صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديليس من عادة صحيفة الـ "غارديان" البريطانية أن تكرّس إحدى افتتاحياتها الرئيسية لمناقشة قضية أدبية، أو شعرية على وجه التحديد. لكنها فعلت قبل أيام، وتحت عنوان لافت حقاً: "في مديح شعراء يقرأون أشعارهم"، تعليقاً على الموقع الإلكتروني الجديد www.poetryarchive.org، الذي أطلقه مؤخراً الشاعر البريطاني أندرو موشن. وجاء في الإفتتاحية: "يُقال أحياناً إنّ الشعر يُقرأ ولا يُشترى، وهو لا ريب ليس وسيلة واضحة لكسب الملايين. للقصائد، مع ذلك، عمر طويل لا تتمتع به عادة كتابات أخرى أكثر تكسباً. ولا ريب أنّ هذا الأرشيف الدائم سوف يجعل تراثنا في المتناول أكثر".

بالطبع، ثمة عشرات، أو ربما مئات، المواقع المكرّسة للشعر الانغلو ـ سكسوني، لكنّ الجديد في الموقع الذي يقترحه موشن ينهض جوهرياً على الإصغاء للشاعر يقرأ قصيدته بصوته، الأمر الذي لا يعني البتة أيّ انحياز جمالي للأذن ضدّ العين، أو للصوت المسموع ضدّ الصوت المقروء. ولا يعني، أيضاً، وبالقدر ذاته، أنّ موشن لا يحتفي بالأذن (إذْ يذكّرنا، في بيان أسباب ولادة الموقع، بالعبارة الشهيرة للشاعر الأمريكي روبرت فروست: "الأذن هي القارئ الأفضل")، وبالفتنة الخاصة التي يضيفها بعض الشعراء على قصائدهم حين يقرأونها بأنفسهم. وهذا بُعْد آخر مختلف عن فنّ الإلقاء، حين يكون في مقدور ممثّل مسرحي أن يلقي قصيدة على نحو دراميّ فائق، بأداء صوتيّ بالغ الثراء والإيحاء، ليس في وسع الشاعر نفسه، وليس مطلوباً منه، أن يجاريه أو يتبارى فيه.

والمرء في هذا الصدد يذكّر بالدور الحيوي الذي تلعبه بعض المواقع الإلكترونية العربية، وفي طليعتها "جهة الشعر" بالطبع، ذلك الموقع الرائد الذي أطلقه الصديق الشاعر البحريني قاسم حدّاد قبل سنوات، في مرحلة مبكرة من دخول الإنترنيت إلى دائرة الاهتمام العامة في العالم العربي. ورغم أنّ مكتبة الموقع ما تزال متواضعة في قسم "الشعراء" بأصواتهم"، إلا أنّ التحديثات النوعية التي يشهدها الموقع بصفة دائمة، والتي تلتقي بالضرورة مع القفزات المذهلة في تكنولوجيا نقل وتناقل الصوت والصورة على الإنترنيت، تَعِد بالمزيد في هذا الجانب السمعي من تربية الذائقة الشعرية. كذلك يلعب موقع "الورّاق"، والمجمّع الثقافي في أبو ظبي عموماً، دوراً حيوياً مماثلاً في ما يخصّ الشعر العربي القديم، والمعلقات بصفة خاصة، فضلاً عن بعض الشعر الحديث أيضاً.

موقع أندرو موشن بدأ متواضعاً، وهو يحتوي حتى تاريخه على أقلّ من مئة شاعرة وشاعر، بينهم أمثال جون أشبري، سيمون أرميتاج، جون بتجمان، ألفريد تنيسون، ألن غنسبرغ، شيموس هيني، لانغستون هيوز، غالوي كينيل، روديارد كبلنغ، لويس مكنيس، توم بولين، هارولد بنتر، إدريان ريش، وليام بتلر ييتس. ويمكن للزائر أن يتصفّح، ثمّ يسمع، القصائد مصنّفة حسب الشاعر، أو عنوان القصيدة، أو موضوعها (أكثر من 100 موضوع)، أو شكلها (25 شكلاً مختلفاً)؛ كما يتوفر قسم خاصّ بالأطفال يتضمن عدداً من القصائد التي تتوجّه إلى الطفل على هذا النحو أو ذاك، وفقرة تعليمية على شكل سؤال وجواب إلى شاعر محدد، حول قضايا تخصّ شعره في الشكل والمحتوى.

صاحب الموقع يشغل، كما هو معروف، وظيفة "أمير الشعراء" أو "شاعر البلاط" Poet Laureate، الرسمية أو شبه الرسمية لأنّ تعيينه يصدر بقرار ملكي ضمن تقليد يعود إلى ريشارد قلب الأسد في العصور الوسطى. لكنّ التعيين هذا لا يجعل شاغل الوظيفة شاعر بلاط بمعنى التكسّب المادّي ومديح الملوك، بل حدث مراراً أنّ أمير الشعراء كان في واد، والملوك أو الحكومات في وادٍ آخر. وموشن نفسه وقف ضدّ اشتراك بريطانيا في غزو العراق، على سبيل المثال الأحدث، وكتب في هذا السبيل قصيدة هجائية بعنوان "سبب الحرب"، لاذعة صاعقة رغم أنها تتألف من أربعة أبيات و30 كلمة فقط، أتبعها بعد أسابيع معدودات بقصيدة ثانية عنوانها "تغيير نظام".

لكنّ ما يميّز موشن كأمير شعراء بريطاني هو أنه يجهد لردّ الشعر إلى الجمهور، أو بالأحرى إبراز جوهره الجمهوريّ لا الملكي، وتحويله إلى نشاط شعبي احتفالي، ومتعة متجددة، وحاجة جمالية وإنسانية. وفي سياق هذا الحماس الغامر لتوطيد موقع الشعر في الذائقة الشعبية، أخذ موشن يُكثر من زيارة المدارس والمعاهد والجامعات، وضغط كثيراً لكي تكون مناهج تدريس الشعر أكثر التفاتاً إلى ترويج القصيدة وتعميمها جماهيرياً، بدل الإكتفاء بدراستها وتحليلها وتحنيطها. وهو لا يتردد في القول إنّ وظيفة "أمير الشعراء" هذه تعني أوّل ما تعني انخراط شاغلها في "مهمّة رسولية" لإقناع الناس بأنّ الشعر كان، وينبغي أن يظلّ ويُرى، جزءاً لا يتجزأ من مفردات الحياة اليومية.

ولهذا فإنّ افتتاحية الـ "غارديان" لا تخرج كثيراً عن السياسة، سياسة الشعر ربما، حين تشدّد على جمهور الشعر وجماهيرية الشعر بمعنى أعرض يخصّ الاجتماع الإنساني الحيّ، حين تقع على عاتق القصيدة سلسلة وظائف بالغة الحساسية في شحذ، وأحياناً تشكيل، الوجدان الجَمْعي على نحو لا يمكن لأيّ بيان سياسي أن يرقى إليه.