***
ـ الرواد صنعوا تاريخاً، وإنجاز الذين أتوا بعدهم أكثر أهمية.
ـ لا أنتمي إلى الأماكن، وعشت في حنين إليها.
ـ الكتابة مهنة عاقة وجنونية وقاتلة، وهي مثل الحب بلا أخلاق.
ـ بعد الحرب خرجنا من الفكرة اللبنانية إلى قاع الواقع.
ـ لست بودليريا، ولا أنتمي إلى الشعرية الفرنسية.
ـ النص أكبر من ضعف صاحبه وهشاشته.
ـ أبحث دائما عن بداية، وأخاف المنافسة.
***
في كل مرة ألتقي عباس بيضون أقول لنفسي أن هناك ما يحاول إخفاءه وراء القلق الظاهر في جلسته. نوع من التوقع لشيء يأتي من الخبرة أو تمارين التعّود الكامنة في جده وهزله. قوة المتمكن من المحو والعبث بالأشياء وهو يحاول ترتيبها.
ولكن ثمة ما يمكن أن يشكل تجربة ثقافية تقترب من تمامها في شخصية عباس بيضون، الشاعر والناقد، لا فيما تركته كتاباته من أثر وحسب، بل في حضوره في حياة بيروت الثقافية. أنت لا تستطيع التعرف على ملامح مدينة عابرة محليتها دون أن تعرف بيضون المتردد بين كل المواقع، شأنه شأن الكثير من المثقفين اللبنانيين. خصوصية تميز إنتسابه، وعمومية تلغيه دون تردد، و هذا هو سر أناس المدن التي تتجاوز الكثير من ضيق الأفق المحلي.
ومع إن بيروت تقف باستمرار على حافة الصراعات، غير أن مثقفها يسعى إلى فردانية لايكف عن صنعها وإعادة تشكيلها في كل الأوقات . المثقفون اللبنانيون وبينهم عباس بيضون، يجدون سلامهم في الكلمات التي يتصالحون ويتخاصمون عبرها مع ماضيهم وحاضرهم، ولكنهم ربما أكثر من غيرهم من العرب، حساسون إزاء فكرة الثبات والتقليد، فهم حداثيون بحكم فرانكوفونية المكان، وغير هيابين من تخطي الأصول والمواضعات.
في التفصيل الصغير لسلوك عباس، في إيماء تذمره الذي يعلنه كي يبدأ الكلام، وحركة كتفيه، وإغماضة عينيه الصغيرتين حين يصرف ذهنه عن حوار لايستهويه، بفيض كلامه الذي يوارب فيه ويمرق بين الحافات، تظهر قدراته على توليد الأفكار وتقليبها. متعته التي تذّكر بخطيب منبر أو معلّم يتحرك على إيقاعات صوته. يكرر المطالع كي يمنعك من أن تشط بعيداً أو أن تقطع عليه فكرته. فالفكرة تأخذه إلى مديات لايعرفها، يتدحرج معها كمن ينزل مرتفعا عليه ألاّ يقف في منتصفه كي لايسقط بفراغ القعر.
لعل معابر حديثه، توحي وكأنها تبدأ بالشعر وبما هو شخصي، ولكن عباس بيضون الذي أضاف إلى التجربة الشعرية الحديثة الكثير، هو ناثر لايبارى، نثره يجعل فن العمود الأدبي يكتسي أهمية تفوق الكثير من المدونات التي تمر في قراءاتنا النص العربي. وأحسب أنه بين قلة من الكتّاب لا يحتاج الكثير من الوقت كي يسجل فكرته، فحديثه يشبه كتاباته على نحو يوحي بأنه يعثر على ضالته في اللحظة التي يشرع فيها بالتفكير.
بدأت معه جلسة حوار عادية، وانتهيت إلى مسلسل من التسجيلات على مجموعة أشرطة. ربما أحملها معي عن بيروت ذكرى مدينة أقمت فيها، وربما تقيم معي ذاكرة لما قبل تلك اللقاءات. فعباس بيضون يعرفه العراقيون كواحد منهم، ويبدو كما لو أنه أقرب المثقفين العرب أليهم، لا لكونه كتب في الشأن العراقي فقط، بل لأنه هكذا كان يبدو على نحو ما، قريبا من عدد كبير منهم، مثل غالب هلسا أو عبد الرحمن منيف أو جبرا إبراهيم جبرا. كأنه أقام ببغداد وهو الذي لم يذهب هناك، بل ذهبت أمه وقالت له هذا. وعندما كان يكرر أمامي حديثه عن أمه التي يحبها رغم ما أورثته من ملامح لاتعجبه، كنت أسكت كي أجاريه بفجيعة جمال أبيه المفتقد. أتخيل أنه يحكي عن لبنانيته، وهي تكسر الحروف وتخففها، وعراقيتي التي علي أن أخفي منها حروف تصويتها كي يقبلها ويفهمها. وحتى لا أشعر بالغربة في الجلسات، كنت أنسى بعض أسئلتي، ولم أستطع مناكدته إلاّ في القليل من المواقع. ثمة تخالف في قانون التواصل بيننا، يجعله قريبا مني كلما ابتعد عن مرافعة تصور ذاته التي تسكنها قراءاته. يطل فوكو برأسه في الكثير من مفاهيمه عن القول وظلاله، ورولان بارت وألتوسير يقيمان في تصوراته عن النقد، ولكنه سهل العبور إلى مواقعه هو، فرادة تَمثّله الأفكار وإستنباتها وتطوير وظائفها لتتحول إلى حيازة شخصية وحكي يومي، وهذا ما سحرني في أحاديثه.
كان يبدو وكأنه يعاني من إستطالة زمن الريادة الشعرية، وهذا ما يظهر في أحاديث الكثير من شعراء جيله. تعبهم وكدهم لم يحققا تلك النجاحات الصاعقة لجيل سبقهم بحكم الصدفة أو بطفرة وراثية. وأعرف أن ما يؤرقه الريادة اللبنانية على وجه التحديد. ولكنه لا يهمل من دخل معهم في منافسة دامت عقودا من عمر الزمن الشعري، ولا أولئك الأبناء الذين ولدوا على غفلة من جيله.
يستطيع كشف أسرار صنعته، بعد أن تمكّن منها، وكلما تقدم به العمر أصبح قويا على التصريح بعيوبه الشخصية.
دلني على المواقع التي بدأ فيها قصائده، فشعره تفصيل في سيرة حياته، أو أنني أكتشف هذا قبل أن أقابله. وعلى عكس ما كنت أرى فيه بعض إبهام متعمد، وجدت خرائطه أمامي تبدأ من الهجرة والولادة والعمات العوانس، وتنتهي بعملية القلب المفتوح. مرضه العصبي، وقصة حبه التي سجلها في رواية سيطبعها على رغم رفض بطلتها. نوع من الخيانة المتأخرة، وكأنها تتحدث عن الحب بغير لغته. هو تكلم عن هذا الالتباس في العلاقة بين النص وحبيبته، أو بينه وبين تصوره شعريا عن الحب. ربما تشبه علاقته مع الضاحية الجنوبية(أمهاتنا القبيحات) كما كتب مرة. جماليات القسوة، هكذا ترآى لي وأنا أتخيل النص الذي سأكتبه عن روايته المقبلة.
تحدثنا عن "السفير"التي يشتغل فيها، مكانه الذي يكاد يشبه مضيفا. تنقر نقرتين وتدخل، وربما تجد مجلسا تدار فيه كؤوس الشاي. بقايا المكان الصحافي الذي أفل اليوم بعد أن اخترعت كابينات العزل الحديثة.
كنت أفتش في عباس عن صورة القصيدة وهي تخطو في حياة صاحبها، ليقولها وتقوله، لتتوهمه ويتوهمها، مثل تضاريس مدينة غامضة، يدخلها المرء غاضبا كي يتخلص من خوفه. كما هي حال قصيدته الأشهر ( صور) أو حكاية الزمن المنسّل من عمرنا القصير كما (في الوقت بجرعات كبيرة) أو قصة سجنه الإسرائيلي كما في (مدافن زجاجية)، أو افتتانه بعم له جميل الطلعة، هاجر قبل أن يولد (خنصر العائلة) أو أماكنه التي تغافل عنها، وأمعن تنكرا لوجودها في حياته. كنت أحاول بتعثر، أن أتلمس تراث ما ظننته يوما شيعية عباس، أو بقايا كربلائياته. خاصته التي تجعل الكلام على مقربة من المروق والهرطقة.
