صبحي حديدي
(سوريا/باريس)
منذ سنوات طويلة، لا تقلّ عن العقدين في الواقع، لا تجمعني جلسة خاصة مع كتّاب عرب، فضلاً عن الجلسات والحلقات المتخصصة خلال مؤتمرات الأدب وملتقياته، إلا وتُثار إشكالية قصيدة النثر: العربية، تحديداً، وفي مستويات النصّ والمصطلح والتنظير والتغطية النقدية. ويحدث، غالباً، أنّ النقاش يتوسع ويتشعب، وقد ينقلب إلى سجال حين تتوافر آراء متقاطعة، أو أخرى «متحزبة» لهذا الشكل ضدّ قصيدة التفعيلة أو العمود مثلاَ، أو آراء ثالثة «رافضية» تماماً ومتخندقة عند التعريف المتشدد للشعر، في أن وزن أولاً وثانياً… وعاشراً أيضاً!
وفي العموم، مع ذلك، يبقى أنّ قسطاً كبيراً من هواجس استقبال قصيدة النثر يتمحور حول مسألتين: هويّة الشكل، أو التباس التسمية على نحو أدقّ، وطبائع تلقّي هذه القصيدة وعوائق استقبالها، في ميادين القراءة كما في أشغال النقد الأدبي. وليس في هذا أيّ جديد ـ كما قلتُ، وكتبت، مراراً في الماضي ـ ما خلا أنّ الحياة تقوم بتثبيت حضور هذه القصيدة كلّ يوم، من دون أن تفلح القصيدة ذاتها في ردّ القسط الأعظم من الشكوك التي تكتنف شرعيتها بالقياس إلى سواها من أشكال الكتابة الشعرية العربية، وفي جانب واحد محدّد هو تسويغ غياب الوزن عنها، أو التفلسف حول وجود موسيقى بديلة (الإيقاع الداخلي، إيقاع الجملة، إيقاع التجربة، إلخ…). غير أنّ ما يدعو إلى القلق، فضلاً عن هذا، يتجلى في حقيقة أنّ ميول الصدّ التلقائية التي يبديها بعض شرائح الذائقة العربية، المتكئة على تراث عروضي عريق جبّار يسند الذائقة، المتجبّرة غريزياً كحال كلّ ذائقة، لا تنقلب إلى نوايا حسنة لالتماس جماليات قصيدة النثر في ذاتها، من دون إحالة تعسفية إلى الوزن بوصفه مرجعية الجنس الشعري الأولى.
والحال أنّ موقف الالتباس إنما يبدأ من التسمية ذاتها، أي سعي هذا الشكل في الكتابة الشعرية إلى خلق مقولة ثالثة تتوسط بين، أو أحياناً تتنازع وظائف، المقولتَين الرئيسيتين الراسختين في خطاب التعبير الأدبي: مقولة الشعر، التي تحيل إلى الوزن على اختلاف أنماطه، وبصرف النظر عن قيوده وحرّياته، ومقولة النثر، التي تحيل في المنطق البسيط إلى كلّ ما لا يُصنّف في عداد الشعر، أو الذي يُكتب باستخدام لغات غير شعرية إذا جاز التعبير، تعتمد غالباً الإيعاز الملموس والتصريح المباشر والتقرير والتوثيق والسرد، وما إلى ذلك من تقنيات القول.
هذا هو السبب الأبرز، من دون أن يكون الأوحد، في أنّ تسمية قصيدة النثر ليست مستقرّة تماماً، والإجماع عليها خضع ويخضع لأخذ وردّ، ودرجات متباينة من الحيرة والارتباك وانعدام الدقة: «الشعر المنثور»، و«النثر الشعري»، و«النثر المشعور»، و«النثيرة»، و«الخاطرة الشعرية». الأرجح أنّ هذا، أيضاً، هو السبب الذي كان وراء تسميات تخلط الجدّ بالهزل (كما في رأي الناقد المصري د. أحمد درويــش، الذي اقترح اسم «عصيدة النثر» لأنّ قصيــــدة النثر في نظره تقوم على خلائط شتى)، أو أخرى تذهب إلى مرجعية التصنيف الجنسي (كما في تسمية «الجنس الثالث» أو اصطلاح «الكتابة الخنثى» الذي اقترحه الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة).
كان الأمر، ويظلّ، مؤسفاً وباعثاً بدوره على قلق عميق إزاء الإخلال بحقوق التعاقد مع قارئ عربي أثبت أنه يَقْبل، ويُقْبل على، الجديد والطليعي والحداثي، في الشعر كما في الفنون الأخرى، ولكن من غير الإنصاف أن يُوضع، دائماً، في حال من تضادّ عنيف مع المنطق الجمالي لذائقته. ومع استثناءات قليلة، استقال معظم الشعراء من همّ الاجتهاد في جَسْر الهوّة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وتركوا المهمّة لمحاولات التنظير النقدية المحدودة: نقاش البُنية «الكمّية» في العروض العربي (بالمقارنة مع البُنية «النبرية» في الشعر الأنغلو ـ ساكسوني، والبُنية «المقطعية» في الشعر الفرنسي)، أو توسُّل آفاق إيقاعية جديدة، بوسيلة مصالحة نظام التفعيلة ونظام النبر (جهود محمد النويهي، التي كانت تستكمل ريادة محمد مندور لهذا النقاش)، أو المحاولات اللاحقة للاستعاضة عن مصطلحات تقنية صرفة، مثل السبب والوتد والتفعيلة والبحر، بمصطلحات وصفية إنشائية مثل النواة الإيقاعية والوحدة الإيقاعية والتشكّل الإيقاعي (كمال أبو ديب)…
وبالطبع، يظلّ أبرز الأسئلة ـ على ضفة التشكيك وضفة القبول، سواء بسواء ـ ذاك الذي يخصّ خطل أو صواب القول بتوفّر إيقاع خاصّ في قصيدة النثر، أو موسيقى داخلية تعوّضها عن الإيقاع الخارجي. وكان الشاعر البريطاني جورج باركر، ضمن سياقات مناهضته الشرسة لواقعية الشعر في ثلاثينيات القرن الماضي، وانحيازه إلى التجريب المفتوح والسوريالية، قد اختار لقصيدة النثر صفة «الفيل الأبيض»، معتبراً أنها موجودة كمفهوم، بالتأكيد، ولكن يتوجب أن توجد (أن تنوجد؟) كقصيدة أيضاً، نادرة، فريدة المزايا، وباهظة التكاليف! مواطنه، الشاعر البريطاني الكبير و. هـ. أودن، اختار لشاعر قصيدة النثر صفة روبنسون كروزو في الجزيرة المنقطعة عن العـــــالم، حيث توجّب أن يعتمد على نفسه في كلّ شيء، من القنص والزراعة، إلى الطبخ وجلي الآنية!
والطبيعيّ، في القياس المنطقي أيضاً، ألا يحسب شاعر قصيدة النثر العربية المعاصرة أنه في وضع أفضل، وأنّ مشروعه الإبداعي أقلّ مشقة!
---------------------
القدس العربي- May 01, 2017