صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديأقرّ، على الفور، أنني لم أشاهد أياً من حلقات المسلسل السوري الجديد الذي يتناول حياة الشاعر الكبير الراحل نزار قباني (1923 ـ 1998)، ليس إعراضاً عن المسلسل ذاته أو القناة التي تعرضه (حصراً، كما فهمنا!)، بل لأنني لا أشاهد الفضائيات إجمالاً. ومع ذلك، وبعد هذا الإقرار، لا أجد غضاضة في القول إنني ـ واعتماداً على غريزة مسلحة بمنطق بسيط أظنه صائباً في آن ـ أميل إلى القول إنّ العمل لن ينصف الشاعر، ولعله سيسيء إليه أيضاً.
أمّا مفردات المنطق الذي أستند إليه شخصياً، فهي تتوزّع في مجموعتين:
الأوّلى هي أنّ الظروف الرقابية، وبالتالي السياسية ـ الثقافية والأمنية ـ الثقافية السائدة اليوم في سورية، بلد التنفيذ ومقرّ الشركة المنتجة، لا يمكن أن تسمح بمستوى لائق في إنصاف الراحل سياسياً بادىء ذي بدء، ثمّ إنسانياً وإبداعياً بعدئذ. ومعروف للجميع أنّ الراحل لم يكن على وفاق بيّن، لأسباب شتى ليس المقام مناسباً لاستعراضها هنا، مع نظام البعث الحاكم في سورية منذ 1963، وأنّ حقبة المصالحة التي بدأت في عهد حافظ الأسد، وتضمنت ذلك الظهور الشهير للراحل على مدرج جامعة دمشق مطلع السبعينيات، ثمّ استقبال الأسد له في مكتبه  سنة 1974، لم تثمر عملياً عن ردّ اعتبار كريم للشاعر في مؤسسات النظام الثقافية، وظلّ الجفاء هو السائد.
وهذا لا يعني أنّ الراحل كان على الجفاء ذاته مع الأسد نفسه، أو هذا على الأقلّ ما تقودنا إليه بضعة نصوص (نثرية، في صيغة رسائل غالباً) كتبها قباني في مديح الأسد شخصياً، كما في رسالته إليه من بيروت أواسط السبعينيات، بعد الأزمة الصحية التي استوجبت نقله إلى مشفى الجامعة الأمريكية واهتمام الأسد به شخصياً، حين كتب: "إن الرئيس حافظ الأسد هو صديق الشجرة والغيمة وسنبلة القمح والحقول والأطفال والغابات، والجداول والعصافير والشعراء وفيروز وعاصي الرحباني. ولو أنّ عصفوراً واحداً سقط أو غمامة واحدة بكت أو سنبلة قمح واحدة انكسرت لحمل إليها حافظ الأسد وعاء المهل ووقف فوق رأسها حتى تشفى". وتجدر الإشارة إلى أنّ الصديق الشاعر المصري أحمد الشهاوي كشف، قبل نحو عام، سلسلة من الوثائق اللافتة حول علاقة الراحل بكلّ من جمال عبد الناصر وحافظ الأسد، نشرتها آنذاك وكالة الأهرام للصحافة.
المجموعة الثانية من الأسباب هي أنّ المسلسل مقدّر له، بالغاية التجارية الصرفة أوّلاً، أن يدخل إلى حجرة المعيشة العائلية في مختلف البلدان العربية، وبينها بالطبع تلك التي تتصف معظم شرائحها بنزعة متديّنة محافظة، لا تقرّ ذلك الطراز الخاصّ من القَيَم التحرّرية التي حضت عليها أشعار الراحل، خصوصاً في جوانب الحبّ والغرام والهوى والجوى والغزل والأشواق. فكيف يمكن للمسلسل أن يدخل البيوت العربية، ويحافظ في الآن ذاته على الحدّ الأدنى من شخصية قباني "شاعر المرأة"، أو تحديداً ذلك المزيج الخاصّ من الشاعر الليبرالي الذي سعى إلى تحرير المرأة، والشاعر ذاته في إهاب الرجعي الذي أراد سجنها في قارورة عطر وجورب حرير؟
هل سيجرؤ المسلسل على تذكيرنا، وهذا حقّ مطلق للراحل، بنزار قباني الحليف التقدمي للمرأة، الذي يقول منذ العام 1944:

"يا لصوص اللحم.. يا تجّاره
هكذا لحم السبايا يُؤكلُ
منذ أن كان على الأرض الهوى
أنتم الذئب ونحن الحملُ
نحن آلات هوى مجهدة
تفعل الحبّ ولا تنفعل"؟

هل سنرى قباني ذاته حليفاً، هذه المرّة، للرجل الرجعي الشهواني، المتعجرف، البهيميّ في علاقته بجسد المرأة:

"عبثاً جهودكِ.. بي الغريزة مطفأة
إني شبعتكِ جيفة متقيئة
إني قرفتكِ ناهداً متدلياً
وقرفتُ تلك الحلمة المهترئة"؟

أم الشهواني، المَرِح، الجذِل، العاشق، الطَرِب:

"منضمّة، مزقزقة
مبلولة كالورقة
سبحانه من شقّها
كما تُشقّ الفستقة
نافورة صادحة
وفكرة محلّقة"؟

وقبل هذا وذاك، كيف سيتجاسر أهل المسلسل على الدنوّ من شخصية  الشاعر في إهاب ناقد اجتماعي راديكالي، يقوّض في العمق ويهدم ابتداءً من الركائز، كما في قصيدته الديناميتية الأشهر "خبز وحشيش وقمر"، حين يقول:

"ما الذي عند السماء
لكسالى ضعفاء
يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر
ويهزّون قبور الأولياء
علّها ترزقهم رزّاً وأطفالاً، قبور الأولياء
ويمدّون السجاجيد الأنيقات الطُرَر
يتسلون بأفيون نسميه قدر
وقضاء/
في بلادي.. في بلاد البسطاء"؟

وأخيراً، كيف يمكن للمسلسل أن يدخل غَرفَ المعيشة في البلدان العربية الخليجية، دون أن يطمس تماماً جانباً أساسياً في طبائع الشاعر الإحتجاجية، أي سخطه الشديد على النفط وأهل النفط؟ هل نزار قباني المسلسل، يمكن أن يكون نفس نزار قباني صاحب القصيدة الشهيرة "الحبّ والبترول"، حيث يقول:

"متى تفهمْ؟
بأنّكَ لن تخدّرني.. بجاهكَ أو إماراتكْ
ولنْ تتملّكَ الدنيا.. بنفطكَ وامتيازاتكْ
وبالبترولِ يعبقُ من عباءاتكْ
وبالعرباتِ تطرحُها على قدميْ عشيقاتكْ
بلا عددٍ.. فأينَ ظهورُ ناقاتكْ
وأينَ الوشمُ فوقَ يديكَ.. أينَ ثقوبُ خيماتكْ
أيا متشقّقَ القدمينِ.. يا عبدَ انفعالاتكْ
ويا مَن صارتِ الزوجاتُ بعضاً من هواياتكْ
تكدّسهنَّ بالعشراتِ فوقَ فراشِ لذّاتكْ
تحنّطهنَّ كالحشراتِ في جدرانِ صالاتكْ
متى تفهمْ؟"...؟

وهكذا، في نهاية المطاف، أيّ نزار قباني سوف يسلسلون؟