أين يلقط الإشارات من إحداثيات حياته؟ وكيف يُبطل الجمال وترف الرومانس وأناقته بألفاظ القبح وتصويتات التبعثر؟. وهل هو وريث مدرسة بودلير في نقض الجمال، وتحطيم نموذجه. كيف يؤسلب الصورة في القصيدة، ويدع لها كمال الوضوح في الكثير من نثره؟.
هذا وسواه كان موضوع حوارنا.
كنت أتحدث معه قبل أول لقاء عن مقطع من شعره يتكلم عن قوم هبطوا من مكان ما وقصدوا "صور" ، وكما تخيلت قال إنهم أهله الذين قدموا من بنت جبيل وسكنوا قرية اسمها "شحور "، بحكم وظيفة والده، ثم انتقلوا منها إلى " صور" للسبب ذاته، فهو إبن مدّرس وكاتب سبق أن عرفه قراء مجلة (العرفان) التي يجدها المرء في مكتبات العراق منذ مطلع القرن العشرين. ربما ورث متانة عربيته من أبيه زكي بيضون، ولكن زمن هذه العربية اختلف مع عباس الشاعر والناثر في بيروت اليوم، وفي مكتب السفير، حيث يكتب عموده ويدير صفحاتها الأدبية. وعندما قصدت أن أتصوره في حيز غير الذي هو فيه، أي في فضاء أدبي متخيل، كان يردّني إلى مكانه، حيث يتحرك ويكتب ويمسك بأزمنته. ومن هنا بدأنا الحديث.
أماكن الضرورة
ف:هل تجد نفسك في مكانك كما تريد؟ أم أن هناك أمكنة أخرى: مواقع أدبية، أو أزمنة وددت الرحيل إليها أو العودة منها، أو المكوث فيها؟
ع : سأتكلم عن المكان الفعلي. أنا من الذين أمضوا حياتهم، وعن غير قصد، بدون مكان فعلي. كنا نتكلم مثلا عن "صور" المدينة التي قدمت إليها في التاسعة. ولدت في قرية "شحور" التي لم أعد إليها إلاّ وقد نيفّت على الثلاثين. شحور المكان الأول اختفى من حياتي، وهذا الاختفاء لا أعرف معناه، أنما أظن أن اختفاء المكان من ذاكرتنا هو جزء من إنكارنا له. في صور كان عليّ أن أنكر انتمائي إلى شحور، وكان علي أن أنكر أكثر من ذلك حنيني إليها. تعرضت لصدمة الخروج من قريتي، وشعرت بأن عهدي الذهبي السعيد تركته هناك، مع ذلك لم أعد إليها على الإطلاق. درجة من الإنكار لنفسي ولماضيَّ: إنكار متعمد. وكأن الاعتراف بالانتماء إلى قرية مثل "شحور" أقل مني.
في صور حدث ما يشبه هذا، أمضيت حياتي في هذا المكان دون أن أحتك فعليا بحياة إحيائها وعائلاتها، حتى أنني كنت أجهل أسماء من كنت بينهم. كنت أعيش في حي شعبي يكتظ بالقصص والأخبار، وكان علي أن أكبر لأسمعها من الآخرين، أسمعها دون أن أعيشها. كنت مجرد مستمع إلى هذه القصص. إلى الآن أعيش في بناية هنا ببيروت منذ ست سنوات، ولا أعرف منها أحدا. أظن أن هذه الحالة انعكاس لتلك البداية في صور. عشت في صور وأنا في نعمة الغيبوبة الاجتماعية، لم أشعر بحاجة إلى التعرّف على ما يحيطني، حتى حكايا صور التي تضمنتها بعض كتاباتي، مسموعة على كبر ولم أعشها. وإذا كان لي أن أستطرد عن صور، فقد كانت مكانا للضرورة. لم تكن في هذه المدينة أية لمحة من جمال يتجاوز الضرورة والبقاء. هذه المدينة في الداخل، كانت كما أعرفها، تشم في أركانها رائحة السمك المتعفن، وفي وسطها سواقي آتية من مجارير البيوت.
ف:لماذا جعلتها في قصيدتك تتجاوز نفسها، أو اقتربت من الطابع الملحمي في تصويرها؟.
ع : في القصيدة وصف لهذا المكان البائس والقبيح. هناك وصف لهذه الشوارع الضيقة والسواقي والرائحة اللاهثة والأنفاس الساخنة. مع ذلك فأنني في هذه المدينة التي لم أكن أحسن الانتماء إليها، كنت على نحو ما أشعر بحاجتي إلى انتساب ما، أن أكون "صوريا". وأظن أن الحب الموجود في قصيدة صور هو حب إشكالي، حب خارج من سوء تفاهم بين المتكلم والمكان. هو أشبه بعلاقتنا مع أمهاتنا غير الجميلات، يؤلمنا أو يزعجنا أن يكنّ غير جميلات، ولكنهن في النهاية أمهاتنا. وهذه العلاقة الإشكالية هي كل ما نصادفه في كل علاقة. لا أعرف ما هي العلاقة البسيطة، أي علاقة هي علاقة إشكالية، ولهذا لم تكن قصائد الحب التي كتبتها، قصائد حب. كان القارئ يرى فيها شيئا أقل من الحب.
تنقلّت في مدن كثيرة، في صيدا قضيت عشر سنوات، بدون مشكلة انتماء.
في بيروت أنا انتمي إلى مكتبتي، غرفتي، المقهى الذي أقيم فيه، والى الناس الذين أعرفهم. لست بحاجة إلى استعارة انتماء أكبر. انتمائي تماما ما أنا فيه الآن، أنتمي إلى الكلام، إلى هذا الحديث معك.
عندما قصفت الضاحية الجنوبية في الحرب الأخيرة، كنت أقرب إلى الانهيار، شعرت أن بي حاجة إلى البكاء. كانت لدي بدل فكرة الانتماء، الندم أو الشعور بالذنب لأنني لم انتم إليها (الضاحية)، شعور بتخلٍ عنها، بالعقوق. كتبت وقتها لأقول: حان الوقت كي نحب أمهاتنا، حتى ولو كن قبيحات. وهذا قد يكون شعورا أوديبيا ، ككل أساس كل علاقة إشكالية بالأمكنة الحاضنة، بكل حضن.
ف:خلنا من الأوديبية، يمكن هو شعور بالاغتراب أو الغربة عن المحيط.
ج: لا، بحق، علاقتي بأمي مؤثرة، وأظن أنها أساس علاقتي الإشكالية مع كل الأشخاص، فقد كنت الولد الذكر ومدلل أمي، وتم هذا على حساب أخ توفي صغيرا. ذكرت هذا في روايتي (تحليل دم) ويمكن إدراك الشعور بالذنب الخفي، إتجاه الأخ الذي كنت مفضّلا عليه، وكانت الأم سببا في إقصائه عن حياتي.
أظن أن كل تماس جسدي مع أمي كان يثير فزعي، جفلتي، قلقي. علاقتي مع النساء ربما تعاني الإشكال نفسه.
ف:يمكن هنا أن أتصور أنك رغم ما يحيط بك من أصدقاء، وما تبدو عليه من حميمية، عابر للصداقات. أنت صديق لكثرة من الأدباء، ولكن هل لديك بهذا المعنى صديق شخصي؟
ع: تكلمتُ عن الغيبوبة الاجتماعية التي غطت طفولتي وجزءاً من مراهقتي. مع وفاة والدي بدأت صحوتي الاجتماعية، وبدأ انتباهي إلى سلوكي، وأظن أنني بالغت في مراقبة نفسي إلى الدرجة التي صرت أشتاق فيها إلى بعض الفظاظة، وتفاجئني وتفاجئ الآخرين، حين تفلت مني. باستمرار علاقاتي فيها قدر من المسافة، يخيفني التشابك أو التداخل. على الأقل يرهقني. أفضّل دائما أن لا تدخل علاقاتي في مضاعفات غير مفهومة، مثل الغيرة والمنافسة والمحبة الشديدة. أذكر أن لي أصدقاء حافظت على صداقتهم، ولكن لم أكن الصديق الأول عند أي صديق أعرفه، إلاّ في مرة نادرة. كنت صديقا أول لعبد اللطيف سعد الذي قتل على يد حركة أمل في بلدته.
ف:أنت الأب الروحي أو العراب الثقافي لمجموعة من الكتاب الشباب، شعراء وسواهم. كيف تنظر إلى هذه العلاقة ؟.
ع: صادقا لا أظن أني بالنسبة للشبان عراب أو أب روحي. أظن أن حسن صلتي بهم يعود إلى أنهم لا يشعرون بحدود صلوه ما بيني وبينهم. علاقتي لا تقتصر أيضا على هذا الجيل، كنت لسبب أو لأخر، كشاعر أو مثقف أو صحافي من الذين اهتموا بجيلهم. كتبت تقريبا عن كل شعراء جيلي، وأظن أني الشاعر الأكثر تماسا مع الجيل الذي تلاني، الأصغر سنا، وعلاقتي بهؤلاء إجمالا سهلة، حافظت باستمرار على مودة بيني وبينهم.
ف:هل هناك من تعده غريمك في لبنان أو في مكان آخر؟
ع : أظن بدون تواضع، أن كل شاعر جيد هو منافس، هو في السباق بالنسبة لي. أنا أكثر حساسية إزاء الشعراء الشباب، هؤلاء يملكون جديدا وهم يشكلون تحديا، إنهم في السباق أكثر من الآخرين. شعراء من جيلي يملكون أثرا يمكن توقعه : سركون بولص مثلا ـ جرت المقابلة قبل موته ـ وهو أحد المسابقين الكبار، أتوقع ماذا يكتب فاضل العزاوي أو وديع سعادة، ولا أريد تسمية كثيرين. عبده وازن، بسام حجار، سليم بركات، نوري الجراح، أمجد ناصر، بول شاؤول، لكن في الوقت نفسه زاهر الغافري، غسان زقطان يوسف بزي. كلهم في السباق، وبالتالي فكرة تتويجي أو تتويج غيري فكرة غريبة.
أظن أن جيلي، جيل كتب عليه أن يبقى طويلا في السباق، أن نعيش بصورة مستمرة تحديا ما. أعرف كيف أن شاعرا مثل محمود درويش، رغم كل الشهرة، بقي في غمرة التحدي.
شاعر مثلي يجب أن يبقى باستمرار في غمار البحث عن بداية أخرى. عليه أن يخاف من أن يبدأ بأسلبة نفسه أو تقليدها، أن يغدو مسبوقا، والخطر يزداد مع العمر. أن تملك السيطرة على الرؤية الشعرية، هذه الرؤيا مهددة بأن تغدو قديمة. بالتأكيد عندما نقرأ شعراً شابا نفهم فوراً أن هناك حساسية أخرى حتى في أكثر الأشعار ضعفا.
ف:كيف تحاول التجاوب مع هذه إيقاع هذه الحساسية؟
ع : قلت أتعلم من الشباب، ولم أقل ذلك عن مجاملة، ولكني لست بالسذاجة التي تجعلني أصّدق أن الشباب في كل لحظة هم أبناء لحظتهم، مع ذلك لا يسعني إلاّ أن أنتظر في هذه الأشعار تعبيرا عن هذه اللحظة، ولهذا أحاول تجديد مخيلتي وتجديد صلتي بالراهن. هذه عملية صعبة ومعقدة، ثقافية وعاطفية وخيالية . أرى أن آخر دواويني (ب. ب. ب) أكثر فتوة مما كتبت قبله. شعري الآن من هذه الناحية أكثر شبابا من قصيدة صور. لا يعني هذا أنها محاولة لأن أكون شابا في اللحظة التي لم أعد فيها شابا.
ف:وجيل الرواد كيف اختلفت العلاقة؟
ع: هؤلاء غدوا روادا وكبارا في عمر مبكر. السياب في الثلاثينات، وانسي الحاج نال شهرة واسعة ولم يتجاوز العشرينات. سعدي يوسف كان مشهورا وهو في عمر الثلاثين. أفراد هذا الجيل، كان لهم الحق في الإكبار، وذلك يعود بوضوح إلى إنهم كانوا مؤسسي قصيدة جديدة، مؤسسي مرحلة، ولهذا فازوا تاريخيا، فازوا بماركة مرحلة، وباسم مرحلة، بحيث غدت مكانتهم التاريخية منذ اللحظة الأولى في حكم المؤكد. لقد صنعوا في القصيدة والشعر ما يمكن أن يعتبر حدثا في تاريخ هذا الشعر، وبالتالي لم يكن مطلوبا بادئ ذي بدء إلاّ الريادة، إلاّ الميزة التاريخية. مع الزمن لم تعد هذه الريادة كافية. وبطبيعة الحال تنافس هؤلاء فيما بينهم وغاب منهم من غاب وبقي من بقي، ولكن أتيحت لهم فرصة أن يعطوا من اللحظة الاولى بعدا تاريخيا لما فعلوه. كانوا يصنعون تأريخا، فيما لم تكن الأجيال التالية إلاّ ضيوفا عليهم، ضيوفا على التاريخ الذي صنعوه. لم يكن مطلوبا منهم إلاّ البيانات الكبرى، ولم يحاول أحد أن يطابق هذه البيانات مع الإنجازات. طالهم الكثير من اهتمام النقاد، لكن النقد كان في الغالب، متصاغرا أمامهم، كان يكتفي بأن يتعلم منهم. .
هذا الجيل اختلطت فيه الريادة مع الانجاز مع البيان الشعري مع الموقع التاريخي، في حين لم يكن الانجاز الشعري نفسه إلاّ واحدا من عناصر الاسم الذي بات لهم. لن أكون متجنيا إن قلت أن فرز النتاج الشعري نفسه من بين هذه العناصر الكثيرة التي قدمت هؤلاء الشعراء، ليس في مصلحتهم دائماً.
أنا أميل إلى أن الإنجاز الشعري لدى الجيل الذي جاء بعد فترة الريادة، كان أكثر أهمية، لأن هذا الجيل لم يكن قادرا على الاكتفاء بالبيانات، كان مطلوبا منه أن ينجز، وكان إنجازه في الغالب أقل من أي بيانات الجيل الأول. الإنجاز صعب، فهو يكتفي بإفاضة البيانات ووعودها، أنه يشير إلى ما تحقق وما يمكن أن يتحقق.
قرأنا شعر الجيل الأول انطلاقا من بياناته، معتبرين انه مصداق لها، وهذا ليس صحيحا. ما صنعته الأجيال الثانية ليس قليلا وصغيرا، كما هي الخدعة السائدة. الأرجح أن مع شعراء الجيل السبعيني وربما الستيني، تغير مفهوم الشعر، ولم يصاحب هذا التحول عملية نقدية. هؤلاء الشعراء لم يكونوا أصحاب بيانات أو نقاداً بالقدر الذي كان عليه الجيل الأول، وبالتالي جرى تحول في الشعر بدون عملية مراجعة أو نقد.
كان تحولا في عمق العملية الشعرية، بدون مقابل نظري، طبعا كان هناك قليلون قاموا بالتنظير، لكنهم في الغالب نظّروا لأنفسهم، وبالتالي كان عملهم النظري في ثنايا عملهم الشعري، لأنهم وعوا أن زمن البيانات انتهى. جيل الرواد قدم عمله الشعري والنظري، باعتباره جزءا من عملية تاريخية شاملة، وكأنهم طليعة ثقافية بديلة لمشروع متكامل ليس فقط شعريا، بل تأريخي وثقافي وسياسي. شعراء هذا الجيل تصرفوا كقادة غير منظورين للثقافة العربية، وللتاريخ العربي البديل، من أجل ذلك أختلط في عملهم التاريخي بالثقافي بالسياسي.
