تسيطر علي في الفترة الأخيرة فكرة القراءة أكثر من الكتابة. فكرة أن أكون محض قارئ بدل أن أكون كاتباً.
لم أكن أظن, يوماً, ان الشغف نفسه, تقريباً, يصاحب الحالتين. اكتشاف ما يكتبه الآخرون وتذوقه, استخراج روح العبارات والصور والاستعارات جهد يكاد يعادل جهد ابتكار تلك العبارات والصور والاستعارات. لقد كان محمد الماغوط الذي قال ان مشكلة القارئ الجيد عندنا أنه يريد أن يصبح كاتباً, والقارئ الجيد ربما, إذا صار كاتباً, لا يكون كاتباً جيداً بالضرورة, وهناك كتّاب عاديون يتقنون قراءة الغير أكثر من موهبتهم في التأليف!
القراءة الجيدة, وليس الصحيحة بالتأكيد, ترتبط بمعرفة كيفية الوصول الى جوهر وعصب ما هو مكتوب منذ الجملة الأولى أحياناً. القراءة, على الأرجح, يمكن أن تكون نوعاً من الكتابة أو المشاركة في الكتابة. أليس هذا ما يدّعيه معظم الكتّاب؟ أليس الشعراء من يصرحون ان كتاباتهم ونصوصهم تحتاج الى القارئ كي تكتمل دائرة المعنى فيها؟ ألا يقولون أنهم يتركون للقارئ دوراً داخل قصائدهم؟ أليست القراءة, من هذا المنظور, قفا الكتابة أو بطانتها أو هامشها أو وجهها الآخر؟
مع ذلك تبدو القراءة شيئاً ثانوياً مقارنة بالكتابة. إنها أقل منها وتأتي لاحقاً وحتى في أشد حالاتها جودة ولمعاناً وعمقاً لا تحتل سوى الصفوف الخلفية والمعتمة تاركة الضوء كله مسلطاً على الكتاب والمؤلفين. هؤلاء أكثر شهرة بالطبع, كما ان جمهور القراء الذين يملكون, في العادة, ميولاً وأهواءً ورغبات لا يشكلون مجتمعاً حقيقياً كالذي يشكله الكتاب. إنهم مجتمع الظل الذي بلا ملامح والذي يظل الحديث غامضاً عن وجوده وعن تناقص أعداده وانفضاض أفراده التدريجي عن القراءة, القارئ الجيد عملة نادرة, وإذا علمنا ان نسبة لا يستهان بها من القراء الجيدين هم, في الأصل, كتاب سيتضح أن عدد القراء الجيدين قليل فعلاً, عن شغف هؤلاء القلة أحب أن أكتب, عن إدمانهم غير القابل للشفاء, عن تورطهم الخطر في استعمال الروايات والقصائد كدليل لاستعمال الحياة أحياناً, عن هؤلاء الذين من السهل, لفرط رقتهم ورهافتهم, أن تقودهم قصيدة صغيرة الى مصير تراجيدي, أو أن تنير جملة في رواية ظلام مزاجهم, أو أن تدفعهم حكاية مروية في شكل جيد الى هجر حيواتهم الشخصية والبحث عن حياة جديدة أو الاكتفاء بالعيش في الروايات لتخفيف ألم العيش الحقيقي في الواقع.
القراءة هي إعادة اختراع للكتابة, هي إحياؤها من جديد بعد "موتها" في النسخة النهائية التي اقتنع بها المؤلف. هي تعزيز الكتابة ومنحها حياة أطول أو خلوداً متوهماً.
منذ أسابيع وأنا أجرّب أن أكتب نصاً جديداً, وكلما اقتربت من لحظة الكتابة أو, بالأحرى, كلما تأخرت لحظة الكتابة أستعيد قصائد قرأتها في الماضي أو مجرد سطر في قصيدة أو رواية فأؤجل الكتابة مستمتعاً بالطعم الجارف والفاخر لما كتبه آخرون, أحاول أن أكتب فأتذكر عبارة بيار فيدال:
"لماذا تومئ إليّ وتناديني
طالما أنك
لست قادراً على منحي
ما سأتألم كثيراً لافتقاده",
أحاول أن أكتب فأقرأ مقطع ماريو لوتزي:
"كم من مرة رأيتك
وشككت
غير عارف ان كان هذا أنت
أم الربيع المتعب من الاندساس بين النباتات"
أحاول أن أكتب فيلح عليّ سطرٌ لعباس بيضون:
"كان ضرورياً أن ندقّه في التراب كالبئر", أحاول أن أكتب فأتذكر مقطع أنسي الحاج: "أخذت ما يؤخذ وما لا يؤخذ/ وتركت ما يترك وما لا يترك", أؤجل الكتابة لأنني أحب أن أقرأ مقطع رياض الصالح الحسين: "كانا اثنين/ أهدته قلماً للكتابة/ وأهداها حذاء خفيفاً للنزهات بالقلم كتب لها وداعاً/ وبالحذاء الخفيف جاءت لتودعه",
أؤجل الكتابة مستعيداً قصيدة مرام مصري:
"انتظرتك ولم تأت
يا الله كم أنا حزينة
لقد ذبلت للتو
الأزهار التي أحضرتها معي لتتعرّف عليك".
اكتفي بهذا وأتوقف لأن هذه المقالة لن تنتهي إذا واصلت استعادة العبارات والصور والمقاطع التي لكثرة ما قرأتها واستعدتها مراراً, بتُّ أتوهم, أحياناً, أنني أنا من كتبها أو أحب أن يكتبها. وهكذا أؤجل الكتابة لأن ثمة, دائماً, ما يمكن قراءته أو استعادته, ألسنا, جميعاً, نكتب في مجلد واحد كما قال بورخيس يوماً. ألا يكتب الآخرون, إذاً, ما نفكر في كتابته ونؤجله دائماً؟ أليست القراءة, بهذا المعنى, هي الكتابة بذاتها.
الحياة
2004/04/16
إقرأ أيضاً: