صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

إذا صحّ ما تردد من أنّ الأكاديمية السويدية ناقشت، علي أيّ نحو جادّ وترجيحي، احتمال منح جائزة نوبل للآداب إلي الروائي التركي أورهان باموك، أي أنه كان علي لائحة المرشحين الصغرى، فإنّ الأمر فضيحة كبري لتوّه، أي لمجرّد إيصال الرجل إلي هذا المستوي في التنافس. كأنهم، في التمثيل العربي للمسألة، ناقشوا احتمال منح الجائزة لأيّ روائي إشكالي، سياسياً وثقافياً وليس أدبياً وجمالياً، قبل مناقشة (وأقول فقط: مناقشة، وليس حتمية) احتمال أن يكون نجيب محفوظ هو الأوّل الأَولي بالجائزة.
ذلك لأنّ باموك، وبصرف النظر عن السوية الفنية لأعماله، كان علي الأرجح سيحظي بالجائزة لاعتبارات لا تبدأ أوّلاً من مكانة منجزه الروائي في المشهد الأدبي التركي الحديث والمعاصر، بل للأسباب التي راجت علي نطاق واسع في الصحافة الغربية: إشكالية ضمّ تركيا إلي الإتحاد الأوروبي، قضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير في تركيا، ثمّ المشكلات القضائية الراهنة التي يعاني منها باموك نفسه بسبب إقراره علانية أنّ الأتراك ارتكبوا مجازر ضدّ الأرمن. وبالطبع، غنيّ عن القول إنّ المرء يصفق بحرارة لمواقف الرجل هذه، وفي ما يخصّ المجازر ضدّ الأكراد أيضاً، وليس الأرمن فقط. غير أنّ التصفيق إياه لا يكفي ـ من حيث المبدأ، إذْ حدث مراراً أنّ اعتبارات غير أدبية كانت كافية ـ لمنح نوبل الأدب.
والحال أنّ القضايا الكبرى في أدب باموك ـ وهي بالفعل هكذا: قضايا كبري، ثقافية وتاريخية وسياسية ـ تتناول انشطار الهوية التركية الحديثة بين شرق وغرب وإسلام وعلمانية وفقر وغني وقِدَم وحداثة، فضلاً عن أثقال التركة العثمانية في هذه الثنائيات جمعاء. ولهذا لم يكن مدهشاً، رغم أنّ الواقعة ينبغي أن تدهش، أنّ المفوّض الأوروبي لشؤون التوسيع أوللي ريهن اجتمع مع باموك أثناء زيارة رسمية لتركيا، للبحث في... مفاوضات ضمّ تركيا إلي الإتحاد الأوروبي! كان ذلك الاجتماع يوجّه رسالة سياسية بالطبع، وسوي تغليب هذا الجانب علي الجوانب الثقافية أو الأدبية، فإنّ الواقعة كانت كفيلة بأن تثلج صدور الأدباء الأتراك، بلا استثناء.
أعود، بعد هذا، إلي مسألة الأديب الأَولى بالجائزة، دون منازع في يقيني، وأقصد ياشار كمال. الاعتبارات الأدبية التي تجعله المرشح الأفضل علي صعيد الأدب التركي كثيرة ومتنوّعة في آن، أبرزها بالطبع أنه أديب محليّ وكونيّ في آن معاً، علي شاكلة ذلك المزيج المدهش الذي اتسم به أدب الأمريكي وليام فوكنر. ثمة بقعة جغرافية ـ بشرية منتقاة لأسباب ليست مصطنعة أبداً، تحمل سمات إنسانية وبيئية معقدة، تنطوي في الباطن كما في السطح علي أساطير وشعائر وحكايات محلية مستقلة بذاتها. لكنها أيضاً قادرة علي صناعة رموز كبري كونية، تبدأ من تمثيل القرية وتنتقل إلي تمثيل الأمّة والثقافة وتنتهي إلي تمثيل قِيَم إنسانية عليا تشترك فيها كلّ شعوب وحضارات. بقعة جيو ـ بشرية كهذه كانت مقاطعة اليوكناباتاوفا عند فوكنر، وعند كمال كانت وما تزال سهول منطقة شوكروفا في جنوب الأناضول.
ومن الطبيعي أنّ التقاط تفاصيل النسيج الاجتماعي والرمزي والأسطوري والفولكلوري لمنطقة من هذا النوع، تضمّ الأكراد والتركمان والأرمن واليزيديين والعرب والشركس والأتراك أنفسهم، يتطلّب مقاربة ملحمية شاملة لعلاقة البشر بالمكان الرعوي والحكاية الواقعية. ولهذا فقد توجّب أن تأخذ روايات ياشار كمال (قرابة 63 في الإجمال) صيغة مطوّلات متسلسلة في ثلاثيات ورُباعيات، ويواصل البطل الروائي الواحد (ميميد، سلمان، صالح، ...) رحلة طويلة (شبه عوليسية، ولكنها برّية) في القرى والبلدات والسهول والجبال؛ وأن يستعيد تواريخ الماضي مثل وقائع الحاضر، دون أن يغيب عنه أفق المستقبل؛ وأن ينطق بلغات عدّة كردية صورانية تارة، وتركية وتركمانية وعربية وأرمنية طوراً.
وياشار كمال أديب كردي ـ تركي، ولهذا فإنّ منحه جائزة نوبل سوف يكرّم أدب الكرد أوّلاً، وأدب تركيا ثانياً. وفي نظري أنّ الثقافة الكردية، خصوصاً في هذا الطور من استفاقة شعوب العالم علي ما حاق بالكرد من ويلات ومظالم من جهة، وعراقة ما قدّمه الكرد من إسهامات ثقافية أصيلة في اللغات التي استضافتهم (المرء يفكّر، علي الفور، بأدوار الشاعر والروائي الكردي ـ السوري سليم بركات، ليس في إغناء الأدب العربي وحده، بل في الارتقاء باللغة العربية ذاتها، وصياغة بيان عربي رفيع بديع)، من جهة ثانية.
نوبل كردية، في عبارة أوضح وأكثر إنصافاً!
وما المانع، في نهاية المطاف؟ بل الأحرى السؤال: ما الذي منع حتى الآن؟
في ما يخصّ الأدب ذاته، لا يختلف اثنان علي أنّ ياشار كمال أَولي بالجائزة من أورهان باموك، بل لا مجال للمقارنة بين الإثنين في تقديــــري. وفي ما يخصّ أخلاقيـــات الأديب، هـــل تعرّض باموك إلي مشكـــلات قانونية تفـــوق ما عاناه ياشـــار كمال علي يد السلطات التركية، عسكرية ومدنية علي الســــواء؟ وهل صحــــيح، كما يتفاخر بامـــوك أنّ أحداً قبــــله لم يتجاسر علي الإشـــارة إلي مذابح الأرمن والأكراد، أم أنّ كمال سبقه إلي موقــــف أكثر شجاعة منذ سنوات، ودفع الثمن؟ وإذا صحّت الأقاويل، كيف حدث أنّ الأكاديمية السويدية وضعت باموك علي لائحة المرشحين الصغرى، قافزة بالضرورة فوق قامة شامخة... شامخة؟ وهل يصحّ القول إنّ انتماء كمال الكردي هو، وحده، الاعتبار الذي جعل قفزة كهذه ممكنة؟

القدس العربي
2005/10/17