لنأخذ أدونيس مثلا، كان عمله النظري مقابل الشعري والثقافي والتاريخي والمشروع المستقبلي، بحيث يصعب أن تفرز، في مشروعه، الشعر من البيان التاريخي. بالنسبة لدرويش كانت القضية الفلسطينية عنصرا جاهزاً، مع كل موهبته وقدرته على استثمار هذا العنصر، وتفعيله شعريا.
غادر الشعراء في الأجيال التي تلت هؤلاء عصرهم الذهبي، لم يعد ممكنا للشعر الزعم بأنه بديل ثقافي وتاريخي وسياسي. لم يعد الشعر مشروعا مستقبليا، أصبح مطلوبا من الشعر أن يكون شعرا بالدرجة الأولى. لم يعد السؤال كم يستطيع الشعر أن يخلق المستقبل والتاريخ والثقافة، بل كيف له أن يكون شعرا، وفي الوقت نفسه تعبير حياة.
تتناقص حظوظ الأجيال اللاحقة، وأظن أن جيل الثمانينات أقل حظا من جيل السبعينات، هذه الأجيال تتبارى من حيث الموهبة والندرة، ولكن يبدو أن الشعر يصبح حاجة ثانوية في حياتنا.
ف: لنعد إليك، اللغة في نصك تبدو تمرينا تأويليا، هي تثبت لتنفي، تصدق لتكذب، تخفي لتكشف. نصك النثري مثل كلامك يتحرك بتجاذب أو تداخل السياقات والمقامات. أين يكمن المعرفي من الإنشائي؟ أو أين تجد اللغة، في فضاء المعلومات أو في ذاكرة القاموس؟.
ع: ليس لدي رغبة في أن أصوغ تصورات نظرية. لا أريد التحدث عن معادلة نظرية بين الشعري والنثري. ولو حاولت أن أنتقي من هذه الأسئلة واحداً، سأتحدث عن تحول القصيدة لدي.
الفرق بين قصيدة "صور" و" الوقت بجرعات كبيرة" يوضح جانبا من تجربتي. الأرجح هناك درسين مختلفين للقصيدتين، وتجربتي بما هي عليه الآن لا تبدأ مع صور، بقدر ما تبدأ في (الوقت بجرعات كبيرة)، ف" صور" ثمرة مرحلة، بينما تكاد مجموعة "الوقت" أن تكون بداية لتلمس مشروع شعري. صور كانت نهاية عمل للأسف أو لحسن الحظ لم يتصل. لا أريد التحدث بعمومية، ولكن ينبغي القول أن الحرب اللبنانية كانت فاصلا بين مرحلتين، ولا أستطيع أن أعفيها من أثرها.
كتبت "صور" تقريبا عشية الحرب، في العام 1974، وأظنها محاولة من قبل شاعر لا ينقض بقدر ما يقوم بتصحيح مشروع شعري قائم كما بدا له. سأحاول أن أفكر أو أتوسع قليلا. مع "صور" بدا لي كأن هناك تمثلا "ماركسياً" في القصيدة، لا أتكلم عن خلاصة نظرية أو فلسفية أو انطولوجية. أتكلم عن تصّور تحّول إلى رؤيا وخيال شخصي. كان في "صور" ما حسبته مخيلة ماركسية، الملحمة الماركسية للعملية التاريخية. للعلاقة التي تتم بين زمان ومكان. بين حاضر وماض. صور بالنسبة اليّ كانت ما استطعت أو ما تصورته من ملحمي للتاريخ، كما تراءى لي انطلاقا من تخييلي الماركسي.
الجانب الآخر، كانت "صور" في ذلك الوقت، ضمن مشروع لكتابة قصيدة بديلة، بالمقارنة مع قصائد الرواد. كان طموح قصائد الرواد أن تكون تاريخا وشعرا ورؤيا شاملة، في حين كانت صور رغم الجانب الملحمي فيها، محصورة ومحدودة، وليست ذات سيولة مطلقة، ولا انتشار قاموسي فلكي، ولا كلام عرضي بدون نهاية. صور تنطلق من بؤرة كلامية إيقاعية واحدة.
التصحيح الثاني إن جاز التعبير، " صور" كانت نشيدا، وهو على الأغلب، الأسلوب الأكثر شيوعا في قصائد الرواد، التصحيح الذي صار لهذا النشيد، انه لم يكن حداء، لم يكن رنينا، ولكن كل صورة تملك مقابلا حسيا موضوعيا.
كنا نرى في قوة الكلام، وقدرة الأصوات على أن ترسم حيزا ما، في قصيدة أدونيس أو سليم بركات، نرى قوة الكلام، قوة اللغة الذكية، والنشيد يملك قوته في نبرته الصوتية، قدرة الأصوات على أن تنشئ حيزا ما، بينما قصيدة صور مادية وحسية.
ثم هناك الطرح الآخر السياسي: السياسة في قصائد الرواد تأتي على نحو ملتو وبالغ الرمزية، بينما قصيدة صور مباشرة بهذا المعنى، فالتاريخ تاريخ مسمّى والمكان مسمّى، مع ذلك فأن قصيدة صور لم تكن تملك مشروعا، قدر ما كانت تحاول أن تدخل مساحات على مشروع قائم. على هذا انتابني شعور بعد الحرب بأنها فقدت زمانها، وأضحت في زمن متأخر، ولهذا تأخرت عن نشرها، ونشرت(الوقت بجرعات كبيرة) أولا، وعندما نشرتها بكثير من التردد بعد أربع سنوات، كنت في فترة بحث عن بداية مختلفة.
في (الوقت بجرعات كبيرة) بمقدورنا الكلام عن مشروع آخر، هذا المشروع كان عماده القبض على ما هو مبعثر، على لحظات متشظية، قول مجزوء أو أجزاء من عالم. إذا حاولنا التفتيش عن بعض عناصر هذا العالم، لقلنا أولا انهإ إلغاء النشيد، إنهاء النشيد بالكامل. اللغة في هذه الكتابة لا تملك أية مؤثرات، أي إكسسوار خارجي. إنها الكتابة بلغة مكبوتة عاطفيا وتتجنب بالكامل المساومة العاطفية مع القارئ. يعاد اسلبة المفردة، يتم تحييدها، يعاد غسلها من تاريخها الدلالي، تقدم بدون أي سند للمعنى موروث. ثم هناك كتابة تحاول كتابة الشعر بلغة النثر : كثرة التشبيه والتوكيد، البرهان، كلها مظاهر نثرية، هذه العناصر، ضمن جزء من مشروع كان يتبدل ويتغير وينقلب على نفسه. بالتأكيد جزء من هذه العناصر استندت إلى عدد لا يحصى من البدايات وفي هذه البدايات المختلفة كانت هناك مراجعة، كانت هناك رحلة، و كل سفر من الأسفار، له عدته. تم هذا بسهولة، اعتمدت على ثقة بالذات كان يمكن هزها بسرعة، ولكن محاولتي مرت بدون عقبات.
ف: في الشعر أنت تُفسد المفردة وتؤسلب الصورة، وفي النثر توسع المعنى وتعمد إلى تدقيق الأفكار وإشباعها. نثرك مرئي ونابض ومحسوس، تحاول فيه إعادة سيناريوهات الأفكار كي تتوضح الصور، كيف يلتقي أو يفترق هنا شعرك عن نثرك؟
ع: أنا أفرّق في عملي بين نثري وشعري. أريد أن أكتب نثرا كالنثر، وطالما أزعجني النثر المائع المتشاعر، ليس ذلك حرصا على الأنواع الأدبية. أذكر أنه سادت الأدب في فترة من الفترات مزاعم الشعر هذه، أو المحاكاة للشعر، حتى أن القصة باتت نوعا من النص الشعري الرديء. لطالما أزعجتني هذه الرطانة الشعرية. أزعجني هذا النوع من الحلول في الشعر بالمعنى الصوفي. بالفعل أكتب نثرا بقصد أن يكون نثرا خالصا. أظن أن الصحافة أعانتني على تجريب النثر وتجريب أساليب النثر، ليس في المقالات التي أكتبها أسبوعيا فحسب، بل في الروايات التي كتبتها وهي ثلاث حتى الآن.
