"أمواج سكندرية" مجلة ثقافية إلكترونية www.amwague.net، يصدرها فرع ثقافة الإسكندرية كما يقول التعريف، تمزج المادّة الجادة (كالبحث النقدي في الإبداع السردي عند المرأة السكندرية) بالمادة المنوّعة (الفنون والرياضة والأسرة)، وتلك الثقيلة (أثر القرآن في الأمن النفسي) بأخرى خفيفة (كما في المادة عن الشاعر الفكاهي المصري إبن سودون، صاحب البيت الشهير: عجبٌ عجبٌ هذا عجبُ / بقرة تمشي ولها ذنب).
وقد عثرت على الموقع عن طريق المصادفة، في سياق بحث عن الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كافافيس (1863ـ 1933)، حيث نشرت المجلة ملفاً مميّزاً بالفعل، احتوى على دراسات وترجمات شعرية وألبوم صور وتقريراً عن الشريط التسجيلي "بعد الساعة التاسعة" الذي أنجزه السينمائي السكندري الشاب عماد مبروك. والملفّ أعاد، في عنوانه، التذكير بواحد من أبرز الأسئلة الشائكة التي ظلّت تكتنف نتاج كافافيس حتى يومنا هذا: هل هو شاعر الإسكندرية؟
ومن الإنصاف أن أقتبس هنا روحية السجال التي أرادها التحرير من خلال طرح ذلك السؤال الشائك: "لا خلاف على القدرات الفنية الكبيرة التي امتلكتها موهبة كافافيس الشعرية الفذة. لكن الإسكندرية نفسها مدينة سحرية. مدينة ذات ألف وجه. لا توجد إسكندرية واحدة. توجد أكثر من إسكندرية. فإذا كانت رباعية [لورانس] داريل أو شعرية كافافيس قد عبّرت عن أحد وجوه المدينة، فهي لم تعرف الوجوه الأخرى العديدة. وعند هذه النقطة يثور الخلاف حول أهمية كلّ وجه من الوجوه، وأهمية كلّ إسكندرية من السكندريات العديدة الموجودة على نفس الأرض".
هذا كلام عادل في تقديري، حتى إذا كان المنطق العامّ فيه يسري على أية مدينة التقطها أيّ مبدع: ثمة في كلّ مدينة أكثر من وجه وصورة وقاع وسطح، بل ثمة من تجلياتها ما يكفي كلّ قلم وعدسة وريشة وبصر وبصيرة. وفي كتابه الممتاز "إسكندرية كافافي: دراسة في أسطورة متواصلة"، يثير الناقد الأمريكي إدموند كييلي طائفة معقدة ومتشابكة من الأسئلة التي تنبثق من، وتدور جوهرياً حول، ذلك السؤال الأكبر: أية إسكندرية تلك التي تسكن شعر كافافيس؟
هل هي إسكندرية ذلك المنفيّ الهيلليني القادم إليها من القسطنطينية، في قصيدة "المنفيّون" التي عُثر عليها عقب وفاة الشاعر، بعد ألف عام من أوج بهائها في عصور البطالمة، وقبل ألف عام من ولادة كافافيس في شارع شريف باشا، حين كانت الجالية اليونانية السكندرية تعيش عصرها الذهبي؟ أم هي "الإسكندرية التي ما تزال تسير على هواها إسكندرية" كما يقول المنفيّ ذاته، حين يميل إلى رفع المكان إلى مصافّ مدينة المخيّلة، والمدينة التي تستجيب أكثر للرمز الأعلى وللنمط الكوني؟ أم هي الإسكندرية التي لا يكمن سرّها في ما كانت أو ما أصبحت عليه في الماضي السحيق أو الوسيط أو الحديث، بل في أنها ــ لا كما تفعل أية مدينة أخرى حديثة حسب إدموند كييلي ــ "مخلوقة مدن شعرية نُحتت على صورتها، وتحاكيها ما أمكن، أو حتى ما يجب أن يكون، في الجوهر"؟
إنها، في كلّ حال، تلك الإسكندرية التي التقطها كافافيس في عشرات القصائد، ولكنه توغّل خصوصاً في عمق روحها الكونية حين كتب "الإله يخذل أنطونيو"، والتي اختار سعدي يوسف سطرها الأخير عنواناً للترجمات البديعة التي أنجزها من شعر كافافيس، وكان لها أثر حاسم فوري في ذائقة الشعر والشعرية العربية: وداعاً للإسكندرية التي تفقدها. أو في الرائعة الأشهر "المدينة"، في ترجمة سعدي أيضاً:
لن تجد بلاداً أخرى
لن تجد شاطئاً آخر.
هذه المدينة ستتبعك.
ستطوف في الشوارع ذاتها.
وتهرم في الجوار نفسه،
وتشيب في هذه المنازل نفسها.
سوف تنتهي دائماً إلى هذه المدينة.
فلا تأملن في فرار:
لا سفن لك
ولا سبيل.
ومثل ما خرّبتَ حياتك هنا
في هذه الزاوية الصغيرة،
فهي خراب أنّى حللتْ.
وهذه، لا ريب، المدينة التي قادت كافافيس إلى مجازات أخرى عن الساحل السوري، وأنطاكيا، وصيدا، وبيروت... أليس هذا بعض سرّ، وسحر، المدن الكونية التي ترحل بالمخيّلة إلى مطلق مديد من الاستعارة المفتوحة؟