ومقارنة. وشعره مقطعات بعنوان موحد (غزل)، كل غزل يدور حول العشق ومجازاته وصوره في القلب البشري. والغزل بالفارسية هو غيره في العربية. انه تقنية وعدد أبيات وموضوعة. أي هو نوع شعري خاص تنتهي كل قطعة منه بما يسمى (التخلص) أو توقيع الشاعر. اعترف: أحببت جداً هذه الأشعار في الحب والعرفانية والخمرة. وقد التقينا معاً في (موطن الأسرار) (القلب البشري) وهو شعر عشق وكلمة وخمرة إلهية ووحدة وحرية وحب. وللحكمة هنا معنى يتجاوز أحكام العقل وترتيباته.

أسرار مشتركة

* نعود للسؤال: ما هو، على وجه التحديد ما قمتم به من عمل شعري؟ أهو ترجمة؟ تعريب؟ خلق قصائد جديدة؟.. وعلى أي أساس؟

إني سأتابع سرد هذه السيرة. والإجابة تأتي من تلقاء نفسها.
أقول: مرضت. انقطعت عن العالم الخارجي لأشهر عديدة. عانيت من آلام ممضة. كان ذلك بعد ان أقفلت ديوان حافظ. ثم، فجأة، وأنا على فراش المرض، بدأت تولد القصائد، واحدة تلو واحدة، وكأنها طالعة من (موطن الأسرار)، ومن دون مرجعية مباشرة. كتبتها وكأنني اكتبها من ذاتي، ولأول مرة.. إنما هذه الذات كانت قد سبحت في ذاك البحر الجميل... وانتهى الأمر. استعير هنا قول الشاعر:

(فكان ما كان مما لست اذكره
فظُنَّ خيراً، ولا تسأل عن الخبر).
وأستعير أيضا قول الشاعر:
(فلما شربناها ودّب دبيبها
إلى موطن الأسرار قلت لها: قفي).

ما قمت به هو كتابة قصائد عربية جديدة مؤسسة على معانٍ عشقية ووحدة وجود وخمرة إلهية. وما إلى ذلك مما يضاف من أسرار يصعب وصفها، موجودة لدى حافظ الشيرازي وموجودة في وجداني في وقت واحد. أنا لا اعتقد بأن الشعر يمكن ان يترجم من لغة لأخرى. هذا الاعتقاد راسخ لديّ وقديم. جدنا الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر قال بذلك من أكثر من ألف عام، في البيان والتبيين. لماذا؟ نسأل، ونجيب: لأن الشعر مغامرة كبيرة وغامضة في الوجود وفي اللغة في وقت واحد.. والفرنسيون يقولون: (ان تترجم هو ان تخون).. لكن الجاحظ يستدرك ويقول: إن الشعر لا يمكن ان يترجم من لغة لأخرى إلا بما يوازيه أو يماثله. فالاستحالة الجاحظية لترجمة الشعر ليست مطلقة، بل هي مقيّدة بشعر آخر يمثل ما يوازي (على الأقل) النص الأصلي. وهو على وجه الدقة ما يمكن ان يفهم من( التناص) Textualitژ، أي إنشاء وإبداع نص من نص أو نص على نص. وهو ما قمنا به في تعريبنا لحافظ، فقد أنشأنا قصائد عربية تأسيساً على نصوص حافظ الفارسية، مع الحفاظ على روح الشعر.
إن إنشاء نص جديد على أساس نص آخر، شبيه بعلاقة الوجه بعدد من الرسامين الذين يرسمونه أو بعلاقة النموذج الواحد (المثال)، بعدد من الفنانين. ففي كل صورة مرسومة مبدعة لهذا الوجه الواحد (الأصل الواحد) نرى صورتين لا صورة واحدة: صورة الأصل وصورة المصوّر أو الرسام.. وهذا هو، على وجه التقريب، شرط نقل شعر من لغة لأخرى، فتتعدد الصور للأصل الواحد بتعدد الرسامين. إنه توليد شعري بلغة، مؤسس على توليد شعري آخر بلغة أخرى، والتقاط ما هو مشترك بلغتين مختلفتين. فالعربية لغة ساميّة والفارسية لغة هندو أوروبية. وللتقريب فإن من يطلع على سيرة جلال الدين الرومي (مولانا جلال الدين) يدرك ما كان يربطه بشمس الدين التبريزي من علاقة تصعب على الوصف. وقد كتب فيه ديوانا بكامله هو ديوان شمس تبريز.. ومن بين قصائد هذا الديوان، قصيدة بعنوان (أنا وأنت) يقول له فيها:

(أنا وأنت
نقشان لوجه واحد..).