للنثر متعته الخاصة، انه ينتهي إلى شعور بان "شعرية النثر" هي في المستوى ذاته الذي لشعرية الشعر. شعرية النثر عند الجاحظ تكمن في نثريته، إذا ما قارناه بالنص القرآني مثلا الذي هو نص شعري. نثر الجاحظ إلاّ في القليل الأقل، يستمد جماليته من عناصر نثرية، من إيقاع البحث، ومن ليونة التعبير ومن حركيته، وليس من جمالية الصور. بالنسبة لي أجد في لغة الجاحظ والمقريزي، أجد شعرية أكثر مما أجده في نص التوحيدي الذي يتفنن أو يتوسل الصور.
ف: التوحيدي يقترب من التجريد لأنه يوسّع حقل الكتابة إلى الفلسفة والفكر.
ع : لا أميز كثيرا بين الفكر وبين الصورة والعبارة. أظن أن الصورة دائما فكرة، وإن هناك فكرا خفيا يسوق الكلام ويبني الكلام. ما يجعل للقصيدة شكلا وبناء، هو تلك الفكرة الخفية التي تنتظم الكلام وتشبكه. لا أظن أن هناك فرقا بين الصورة والفكرة، الفكرة هي صورة أيضا. من هنا أفهم كيف يتكون الشعر من الأفكار والأفكار من الصور. لست متضلعا في الفلسفة، أنا أستطيع أن أقول ثمة شعرية فائقة في قراءة نصوص فلسفية، ثمة في نص التوسير عن رأس المال مثلاً شعرية بالغة، كذلك النص الفوكوي. اقرأ هيدغر من وقت لأخر، ولا أستطيع أن أتابع أو أتغلغل في النص الهايدغري إلاّ كما اقرأ القصائد، أن أتركه لنفسي وأرحل معه كقصيدة، ولا أتوقف ولا أسأل نفسي ماذا إستوعبت.
ف: إذن أنت تقرأ الفلسفة بعين شاعر؟ تأخذ من النص الفلسفي شعريته لا جانبه المعرفي؟
ع : المعرفة والمعرفي، هذا المصطلح يفصل بين النص ولذته، بين الفن في النص وبين علم النص وفائدته المعرفية. هذا تحول إلى رطانة وببغاوية عند بعض الكتّاب العرب الذين يستفهمون كل نص عن محموله المعرفي، يخمنون أن هناك عبرة معرفية، خلاصة معرفية ينبغي إستخلاصها من النص. أظن أن كل نص يملك فكرته الخفية وكل نص يملك فلسفته الخاصة التي لاتظهر على سطح النص ولا أمامه، هي موجودة في تحتية النص، موجودة على شكل أنصاف أفكار، أفكار غير مكتملة أوأشكال فكرية، أوإيقاعات فكرية، تململ أفكار، وهذا ما يعطي النص الادبي ليس فقط بنيانه، بل شعريته.
هناك طريقة شعرية في التفكير تقوم على قدرة السؤال على أن يستولد من داخله أسئلته الخاصة، وقدرة الأفكار على أن تحطم بعضها البعض. قدرة الأفكار على أن تبدو كتماس جسدي مع العالم. لانستطيع القول أن الطريقة الوحيدة في التفكير هي الطريقة الاستقرائية المتسلسلة التي نجدها في نص فكري، نحن نفكر طوال الوقت وفي أحيان بأفكار لانفهمها أو غامضة. ونفكر خلال جسدنا ومشاعرنا وأحاسيسنا. هذا التفكير جريان من الأفكار ليس مفضيا إلى نتيجة بالضرورة، ولا آيل إلى أجوبة، ولا طارح لمسائل ومعادلات متوازنة. نفكر في الجنون والهذيان والرغبة. نحن في عملية تفكير توازي وجودنا، هناك تفكير إستقرائي وآخر منطقي، بحثي بالطبع، لكننا بالمقابل لا نستطيع أن نفعل شيئا دون أن يشتمل على فكرته. الشعر هو نوع من التفكير، ومضحك أن هناك شعراء ونقاداً يفترضون او يتخيلون فنا خالصا بلا أفكار. عبارة عن لعب خالص، ولكن حتى اللعب له أفكاره، لانستطيع ان نبقي الفن او الشعر على مستوى اللعب المجاني، أكيد في الفن مجانية ولكنها لاتستغرق الفن كله.
على كل حال نحن نفكر من خلال نزاعنا مع الأفكار، أو توليد الشكوك من الشكوك والأفكار الجهيضة. لا أستطيع أن أتخيل شعراً بدون أفكار.
في لبنان كان شوقي أبو شقرا يتكلم عن شعر بلا معنى، ويفترض أن المعنى ليس شرطا للشعر، هذا يعني إنه يفهم المعنى على أنه شيء آخر، يفهم المعنى عبرة واضحة أو خلاصة. أظن أن المعنى جزء لا يتجزأ من الكلام أو من لا معناه أو صمته، او هذيانه. كيف نقول عندما نقرأ التوسير حول تعدد المعاني، وعندما يتكلم التوسير عن العبرة ليست في الجواب، ولكن في السؤال لأنه يتضمن الجواب. بالنسبة الي هذا هو الشعر، هذا الكلام مشعرن بكل معنى الكلمة. طالما أحببت أن يكون في شعري شيء كهذا، أو في الشعر الذي أقرأ. عندما اقرأ ريلكة او هولدرين وأنا مفتون بالأثنين، إفتتاني بالشعر الالماني عامة، أشعر أنه شعر ممتليء بالفكرة، لا بالمعنى الأحادي الذي يفهمه المثقفون باعتباره الدرس والخلاصة، الوضوح أو الصياغة الذهنية الرياضية أو الحسابية . لانجد عند ريلكة وضوحا ولا أجوبة ولا أفكاراً كاملة، فالنص الريلكوي عبارة عن إشتعال الفكرة، توقد الفكرة. الأفكار تؤلم، كما يؤلم العذاب الجسدي والعاطفي، تعاني كما يعاني الحب والموت والألم الجسدي. الأفكار تقلق. ليست الأفكار كما يظن البعض سلام الأشياء، أو الحلول الناجزة، الافكار ليست سلاماً ولا يقينا ولا جوابا. الأفكار كما يفكر التوسير، هي سؤال.
الكتابة حين تتجاوز الكاتب
ف: انت تكلمت عن صلة شعرك بحياتك الشخصية، هل إستكملت هذه الرغبة عبر الرواية؟
ع: ليس تماما. ينبغي ان أميز بين رغبتي الخاصة و بين ما أنجزه. ما أنجزه ليس صالحا لتقييمي. ولكن أظن لكل كاتب وشاعر كل أديب هذه الرغبة في أن يوجد في كتابته. هذه الرغبة دونها عوائق لا تعد، من بينها إن الكتابة تسلك طريقها الخاص، وهي تنحرف عن مبتداها، و تفلت الى حيث لا نستطيع أن نلحق بها. ثم أن الكتابة وهذا سرها وجلالها، تتخطى الكاتب وتعلو عليه. ولو كانت الكتابة بقدر كاتبها لما كان لها أن تبقى، ولما كان لها أن تجتذب قارئا، لأنها إذا كانت بقدر صاحبها، فهي بقدر تفاهته وهشاشته وضيقه. ما هو جليل في الكتابة يبدو أحيانا فوق شخصي وفوق إنساني. الكتابة تحمل حقا أم وهما، ذلك الوعد بالحقيقة، ذلك الهم بالحقيقة. الكتابة بالتالي هي وهم الكتابة الكبير، وهو الذي يعطي الكتابة سببا لتجتذب قارئا. ما يجذب القاريء ليس الكاتب الذي يساوي القاريء في عجزه وضعفه، ما يجذبه بعد لا شخصي يتجاوز الكاتب، ويتجاوز الإنسان.
ليس نيتشة الإنسان هو السوبرمان، بل نصه هو السوبرمان.
ريلكة كشخص لا يقدم لنا اية قوة إضافية، لا قوة تفكير ولا قوة حل، ولا عزاء. ولكن نصه يقدم هذا.
ف: بودي أن أرى الكاتب في نصه كشخص. دائما الأدباء العرب يضعون أقنعة الأدب كي يقدموا أنفسهم، في حين الأدب الغربي الآن منشغل بشخص الكاتب، ونرى اليوم كيف تُكتب سيرة الكتّاب من وجهات نظر متغيرة. إعادة قراءة سيرة الكاتب أضحت اليوم جنسا أدبيا. حياة الأديب تشكل اليوم حيزا ثقافيا مطواعا لتوليد الأفكار الجديدة والتصورات.
