صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديفي "الأحمر والأسود"، العمل الأشهر للروائي الفرنسي ستندال (1783 ـ 1842)، ثمة هذا المشهد الذي يدور في نهاية الفصل 35: يعرف جوليان سوريل أنّ عشيقته السابقة، مدام دو رينال، تسعى إلى إفشال زواجه من إبنة المركيز دو لا مول، فتثور ثائرته ويغادر باريس إلى بلدة فيريير حيث تقيم مدام دو رينال، ويقتحم عليها الكنيسة، هائجاً وراعشاً ومخموراً، ويحاول قتلها. ويخبرنا ستندال أنّ سوريل يطلق طلقة أولى من غدّارته، فيخطئ الهدف؛ ثمّ يطلق طلقة ثانية، فتخرّ المرأة أرضاً، ولكنها لا تموت.
المشهد ينتهي هنا، لكنّ فضاءات التأويل تنفتح وتنفتح، ولا يمكن لأيّ اعتبار أن يغلقها، كما يعبّر السيميولوجي والروائي الإيطالي إمبرتو إيكو. نعم... حتى هذا المشهد البسيط الواضح لا يسلم من آلة التأويل، التي لا مناص من أن تدور وتدور: قد يقول البعض إنّ سوريل لم يكن ينوي قتل مدام دو رينال في الأساس، لأنه كان ويظلّ يحبّها؛ وقد يردّ آخرون بالقول إنّ جلال الكنيسة الخاصّ، ربما ضمن مبدأ "العناية الإلهية" دون سواه، حال دون إتمام فعل القتل؛ وقد يردّ قارئ، واقعي هذه المرّة، بالقول ببساطة: كيف يمكن لمخمور هائج راعش أن يصيب هدفه؟
كلّ هذه نماذج على قراءة/قراءات مشروعة تماماً، تذهب أبعد ممّا يقول النصّ مباشرة، وتستكشف بواطن غير تلك التي تبدو جليّة للوهلة الأولى، كما تلتمس مستويات من التعقيد والعمق والإشكالية قد لا يكون النصّ أرادها في الأساس. ما هو مدهش، مع ذلك، أن يذهب التأويل إلى درجة قصوى مثل هذه مثلاً: أن يتوافد عشّاق ستندال إلى بلدة فيريير (الحقيقية، الموجودة اليوم بالفعل، غير بعيد عن مدينة بواتييه، والتي لا صلة تجمعها البتة بالبلدة التي تخيّلها ستندال)؛ وأن يقصدوا كنيستها تحديداً، لكي يفتشوا عن التالي: أين ذهبت الرصاصة الأولى؟
وضمن سياقات هذا الحجّ الأدبي، ثمة الآلاف من عشّاق الروائي الأيرلندي الشهير جيمس جويس (1882 ـ 1941)، ممّن يتقاطرون على مدينة دبلن لإعادة إنتاج الرحلة ذاتها التي قام بها ليوبولد بلوم، بطل الرواية ـ الإيقونة "عوليس"، في أرجاء المدينة. ولأنّ بعض هؤلاء يحبّون تفاصيل التفاصيل، فإنهم يقضون ساعات في البحث عن دكان بائع العقاقير الذي ابتاع منه بلوم قالب صابون! ثمّ لأنّ الأمر لا يقتصر على الحجّ الأدبي وحده، ولا مفرّ من التجارة هنا أيضاً، فإنّ ورثة البائع إياه قاموا بإنتاج قالب الصابون ذاته... خصيصاً لعشّاق جويس!
ولعلّ بعض القرّاء يتذكرون تلك المناسبة الفريدة التي أحيتها أيرلندا، والعالم بأسره في الواقع، يوم 16 حزيران (يونيو) السنة الماضية، حين حلّت الذكرى المئوية الأولى لرحلة بلوم في شوارع دبلن. وفرادة تلك المئوية أنها، بين اعتبارات أخرى عديدة، كانت تحتفل بحدث لم يقع على أرض الواقع، بل في ميدان الخيال الأدبي وحده؛ وأنّ برامج استعادة ذلك الحدث المتخيَّل فاقت عشرات البرامج الأخرى المخصصة لأحداث كبرى شهدتها أيرلندا أو حتى الإمبراطورية البريطانية على امتداد تاريخها. عشّاق جويس أقاموا سلسلة احتفالات وندوات وقراءات استمرّت حتى نهاية آب (أغسطس)، تناولت الرواية وأدب جويس ومدينة دبلن الواقعية قياساً على مدينة دبلن الجويسية المتخيَّلة. ولقد أطلقوا على ذلك اليوم المشهود اسم Bloomsday، واختاروا لإحياء الذكرى تسمية تدمج إسم جويس بفعل الابتهاج والفرح: Re-Joyce.
وأذكر شخصياً أنني، في زيارتي الأولى لمدينة القاهرة، سألت أحد الأصدقاء (واخترته من نوع صبور قادر على تحمّل شطحات المزاج!) أن يأخذني في "سياحة محفوظية"، نسبة إلى الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ، تشمل حتماً قصر الشوق والسكرية وخان الخليلي وزقاق المدق والجمالية... وفي الإسكندرية سألت صديقاً سكندرياً أن يصطحبني إلى عطفة الأنفوشي، فبدا على وجهه استغراب لم يغب عنه بعض الخبث، حتى سارعت فأوضحت: أليست هي العطفة التي يأتي على ذكرها صابر سيّد سيّد الرحيمي، بطل رواية "الطريق"؟
وحين أقرأ عمل الصديق الشاعر والروائي الكردي السوري سليم بركات "السيرتان"، الذي يسرد حوليات الطفولة والصبا، فإنني لا أستعيد مشهدية مدينة القامشلي (مسقط رأسي) كما هي في تكويناتها الواقعية حصراً، ولا عشرات الأماكن التي عرفتها فعلياً صحبة سليم نفسه (كنّا زملاء دراسة أيضاً) كما كانت تبدو لنا عادية مألوفة طبيعية، فحسب. إنّ التقاطه البديع لخفايا أماكن مثل "البدن" وسينما شهرزاد ومطحنة مانوك، وأحياء وقرى وبلدات مثل "قدور بك" و"الهلالية" و"حلكو" و"عامودا"... يجعلني بالأحرى أعيش سيرورة مركبة تشبه حيازة المكان الواقعي ذاته من جهة أولى، وترقيته من جهة ثانية إلى مصافّ المقام الأسطوري الخارق للواقع، والعابر لأيّ تمثيل مادّي تصنيفي.
فهل يفاجئنا، ذات يوم قريب، بحث مثير ــ ورصين على الأرجح ــ يعلن العثور على رصاصة جوليان سوريل الأولى الطائشة، دفينة في عمود المقعد الخشبي الثالث إلى اليسار، في كنيسة بلدة فيريير؟