أعود فأقول: لا للترجمة. نعم لترجمان الأشعار، على غرار (ترجمان الأشواق). لا أحب ترجمة الشعر ولا اسيغها.

لماذا، أيضاً، الشيرازيات، في هذا الظرف السياسي، على ما تقول في مقدمتك، الذي يستدعي الحضور الإسلامي متمثلا بأشعار حافظ في الحب الإنساني الشامل والحرية في مواجهة التترية المعاصرة المتمثلة بالوجه البشع للثقافة الأميركية الصهيونية؟

إنها مقارنة بين تاريخين وزمانين، جاءت من تلقاء ذاتها، من حيث ان للشعر المفعم بالنبض الإنساني، لجهة الحب والحرية، وقلق الغيب، حجته الممتدة على الأزمنة.

يذكر، لهذه الناحية، ان حافظا الشيرازي، كتب أشعاره الرقيقة في الحب والعرفانية، في زمن وحشية التتار والمغول وزحفهم الكاسح على العالم الإسلامي، فكان ترجمان الضمير الإسلامي الإنساني العميق اللطيف في مواجهة قسوة بل وحشية التتار الوثنيين.

وهو، في أيامنا هذه، وبعد مرور سبعة قرون على ولادته، حاضر وواجب الحضور، إسلامياً ومشرقياً، في مواجهة التترية المعاصرة المتمثلة بالوجه البشع للثقافة الأميركية الصهيونية، وما تمارسه على الإسلام والمسلمين في العالم بكامله، من قهر وإرهاب. فالإسلام اليوم متهم بالإرهاب، في حين انه، بحجة أشعار حافظ بالذات، هو الحب الإنساني الشامل، وهو الحرية.

إن شعره يلتقي مع شعر ابن عربي الذي يقول:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فديرٌ لرهبان ومرعى لغزلان
وآيات إنجيل وترتيل قارئ
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني)

أضيف لذلك ما يأتي:
من خمسينيات القرن الفائت (القرن العشرين)، وقبله أيضا، والشعرية العربية، المشغولة بالحداثة ونظرياتها ونصوصها الشعرية، منفتحة على مصراعيها على الرياح الغربية.. من مجلة شعر إلى مجلة مواقف إلى مجلة الآداب.. إلى آخره.. ومن يوسف الخال إلى ادونيس إلى انسي الحاج إلى شوقي أبي شقرا ومن بدر شاكر السيّاب مروراً بخليل حاوي وصولا للبياتي: الحداثة الغربية هي المثال والنموذج. يكفي ان نذكر ابرز رموز قصيدة النثر العربية: الحاج، الماغوط، بيضون، شاوول، سعادة.. الخ. لقد نقلت للعربية أشعار إليوت وباوند وويتمان وادغار ألن بو وآرتو ورامبو ولوتريامون واليوار وأراغون وبريتون وميشو وبريفير وسواهم مع نظريات الحداثة الغربية. وقليلا ما تم التفات نحو المشرق وشعرياته ونظرياته.
صحيح ان عبد الوهاب البياتي اهتم بحافظ الشيرازي، وانه باكراً تم نقل أشعاره للعربية على يد إبراهيم أمين الشواربي من خلال ترجمته المبكرة لغزل حافظ العام 1944 وقد صدرت في القاهرة مع مقدمة لطيفة للدكتور طه حسين، وانه نقلت بعض أشعار طاغور ومحمد إقبال للعربية.. إلا ان المد الكاسح للحداثة العربية كان غربياً..

لماذا لا نجرّب الشرق؟
لماذا لا ندخل في أسراره، وغيبه؟

هذا الدخول حصل من خلال الاهتمام بشعراء التجربة الصوفية.. السهروردي وفريد الدين العطار النيسابوري وجلال الدين الرومي والنفري، وسواهم.. وها يضاف حافظ الشيرازي.