ع: لنأخذ أدونيس مثلا. أظن ان نص أدونيس هو شخص أدبي، أي أن أدونيس أو أنسي الحاج يحاولان أن يصنعا من أدبهما شخصا موازيا لهما. أن يصنعا في كتابتيهما بطلا موازيا لهما. وأحد مشاكل القراءة اننا نبحث في النص الذي نقرأه عن هذا البطل الخفي.
ف:هذا تقليد أدبي عربي بامتياز، حتى المذكرات او اليوميات غدت وسيلة لإخفاء صورة الكاتب او تنميطها.
ع: المذكرات في الغالب مراقبة، وهذا لايقتصر على الأدباء، بل يشمل السياسيين وحتى الناس العاديين، ولكن هناك إفتتان باليوميات عموما، إفتتان بالحياة الخاصة إجمالا. إنا أيضا كتبت سيرة، وهي رواية غرامية، ولكني لم أنشرها الى الآن لأن الطرف الأخر فيها، المرأة، لا تريد إشهار قصتنا. إمتناعي عن نشرها يعود الى إحترامي قرار الطرف الثاني. قرأ عدد من الاشخاص هذه الرواية، ولكن هناك امرأة، وهي جدة الان، لا تريد أن يقال أن على ظهرها غمازتين!. قبل عشر سنوات كتبت هذه الرواية، عقب إنتهاء هذه الدراما، وكتبتها بقدر كبير من الصراحة المؤلمة. هي رواية شغب وهوى، أبطالها انا وامرأة متزوجة، وهي عشيقة صديقي الذي إغتيل في الحرب، فحصل ما يحصل عادة، تحولت العلاقة الى الصديق الحي. الرواية مكتوبة بضميري وفيها يعامل الراوي نفسه بقسوة وتشهير.
ف:ألم تكتب يوميات؟.
ع: اليوميات حاولت كتابتها ولكنني كثير النسيان، أنسى دوائي فكيف بكتابة اليوميات. في رواية (تحليل دم) تمازج بين الواقع والخيال. معظم شخصياتها من حياتي وطفولتي، ولكن يمكن القول أنني كتبت قصائد »سيرية«. أول قصائدي (صور) فيها بعد سيري، هي شيء مما قبل السيرة، من مسرح السيرة. (الوقت بجرعات كبيرة)مرثية ذات، وفيها ايضا بعد سيري، السيرة الذاتية السياسية موجودة في رثاء كتبته لاحد الاصدقاء الذي اغتيل ربما من قبل رفاقه في التنظيم. (مدافن زجاجية )كتبت بعد خروجي من السجن الإسرائيلي. أما (حجرات) فهي سيرة كاملة، فيها شخصيات أمي وأبي، (أشقاء ندمنا) سيرة غرامية. (جسد بلا معلم )نص غرامي. (الشجرة تشبه حطابا) مرثية أبن أختي، وهكذا في كل ما كتبت، وهذا لايعني أنني أكتب كما يكتب الروائيون. في كل كتاباتي الشعرية لابد أن أنطلق من شيء في اليد، لابد من ذريعة للكتابة. بالطبع كتبت عدداً من نصوصي من غير هذا المنطلق، ولكنها أقل قياسا على تلك التي تحدثت عنها.
هناك رغبة فطرية عند كل كاتب في أن يقول نفسه، و يبدو إن الكتابة مثل الصورة الفوتوغرافية التي قال عنها رولان بارت انها تحنيط. التحنيط الكتابي لايتحقق فعلا، فالكتابة إيقاع كلمات وصور، و أقصى ما نحلم فيه أن تكون بموازاة الفعل، ولا تكون الفعل نفسه. أن تكون الكتابة قميصا للفعل، أو أن يجد الفعل موازيا إيقاعيا له.
يبقى التراسل والجدل بين الفعل والقميص الكلامي قائما وغامضا ومعقدا.
يمكن لهذا البعد السيري ان نجعله مستندا للكتابة، لأن مشكلة الكتابة انها تجري على غير مثال. في رأسنا الكثير من المثالات، وعندما نكتب نحاول الإبتعاد عنها. هذا المرجع الملموس والحقيقي يتحقق في غربتنا المباشرة والفعلية، ولكن التجربة تجّرؤنا على قول ما لا نحسبه أدبا، ما ليس متواترا في الأدبي ولا ينسج على مثال.
إضافتنا الفعلية قد تكون في إمتلاكنا الدافع لعدم التقليد.
في سنة 1976 تركت لبنان الى فرنسا، في لحظة جبن كبرى، كنت مناضلا في الحزب الشيوعي، ومعلوم أن الحزب خاض مع حلفائه الفعليين مجابهة مع النظام السوري الذي أبليت عددا من الخطب في معارضته. بعد دخول سوريا إنتابني خوف كبير على نفسي، وأنا سبق ان جرّبت السجن اللبناني، فدخلت في حالة كابوسية من الخوف، ودفعني ذلك الى السفر. بعد أشهر أُصبت بإنهيار عصبي وعولجت في مصح نفسي، وكان هذا مقدمة لوقت طويل من المعالجة الصعبة، قضيته مع كمية كبيرة من الأدوية التي كنت أتخفف منها وأعود اليها. لم أستطع أن أنجو تماما من هذه الحالة وأتوصل الى درجة من التوازن الداخلي أو القدرة على الإستمرار إلا بعد فترة طويلة.
أروي هذه الحادثة لأقول كيف تعاملت معها. في البداية كان هناك الصمت الذي ضربته على هذه الواقعة، وهي مستمرة ومتواصلة الى اليوم، خوفا من ان تتحول الى فضيحة. الغريب مثلا أنني تزوجت ولم تعرف زوجتي ومطلقتي بعدها بالأمر. عانيت في البيت وحتى كنت أتناول الدواء بدون علمها. كان لزاماً عليّ أن أتصرف كما لو لم أكن أعاني، علي أن أذهب الى المدرسة لتعليم الطلبة، لأنني منذ البداية صممت أن لا أتخلى عن مسؤولياتي كي لا أنحدر الى الهاوية. قررت الإستمرار في الحياة والمجتمع، كي أتجنب غول الكآبة المرعب، والإحساس بالعدم. أذهب الى (السفير ) وأكتب مقالاتي بإنتظام، وإن شعرت بثقل الحالة أعجّل في كتاباتي لتكون جاهزة في اللحظة التي يتعذر علي فيها أن اكتب. عندما أتكلم الآن عن مرضي، أفكر كيف استطعت التعامل معه والخروج منه. صديقتي كانت على علم وليست زوجتي، وانا مدين لها لإحتضاني في اللحظات التي كنت فيها على غير حالتي الطبيعية، ولعلها أكثر فهما لحالتي لانها كانت تعاني تقريباً مثلما أعاني.
بعد تكتم بدأت اتكلم عن مرضي العصبي وأكتب عنه. قد تكون هذه التجربة مبعث الفخر الوحيد في حياتي، فقد خضت معركة لإنتصر على الاكتئاب والإنهيار والإقتراب من الموت.
