يحلو لأهلنا في الجولان السوريّ المحتلّ أن يردّدوا هذين البيتين من النابغة الذبياني، عند المفاخرة بموقع المنطقة الأثير في الشعر العربي القديم:
بكى حارثُ الجولان من فَقدِ ربِّهِ | وحَورانُ منهُ موحشٌ متضائِلُ |
فآبَ مضلّوه بعينٍ جليّةٍ | وغُودر بالجولان حزمٌ ونائلُ |
وهم، بالطبع، على حقّ في اقتباس النابغة، وتحديداً هذه القصيدة البديعة التي ترثي أحد أمراء الغساسنة العرب، ويقول مطلعها: "دعاكَ الهوى واستجهلتكَ المنازل/ وكيف تَصابي المرء والشيب شامل"، وذلك رغم وجود العديد من الأبيات الأخرى الجميلة التي قالها في الجولان حسان بن ثابت وأبو تمام والفرزدق والراعي النميري وسواهم. هم على حقّ، بصفة خاصة، لأنّ النابغة يتحدّث عن حارث الجولان (إحدى القمم فيه)، وحوران (المنطقة الجارة)، وحزم ونائل (من قبائل العرب التي كانت تسكن الجولان)، فيمزج المكان بالزمان والتاريخ بالجغرافيا، ويشدّد تلقائياً على عروبة تلك الهضاب والبطاح والذرى.
ويندر أن تزور موقعاً جولانياً على الإنترنيت فلا يتصدّر النابغة أيّ استعراض لتاريخ الجولان، سواء بدأ العرض من التاريخ الحديث أو ارتدّ إلى العهود السحيقة، حين كانت المنطقة ميداناً تصارعت فيه قوى غازية مصرية وآشورية وفارسية وكلدانية وسلوقية ومقدونية ويونانية وسلوقية، كما يروي أيمن أبو جبل في موقع "الجولان" www.jawlan.org مثلاً. حتى الموقع الرسمي لمحافظة القنيطرة، حيث الصدر والصدارة لأقوال حافظ الأسد وبشار الأسد بالضرورة، لا يغيب عنه النابغة!
وخلال أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات شاء حسن طالعي أن أجوب الجولان طولاً وعرضاً، بحكم عملي مع مراقبي الهدنة ومفتّشي فصل القوّات التابعين للأمم المتحدة،. ولست أذكر أنني تحرّشت بجولانيّ واحد على سبيل الدعابة طبعاً حول إمكانية تفضيل أشعار أخرى في مديح الجولان غير بيتَي النابغة الذبياني، إلا وأبى إباء شديداً صارماً ومبدئياً: النابغة أوّلاً، ثمّ ننظر في الآخرين بعده! ثمة ما يشبه العلاقة الأيقونية مع تلك الكلمات، وثمة كذلك ما ينقلب إلى تعصّب طريف لطيف يتجاوز بكثير ما يفعله سحر البيان عادة!
أحد أبناء بلدة "نبع الفوّار"، حيث يقع المعسكر الدائم للكتيبة النمساوية، قال لي على مسمع من ضابط فنلندي مستعرب: والله لو وضعوا شكسبير في يميننا، وعمر الخيّام في يسارنا، لما قبلنا بديلاً عن النابغة! في مناوشة أخرى، جرت هذه المرّة في حضن ثلوج حرمون وعلى مبعدة أمتار من مرصد جبل الشيخ الشهير، سألت جولانياً من أبناء بلدة "بقعاثا" عن قصيدة سعيد عقل "شام يا ذا السيف"، وقوله "ثلج حرمون غذانا معاً/ شامخاً كالعزّ في القبب/ وحّدَ الدنيا غداً جبلٌ/ لاعبٌ بالريح والحقب": هل ثمة أية فرصة أن ينجح عقل في إسقاط النابغة عن عرشه؟ ابتسم صاحبي، وبدا كمَن يشفق عليّ حين قال: يا شيخ! لا سعيد عقل، ولا الأخطل الصغير، ولا بدوي الجبل، ولا حتى المتنبيّ ما غيره...
وذات مرّة ثالثة حضر النابغة حيث لا ينتظره المرء في الواقع، وكان للشاعر الجاهليّ ذلك الأثر الجمعي الفائق الذي يصعب أن يتخيّله المرء في أية سياقات مماثلة. وكانت قوات الفصل، بالتعاون مع الصليب الأحمر الدولي، قد اعتادت تنظيم طقس اجتماعي نصف شهري فريد تسمّيه "لقاء العائلات"، في محيط "مجدل شمس" المحتلة. وهذه البلدة واقعة على كتف واحدة من الهضاب الفاتنة التي تشكّل طبوغرافية الجولان المدهشة، وبيوتها تنسدل وفق منطق بصري حرّ لا علاقة له بالمنطق الهندسي، وإن كان يأخذ من هندسة المشهد الخام قسطاً عالياً من الجمال والإدهاش. وفي اليوم الموعود كان أبناء البلدة المحتلة يحتشدون على أطرافها السفلية في الوادي، يتحاورون عبر مكبرات الصوت اليدوية مع أهلهم وأصدقائهم المحتشدين على الهضبة الثانية المواجهة في الأرض السورية. وكانت الأخبار تختلط بالحكايا والأفراح بالأتراح والآمال بالآلام، فيتحوّل المشهد إلى أداء صوتي محض ومعقد لا يستطيع فرزه والتقاط تفاصيله سوى المعنيّ بالجملة المنطوقة على الجانبين.
... ثمّ حضر النابغة! أحد الجولانيين في الجانب السوري، لأسباب لم تتضح، أو حتى دون أسباب البتة، استدعى النابغة وألقى البيت الأوّل الشهير بتنغيم حماسيّ بارع، وكانت الواقعة المذهلة غير المنتظرة: توقفت الأصوات بغتة، كلّ الأصوات، وحلّت محلّها أهزوجة واحدة مشتركة انخرطت النساء في أدائها على الطريقة الدرزية المميّزة. الضابط الأرجنتيني الذي كان يقف بجانبي أخذه المشهد الصوتي البصري على حين غرّة، فسألني ذاهلاً: ماذا جرى؟ قلت له: لقد سمعوا بيتاً من الشعر! ماذا؟ سأل من جديد وهو يحملق في وجهي: هل هو من النشيد الوطني السوري؟ قلت له: بل هو بيت من الشعر يعود إلى 13 عقداً خلت!
وقبل أيام، في 12 الجاري الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لقرار الكنيست الإسرائيلي ضمّ الجولان المحتلّ، تذكرت ذهول الضابط الأرجنتيني حين قالت الأنباء إنّ حشداً من أبناء مجدل شمس احتشدوا في ساحة سلطان الأطرش، ورفعوا الأعلام السورية، وأنشدوا "حماة الديار"، النشيد الوطني للجمهورية العربية السورية. وأعترف، وليسامحني أهلنا الجولانيون، أنّ المناسبة جعلتني أعود لى شعراء آخرين... إضافة إلى النابغة الذبياني، بالطبع!