نشرت شهرية Foreign Policy، الدورية التي يصدرها معهد كارنيغي الأمريكي الشهير، ما اعتبرته لائحة الـ 100 شخصية الأكثر تأثيراً ضمن الوظيفة التي يطلق عليها الغرب صفة "المثقف العمومي" Public Intellectual، إذا جاز استخدام العمومي بهذا المعنى. ورغم أنّ التحرير استفتى القرّاء في مشارق الأرض ومغاربها، من موقع المجلة على شبكة الإنترنيت، فإنّ "المزاج" السائد في الاختيارات يرجّح كفّة القارىء الغربي عموماً، والأمريكي بصفة خاصة.
ومن هنا بعض المفاجآت...
وسأبدأ من واحدة تهمّني شخصياً، بسبب انهماكي في دراسة الشعر تحديداً، هي أنّ اللائحة لا تضمّ أيّ شاعر البتة، مقابل تسعة روائيين! التفصيل المدهش الأوّل ضمن هذه المفاجأة ذاتها، أنّ النيجيري شينوا أتشيبي (الشخصية الأهمّ في الأدب الأفريقي المعاصر بأسره ربما، والروائي الكبير الذي كان أحقّ بجائزة نوبل من مواطنه وولي شوينكا) يتصدّر لائحة الـ 100. كيف يمكن للشاعر أن يغيب نهائياً عن موقع المثقف العمومي المؤثر، ولماذا؟ وكيف أمكن لروائي، أفريقي نيجيري، أن يتفوّق في التأثير العمومي على أمثال البابا بنيديكت السادس عشر، واللغوي والمفكر السياسي الأمريكي نوام شومسكي، والفيلسوف الفرنسي جان بودريار، والمؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم، والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والمؤرخ الأمريكي بول كنيدي، والإقتصادي الهندي أمارتيا سين، والعشرات ممّن يأتون بعده في اللائحة؟
التفصيل المدهش الثاني أنّ لائحة الروائيين لا تضمّ من أبناء الغرب وأمريكا سوى الإيطالي أمبرتو إيكو (19)، وتضمّ من أبناء العالم الثالث الأسماء التالية: ج. م. كويتزي (8، جنوب أفريقيا)، غاو تسينغ جيانغ (26، الصين)، ها جين (35، الصين)، عاموس عوز (67، إسرائيل)، أورهان باموك (69، تركيا)، سلمان رشدي (78، الهند)، وماريو فارغاس يوسا (88، البيرو)، فضلاً عن أتشيبي بالطبع. وثمة الكثير من الدلالات في وجود هذه الأسماء ضمن هذا الترتيب، قد يكون بعضها ثقافياً صرفاً ينبثق من نزوعات فكرية وتاريخية وجغرافية، وقد يكون بعضها فنّياً بالفعل يرتكز إلى تثمين السوية الفنّية العالية التي تتسم بها أعمال أتشيبي أو ها جين مثلاً، ومن المرجّح أن عوامل سياسية محضة قد طغت في تفضيل بعض الأسماء على سواها...
المفاجأة الثانية، إذا صحّ أن نعتبرها كذلك بالفعل، هي وجود ثلاثة أسماء عربية، فقط لا غير (مقابل 38 من أمريكا، و12 من بريطانيا، و ـ لمَن يهوى المقارنة ـ 2 من إسرائيل!)، هم: الفلسطيني سري نسيبة (65، وقد اعتبرته اللائحة فيلسوفاً!)، والمصري ـ القطري يوسف القرضاوي (73)، والمصري طارق رمضان (75، واعتبرته اللائحة سويسريّ الجنسية)، وآية الله علي السيستاني (83، واعتبرته اللائحة إيرانياً عراقياً). وأمّا التفصيل الأهمّ في هذه المفاجأة فهو أنّ ثلاثة من الأربعة على صلة مباشرة بالإسلام الشعبي، الأمر الذي يدلّ من جديد على حال الاهتمام الواسع الذي أخذ الإسلام يحظى به في الغرب والعالم، كما يدلّ أيضاً على استمرار واقع التجهيل المتعمّد في ما يخصّ القضية الفلسطينية (سري نسيبة شخصية إشكالية لا ريب، ولكنه لا يمارس ذلك التأثير الملموس الذي يبرّر انفراده بموقع المثقف الفلسطيني العمومي).
ثمة، هنا، تفصيل لافت وقد يكون مبهجاً في آن معاً، هو أنّ برنارد لويس (المؤرّخ المعروف المختصّ بالإسلاميات، والرجل الذي استحقّ بالفعل لقب "بطريرك الإستشراق") يأتي في المرتبة 57، بعد الفرنسي جيل كيبل (48) الذي يشتغل بالإختصاص ذاته ولكنه يختلف عن لويس في مدى ما تحمله كتاباته من نزاهة فكرية وأخلاقية تجاه الموضوعات الإسلامية ذاتها. هذا يعني أنّ الناس، إذا اتفقنا أساساً على دور المثقف العمومي، أخذوا يتجرّدون أكثر فأكثر من من تلك التنميطات والأساطير الإستشراقية التي يواصل أمثال لويس إنتاجها وإعادة إنتاجها واجترارها وترويجها. ويعني كذلك أنّ العموم بدأوا بالإلتفات جدّياً إلى أصوات أخرى، وربما منهجيات مغايرة تماماً، في الحقول المعرفية ذاتها.
ما هو غير مفاجىء أنّ شرائح واسعة ممّن صوّتوا على ترشيح الـ 100 ما تزال تمنح مصداقية عالية لأفكار وكتابات وتنظيرات أمثال الفيلسوف الفرنسي اليهودي ألان فنكلكروت (23)، الأشبه بفضيحة فكرية مستديمة؛ والصحافي والمعلّق الأمريكي توماس فريدمان (24)، الذي لا تحتاج انحيازاته السياسية والأخلاقية إلى تعليق؛ والكاتب والمنظّر السياسي فرنسيس فوكوياما (25)، صاحب النظرية الأشهر حول نهاية التاريخ؛ والكاتب والمعلّق البريطاني كريستوفر هتشنز (38)، أحد القلائل الذين ما يزالون يؤمنون أنّ غزو العراق كان صائباً وعادلاً وصانعاً للديمقراطية؛ والمفكّر السياسي الأمريكي صمويل هنتنغتون (41)، صاحب النظرية الشهيرة حول صراع الحضارات. وفي المقابل، قد لا يكون مفاجئاً تماماً أنّ شومسكي يسبق هؤلاء جميعاً، ويأتي في المرتبة السابعة.
ويبقى، ختاماً، أنّه لا الدهشة ولا العجب ولا المفاجأة تنفع في تفسير وجود الصومالية ـ الهولندية أعيان حرسي علي في المرتبة 37 من القائمة ذاتها، إذْ لا نعرف أيّ "فكر" أنتجته هذه المفكّرة العمومية، ما خلا ظهورها على نحو استفزازي مناهض للإسلام في فيلم الهولندي ثيو فان غوغ، الذي دفع حياته ثمناً للشريط أواخر السنة الماضية. وما خلا، طبعاً، أنها نائبة في البرلمان الهولندي، تقيم في قاعدة عسكرية وتأتي إلى البرلمان تحت حراسة مشددة، في بلد يتحرك فيه رئيس الوزراء نفسه على دراجة نارية!