في "السفير" حيث يحق لي أن أختلف
ف: تتولى مهمة الصفحات الثقافية في جريدة (السفير) وهذه الصحيفة عالم متداخل في لبنان بين السياسي والثقافي والفئوي والوطني. تكتب في حيز يبدو على شيء من الإختلاف مع ماتمثله صحيفتك. هل نستطيع تسميتها تعددية سياسية، أو ديمقراطية لبنانية، أو لأنك تتمتع بحظوة خاصة؟
ع : واصلت مع السفير على مرحلتين، الأولى إستمرت منذ نهاية السبعينات الى 1988، وكمسؤول للصفحات الثقافية تعود بدايتي الى ما قبل 11 سنة. عندما استدعاني صاحب الجريدة لأستلم مسؤولية الصفحة الثقافية، بالطبع كان على علم بموقفي السياسي، وهذا الموقف كان جر عليّ من قبل بعضاً من الجفوة وسوء تفاهم بيني وبينه. كنت على خلاف مع خط الجريدة رغم أنني أعمل فيها خلال الحرب الأهلية، فالسفير تناصر المقاومة الفلسطينية، ونحن الذين كنا نشتغل في الصفحة الثقافية، أنا وحسن داوود ومحمد فرحات ، نفكر ضد الحرب ومسببيها. كان الخلاف بيننا وبين الجريدة معروفا لدرجة أن سليم بركات شهّر به في مجلة "الكرمل". كنا نعتبر الحرب الأهلية حربا قذرة وندين الطرفين بينما الجريدة تلتزم جانبا من المتحاربين. المفارقة الكبرى حصلت بعد إغتيال بشير الجميّل، فقد كتبت مقالا بدا فيه قدر من الرثاء له، بعد أن غيّر خطابه في الأشهر الأخيرة لإغتياله، وإتجه الى خطاب لبناني جامع. هذا المقال خض الجريدة وأزعج صاحبها، ولكنه لم يكن الشخص الذي يصرفك من العمل لمجرد أنك كتبت شيئا يخالفه، رغم أن بشير الجميل يمثل كل ماهو معاد لمباديء طلال سلمان.
تركت لبنان الى قبرص. لم يصرفني من عملي، ولكنه تردد في إستعادتي بسبب المقال الذي أقلقه، لأن الصحافة تداولته كما لو كان رأيا للسفير. وعندما عدت، كتبت مقالات ضد سوريا وحزب الله، كما كانت مواقفي من العراق، تخالف كلها مواقف السفير. وهذا أمر غير مألوف في الصحافة.
الصحافة اللبنانية إجمالا صحافة محترفين، وليست صحافة منضوين، فأي صحيفة تستقطب محررا لكفاءته، وليس لإنتمائه. يعمل المحررون كحرفيين، ولكن لا يسمح لهم دائما بالتعبير عن ارائهم المخالفة. صاحب جريدة السفير لايتصرف كسلطة في هذا المجال، ولا يهدد المخالف في معاشه وفي عمله. طلال سلمان لكونه صحفيا عريقا، يقدّر هذا البروتوكول في العمل، ولكن ليس كل أصحاب الصحف يملكون صبره.
ف: مهنة الصحافة الأدبية في لبنان، عالم متداخل بين السياسي والثقافي، ماالذي أفدته من تنافذ العالمين؟
ع: مارست السياسة مذ كنت فتى، ولكنني لم أكن يوما مناضلاً ، أو قادرا على الإندماج المطلق بالعمل الحزبي. عندما كنت شيوعيا، كنت أعرف أنا وزملائي أنْ ليس هناك من سبيل لإقامة الاشتراكية. كنا إشتراكيين وماركسيين بدون أمل سياسي. أي أن ثوريتنا كانت فناً، لعبا فنياً. كنا ثوريين لإستحالة الثورة، وإشتراكيين لإستحالة الاشتراكية. كان الإنتماء مغامرة شبه شخصية، او هو أشبه بتمرين فكري، يجعلني أرى الأمور من زاوية خاصة، أرى ما لا يراه الأخرون، وهذا بحد ذاته يغريني. وعندما أكتب كتابة سياسة، أفعلها كي أرى الامور في نصاب آخر. ما زلت أكتب سياسة وأعرف ان لافكرة سياسية تستطيع ان تثبت زمنا طويلا، وأعرف أن السياسة هي نوع من اللعب.
لا أجد في نفسي القدرة على أن أكون مناضلا أو أشترك في حوار سياسي على شاشات التلفزيون. السياسة بالنسبة لي هي ممارسة اخلاقية، هي نوع من إيجاد ميزان أخلاقي للنظر الى الأمور. أظن ان السياسة موجودة في شعري بطريقة وأخرى.
منحني عملي الصحافي ما لا أسعى اليه، إشتغلت فقط لأن الصحافة مهنة الكتّاب، ولم أتوقع أن تمنحني سوى المعاش، وتأخرت كي أتعلم من الصحافة. كنت أكتب ولا اسعى لأي قاريء، أكتب مقالات لا تقدم أي تنازلات لاقامة جسور مع قاريء. مع الوقت تعلّمت تلمس حصة القاريء في كتاباتي، وتلمست تأثير الشراكة الجديدة ، فقد بدأت بالتحول الى النثر، هذا النثر حرضّني على كتابة الروايات. في عملي الصحافي كتبت عشرات الريبورتاجات، واكتشفت انني كاتب تحقيق أيضا . هناك متعة كتابة الرواية التي شجعني عليها العمود والصحفي، النثر الذي كتبته.
ف:الصفحة الثقافية توفر علاقات ومصالح وإشكالات، فهل أفدت منها، أو أتت عليك بالضرر؟
ع: الصفحة الثقافية تستقطب عددا من الكتاب تكفي لتكون محورا لشبكة علاقات أدبية، هذه المسألة تبدو بديهية، ولكن لا أشعر أن هذا المكان هو الذي دبّر لي هذه العلاقات. كنت شاعراً وناقداً للشعر والمسرح والتشكيل، وهذه الصفات تسمح بشبكة من العلاقات، ودوري السابق والحالي كمثقف فاعل، ساعدني ايضا على أن أمنح الموقع الذي أنا فيه علاقات مفيدة. لم أشعر يوما بسلطة موقعي، مثلما لم أنجح في بناء علاقات شخصية عبره. أصدقائي الذين ينتشرون في كل المواقع يعتمدون على مواهبهم، وصلة الوصل بيننا هي هذه المواهب. كانت لي في فترة ما شلة من الاصدقاء : بسام حجّار، حسن داوود، وضاح شرارة، محمد أبي سمرا، أتكلم عن أشخاص كنت أراهم يوميا، وألازمهم يلازمونني، هؤلاء الناس فيما أظن، لايحتاجون الى تزكيتي ولا الى منبر أقدمه لهم.
في فترة ما، كنا بدرجة من التواطؤ نقدّم شخصاً ونجمع عليه. أتكلم عن وديع سعادة مثلا. لم يكن هذا التواطؤ تآمرا، كان عفويا، فقد كتبنا كلنا وفي صحف متفرقة عنه، وهذا أمر يلفت الإنتباه. لا نستطيع أن نبريء أنفسنا من الشللية فالتبادل اليومي يؤدي أحيانا الى توافق تام. كنا نجمع على نص أو كاتب بحكم ذوق قابل لأن يكون مشتركا. لكننا لم ننجر الى مقايضات رخيصة.
مسؤولو الصفحات الثقافية بالطبع سلطة، وهناك بينهم من يسيئون إستغلالها، ففي الصحافة الكثير من النوايا السيئة والكثير من العلاقات الرديئة، والكثير من الأنوات المريضة، ولكن تلك النماذج غير قادرة على تجاهل حضور كاتب يفرض موهبته. أحسب أن صفحة السفير تنشر لكتاب أو عن كتّاب لست على وئام معهم، بول شاوول مثلا لا أستطيع حجبه عن الناس، كذلك محمد علي شمس الدين. الذي كنت قبل مجيئي الى السفير مختلفا معه.
ف:ولكن في كل مكان هناك نوع من الاستقطابات، او الجماعات الأدبية، وفي الغالب تلتف حول مركز او مطبوع أدبي.
ـ يهمني أن أتقدم بمنجزي، أكثر مما تستهويني العلاقات، فهي لاتمنح شيئا، لأن الناس سينفّضون عنك حال إدراكهم عجزك عن التقدم نحو أفق أفضل في الإبداع.
أزعم بأن جزءا من علاقتي مع الناس مبني على مزاجي. الكاتب ينبغي أن يبقى فوضويا وشابا وعابرا للعلاقات الاجتماعية. أظن أن من أخلاقيات الكتابة أن لايتحول الكاتب الى مقام او مركز، هذا بحد ذاته مضاد للكتابة. فكرة البحث عن مقام أشبه بالبروتوكولات السخيفة، ومزاجي، كمنهار عصبي في السابق، هو ما يجعلني قليل الصبر على هذه المواضعات. لا أستطيع أن أعيش بالتقليد، أريد أن أستمتع بالجلسة والعلاقات الخاصة ، مزاجي لايحتمل ممارسة علاقة مع شخص سخيف، وأظن أن أجمل إمرأة سخيفة لاتغريني.