لمَ لا؟

إنني اقترح تعديل جناحي طائر الحداثة العربية في الشعر.. على غرار غوته في ديوانه الشرقي الغربي... بل قل على غرار جبران. لقد اثر مناخ حافظ الشيرازي في شعراء الرومانسية الصوفية الألمان من أمثال نوفالس وهلدرن وشيلر الذين اشتعلت في أشعارهم روح الغيب بروح الطبيعة بالمرأة، فتمت في قصائدهم مواءمة بين المرأة والليل والغابة في اهاب ميتافيزيقي سداه ولحمته الحب.. لقد حرصت شخصيا، ان أكون مشاركا في الاحتفالية العالمية التي أقيمت لحافظ الشيرازي باعتبار منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة للعام 2003 هو العام العالمي لحافظ، بقراءة ما كتبته من أشعار، في الاونيسكو في بيروت ومصاحبة موسيقى مشايخي على السنطور، وغناء نداء ابو مراد. كانت مناسبة جميلة وحافلة.

أكثر من شاعر

ثمة جاذب شد اهتمامك إلى العمل على هذه الشيرازيات وهو موقع حافظ في الثقافة الإيرانية القديمة والمعاصرة، وجاذب ذاتي، عدا عن الروحي، صنعته مصادفة تشابه اسميكما، هو شمس الدين محمد وأنت محمد شمس الدين.

* هل هذه الأسباب استدعت الغزل؟
أم هي حاجتك الروحية التي استدعت الحب، الجانب الطري من الحياة؟

لم أكتب مقدمة لهذه الأشعار، بل كتبت ما سميته (صلة وصل).
دعك من موقع حافظ وهيمنته الشعرية اليومية على الناس، بعامتهم، والمثقفين، في الجمهورية الإسلامية.. فهم على سبيل المثال، يستفحتون ويتفاءلون بشعره، كما يتم الاستفتاح بآيات الذكر الحكيم، وطبعات ديوانه شبيهة، لجهة الشكل والإخراج والطباعة، بطبعات الذكر الحكيم.. لأنه، ربما، يعتبر ثمة، أكثر من شاعر. إنه في مقام العرفانية والحكمة. ومقام العرفانية مقام أعلى من الشعر. انه متصل مباشرة بالدين لجهة عالم الغيب. وللحكمة هنا معنى يتجاوز ظاهر الحلال والحرام في الشريعة، ويتجاوز أيضا أحكام العقل وترتيباته. بأي نوع من الحكمة اهتم العرفانيون؟ لقد أسسوا معانيهم على أصل الحكمة في القرآن الكريم.. سورة الكهف وحديث موسى. فهناك في هذه السورة 15 آية يختلف فيها نوع الحكمة كلياً عما في الذكر الحكيم. هنا نجد حوادث وظواهر تتجاوز في كنهها ترتيبات العقل وظواهره وتغوص إلى أصل الحكمة. فهناك ما يمكن تسميته (موطن الأسرار) في الكون وفي القلب البشري معاً (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) فلننظر إلى هذا التقاطع الفذ والهندسي بين الذات والعالم. ففي موطن الأسرار الحب والعمق والشمولية وتماهي التناقضات ووحدة الوجود.

الحب. نعم الحب هو أساس الوجود، انه التعاطف، اللحمة بين العناصر، انحناء الكائن على ذاته، انحناء الكائنات بعضها على بعض: انحناء قبة الفلك على النجوم والمجرات، انحناء المجرات على الطبيعة، انحناء الطبيعة على الإنسان، انحناء الإنسان على ذاته وعلى الإنسان والحيوان والنبات والجماد، تداخل المتناقضات، تماهيها. الحب هو النار القوية التي تصهر تعارضات الوجود.. الرجل والمرأة، الإنسان والكون، الإنسان والكائنات والعناصر.. الشعر هنا، هو معرفة شعرية. وهو معرفة إشرافية، تنال بالذوق لا بالعقل، وبالطبع ليس بالحواس.
من الأساس، ومن (قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا)، مروراً ب(أناديك يا ملكي وحبيبي) و(أما آن للرقص ان ينتهي) و(ذكر ما حصل للنبي حين أحب)... حتى (أميرال الطيور)... فإني اغرف الشعر من هذا الداخل في الحب. من زمان، وأنا ابن الانخطاف الميتافيزيقي للكائن. لا شعر بلا ميتافيزيق، بلا دين. لا شعر إلا من جانب الغيب. لا شعر يأتي من ناحية العقل ولا من ناحية الحواس. كائن الشعر هو كائن الغيب.
من سنوات الصفر، وصوت أذان الفجر، يشق صدري ويؤمن هذا المعراج.

السفير
مارس 2005


إقرأ أيضاً: