صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديالحدث الأبرز في مهرجان إدنبرة الدولي للكتاب، والذي اختُتم قبل أيام، كان حضور الكاتب والمسرحي والممثل الإيطالي الكبير داريو فو (نوبل الآداب، 1997)، في مناسبة صدور الترجمة الإنكليزية للرواية/السيرة الذاتية التي كان لا بدّ أن تحمل عنواناً كوميدياً طريفاً: "سنواتي السبع الأولى (إضافة إلى أخرى قليلة)"، ما دام مؤلفها يتربع دائماً على عرش التهريج المعاصر، في طول العالم وعرضه، بلا منازع عملياً. إنه، أيضاً وأساساً، سيّد الكوميديا الهادفة اللاذعة التي جلبت وتجلب عليه سخط الساسة ورجال الدين وأساطين المافيا والمال والأعمال.
وهذه اللوحات في السيرة الذاتية تعتمد سرداً استعادياً تسجيلياً وتخييلياً كثيفاً يذكّرنا بفرادة ـ دون أن يحيلنا أبداً إلى أسلوبية ـ أمثال مارسيل بروست في "البحث عن الزمن المفقود"، وآلان فورنييه في "مولن الكبير"، وإيتالو كالفينو في أقاصيص ماركوفالدو. وداريو فو ينجز هنا بالنثر القصصي ما سبق أن أطلّ عليه مراراً، على نحو خاطف انتقائي ربما، في أعماله المسرحية إجمالاً، وفي تلك الصيغة الكوميدية المبتكرة العجيبة التي اختار أن تأخذها محاضرته ساعة استلام جائزة نوبل.

وكما هو معروف، تقضي التقاليد العريقة السائدة في الأكاديمية السويدية أن يقوم الحائز على جائزة نوبل (في أي ميدان، وليس في الآداب وحدها) بإلقاء ما يسمّى «محاضرة نوبل»، وفيها يُنتظر من الفائز أن يقدّم خلاصة تجربته الشخصية في حقل نشاطه الإبداعي أو العلمي أو العملي الذي استحقّ عليه الجائزة. كما جرت العادة أن تحتوي المحاضرة على «رؤيا» فلسفية من نوع ما، تغطّي واقع وآفاق ذلك الحقل من النشاط وتدخل في أرشيف الأكاديمية الرسمي كوثيقة أساسية. آنذاك، وبدل المحاضرة الموعودة، وصل داريو فو إلى ستوكهولم متأبطاً 25 رسماً كاريكاتورياً، أنجزها بنفسه على طريقة الرسوم المتحركة، واختصر فيها مراحل حياته الفنية، ومواقفه الأخلاقية والفلسفية، والمحطات التي مرّ بها وهو يشيّد أركان تجربته الفذّة كمسرحي مهرّج ساخر من «بَلاط» المؤسسة على اختلاف أنماطها. ثمّ وزّع تلك الرسومات على أعضاء الأكاديمية بوصفها... محاضرة نوبل للآداب لعام 1997!
وفي حوار مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، كان داريو فو قد كرّر اعتزازه بأن يحمل لقب «ملك المهرجين» والمشعوذين والمحتالين، الذين سخروا من البلاط الملكي في العصور الوسطى وثأروا للعامة والفقراء، وردّوا لهم كرامتهم. وقال إنه في ذلك يستلهم تراث أستاذه المهرّج الإيطالي الكبير روزانتي، «الذي لا يرقى إلى مستواه الكوميدي سوى أناس من أمثال موليير وشكسبير»، والذي تعلّم منه طرائق «تدمير وإعادة تعمير اللغة، واستخدام الكلمات التي لا توجد في أي قاموس آخر سوى ذاك الذي يبتدعه الشارع المقهور». في ما بعد سوف يهتدي النقد المسرحيّ إلى المصطلح الذهبيّ الذي يليق بهذا الفنّان الكبير: سيّد "التهريج الملحمي"!

وإذ كان فو يستحقّ جائزة نوبل بكلّ ما ينطوي عليه هذا الإستحقاق من معانٍ، فإن صياغة حيثيات القرار لم تكن أقلّ انطواء على ما يدهش، بل ويدهش كثيراً في الواقع. فالأكاديمية اعتبرت أنّ فو «اقتفى خطى مهرّجي الملوك في القرون الوسطى، وألهب السلطة بسوط النقد، مسترداً بذلك كرامة المهانين والضعفاء». وتابع البيان يقول: «إذا كان من شخص يستحقّ صفة المهرّج بالمعنى الحقيقي لهذا التعبير، فإنه داريو فو. وبمزيج من الضحك والرصانة فتح أعيننا على مفاسد ومظالم المجتمع، وكذلك على المنظور التاريخي العريض الذي يمكن أن تُوضع فيه. وأعمال فو المتعددة الأوجه تبرهن على أنه فنّان ساخر، ولكنه بالغ الجدّية في الآن ذاته. واستقلال وصفاء رؤيته دفعاه إلى مجازفات خطيرة، عانى مباشرة من عواقبها، ولكنها في الوقت ذاته كفلت له استجابات هائلة في أوساط عريضة مختلفة».

تلك كانت قراءة عادلة منصفة، ولكنها كانت لا ريب استثنائية تماماً إذ تصدر ـ بمفرداتها الساخنة تلك ـ عن أكاديمية عُرف عنها التحفّظ والجمود والمزاج اليمينيّ إجمالاً. هذا، في نهاية الأمر، هو داريو فو! المسرحيّ الذي لم تجد المافيا من وسيلة ناجعة للضغط عليه سوى اختطاف زوجته وشريكته في العمل المسرحي فرانكا رامي، وتعذيبها جسدياً. وهو الذي أنزلته الشرطة الإيطالية من خشبة المسرح أثناء العرض، لكي تقتاده إلى السجن بتهمة... الخروج عن النصّ المسرحي!

وهذا هو المسرحي الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الإيطالي وفي لجان يسارية متعددة للدفاع عن السجناء السياسيين، والذي سخر بشدّة من المؤسسة البابوية، ومن الأحزاب السياسية الإيطالية بيمينها ويسارها، ومن أوروبا الإمبريالية، ومن الولايات المتحدة (التي ظلّ ممنوعاً من دخول أراضيها طيلة عقود). وأخيراً، هذا هو داريو فو المتعاطف، في الحياة كما على خشبة المسرح، مع المقاومة الفلسطينية التي كانت في مطلع السبعينات بمثابة التجسيد الأقصى لـ «الإرهاب المطلق» في أنظار أوروبا والغرب إجمالاً، حكومات وشعوباً ربما!
وليس بلا أسباب تدخل مباشرة في صميم هذا الموقع الفنّي والأخلاقي والسياسي أنه استُقبل بترحاب فائق في إدنبره، وأنّ روايته/ سيرته الجديدة تعيد تذكيرنا بمسؤوليات كبرى تقع على عاتق المبدع وتكاد تنقرض، على نحو مجّاني فاجع، عندنا في العالم العربي خصوصاً.