يبدو هذا مديحا للذات، ولكن لا أعرف أن أتعامل مع الناس كما لو كانوا إسقاطات. لا أعرف اذا كان تواضعي نوعا من القلق الشخصي والخوف من الأخرين. الأدب نفسه يحتمل قدرا كبيرا من الوقاحة والخداع، فعندما نكتب نصا، نخدع قليلا أو كثيرا في هذا النص. هذا النص من المحتمل أن يكون فيه أغواء وتأويل، هذا ما أفهمه تماما. عندما أقرأ أشعاري لاحقا، ألاحظ قدرا من الزيف، من العمل البراق الذي يشبه الشعر الجيد بدون أن يكونه. أفهم ان في العمل الأدبي هناك قدرا كبيرا من السرقة ومن الخداع وتوظيف أعمال الأخرين في أعمالنا، من إستنبات من الأخرين بدون أن يبدو ذلك واضحا. هذا أفهمه ليس في الأدب أخلاق، كما أن الحب ليس فيه أخلاق بالمعنى الذي نعرفه. ليس في الأدب أمانة كما أن ليس في الحب وفاء وأمانه. هناك شغب وليس شيئا آخر، هذا الشغب يجعلنا قادرين على إقتراف أي شيء ، هناك رغبة وهي تبرر القيام بجنايات أكيدة. في العمل الأدبي مجانين طاقات، مجانين حضور. لا نستطيع أن نتوارى حقيقة، نحن نكتب، يعني إننا حاضرون، بما أننا مجانين حضور، ذلك يجعل من العمل الادبي مأساويا بمعنى من المعاني. لانعرف متى نسقط، متى نتراجع، متى نخرج من الحلبة، ولكننا مستعدون لعمل كل شيء من أجل أن نبقى في الحلبة، وأحيانا ما نفعله ليس أخلاقيا جدا. هناك أيضا علاقات تنافس مرعبة. واحد فقط ينبغي أن يصل وينبغي أن يسقط الاخرون وراءه وأن لا يصلوا . علينا أن نفرح بأنهم تعثّروا. علينا أن ننظر بطول بال إلى سقوطهم وإنسحابهم وموتهم الأدبي، وأحيانا موتهم الشخصي إذا كان موتهم الأدبي مستحيلا . هذه مهنة عاقة وجنونية، وأظن تحتاج الى قدر لابأس به من الصبر والضغط على النفس، لأن من يفقد أعصابه يسقط أولا. هذه مهنة قاتلة، علينا بإستمرار أن نملك هذا القدرا من التركيز، ولا نعرف متى نفقد هذه المقدرة، ومتى يزول هذا الذهب عن ريشنا، لان هذه المقدرة بالذات إعجازية، لانعرف كيف ملكناها، ولذلك فهي قابلة لان تذهب كما جاءت.
ف ـ في الكثير من قصائدك يتقدم الضمير الجمعي (نحن) على (الأنا). من هم الذين تنوب عنهم في الكلام الشعري، وهل هذه "النحن" تحيل الى إنتماء أو إنتساب الى جماعة ما ؟
ع ـ عندما عدت الى الشعر بعد انقطاع دام سبع سنوات، كنت قد هجرت العمل السياسي، حدث هذا بعد ان بدأت الحرب الاهلية 1974. أول قصائدي غناها مارسيل خليفة ( قصيدة حب الى شعب مهان) كانت مرثية لعلي شعيب الذي قام بعمل إرهابي حين حاصر البنك الأميركي، وقُتل في العملية. هنا بدت عودتي الى الشعر بديلا عن ممارسة العمل السياسي. كانت القصيدة تتكلم عن الجنوب، وأهل الجنوب المهانين وتستعيد تأريخا بطوليا : تاريخ تهريب وإرهاب ومروق، وتهدي الى هؤلاء المهانين هذا التاريخ البطولي. كتبت بعدها بضعة قصائد ذات محور سياسي، لم إدرجها في كتبي، بعدها إنقطعت عن هذا النوع من الشعر.
قصيدة " صور" تبدأ على نحو لافت من "أنا ". (مَنْ أنا لأفعل كذا وكذا. مَنْ أنا لأقف بين المنشدين) . كانت هذه القصيدة تطرح أسئلة عن هذه الأنا، ومَنْ تعجبية : من أنا لأستحق أن أقف بين المنشدين، مَنْ أنا لأستحق أن أكون شاعرا، أو لأ ستحق أن أتكلم؟.
كان هذا المطلع إشارة الى سؤال عن هوية الشعر، عن الشعر نفسه. هذه الأنا، التي كانت في القصيدة باستمرار غير مستحقة او غير كافية، قريبة من "النحن" . كان ذلك قبل أن أكتب (مدافن زجاجية) . بعد أن هجرت الشعر سبع سنوات، عدت اليه في (الوقت بجرعات كبيرة)، كانت الأنا الحائرة المحيرة فيها تقع في منطقة وسطى بين الأنا والهو والنحن. أشعر أن الضمائر لم تكن تعني عندي ماتعنيه على الأرجح عند غيري. أنها تتبادل المواقع. انها خيار إسلوبي ليست موقفا. هذه الضمائر القلقة والحائرة، لاتعبّر عن مدلولها الحقيقي، انها ليست الأنا المكتفية بذاتها، ولا المتفوقة، القادرة، الخالقة، المنتصرة. ليست الأنا البطولية التي تتذوق رحيق نفسها. ربما على نحو غامض وغير مقصود، يخرج شعري عن المَأثور الشعري في القصيدة الحديثة، فأناي لاتشبه ( أنا) أدونيس البطولية والصانعة والخالقة لنفسها، وليست (الأنا) المخربة أو المريضة والمنتحرة والسرطانية أو (أنا) البطل المضاد عند شاعر كأنسي الحاج، وليست الأنا الاحيائية السدومية الخارقة كما نجدها عند شعراء أخرين. (الأنا) في شعري دائما بلا كفايتها، وهي رمادية وتتكلم بلغة قلقة، وتلتحق بضمائر أخرى أو تميل الى إلغاء الضمائر. هي ( أنا) الشاهد والمراقب، و الناقص الخاسر والمنكسر غير المتأكد من نفسه بشكل أو بآخر. انها المكتومة المتساوية مع الموضوع، أو كأنها لشاعر آخر. عندما أكتب قصائد حب غالبا ما تؤخذ على إنها لاتصح أن تكون شعر حب. شعر الحب هو إمتداح الحب، او إمتداح الذات عبر الحب، إمتداح الغنى الداخلي والشغف الشخصي، بينما شعري أقرب الى تشريح الحب ومساءلته. البحث عن الحب عبر الشكوك والأسئلة، والبحث دائماً عن الحب غير المكتمل. أعيش ككاتبين أحدهما يراقب الآخر، شخص قضى كل حياته مندفعا رغم العين المسلطة عليه. حياة شخص مستعد للمجازفة، ولكن بدون إقتناع لا بالنص ولا بنفسه.
إذا جاز أن أتكلم عن نفسي، فما هو خاص فيّ، ينبع من تصوري أن القصيدة تتخطى الشخصي، الشخصي هو غير الذاتي، فالشخصي ليس مصدر شعري، لأن شعري يحاول النجاة من الميلودراما الشخصية، ويحاول الإلتحاق بما يتخطاه. الشخصي بالنسبة لي ليس مصدر شعري. باختصار بين الموضوعي والذاتي، بين الأنا والنحن، مسافات قصيرة.
ف: ماذا يعني لك الإنتماء الشيعي، وهل يلوح في شعرك على نحو غير مباشر؟.
ع : المارونية في لبنان هوية ثقافية، كذلك الشيعية. في الحالين نرى هناك ما يشبه الإنسلاخ عن هذه الهويات التي تثقل أصاحبها، ولكن حتى هذا الانسلاخ أو الموقف النقدي من الطائفة، هو بمعنى ما، جزء من الإنتماء او مسؤولية إزاء هذا الإنتماء. أريد أن أعرف حدود هذه العلاقة ثقافيا، كيف تشكلت لديك؟.
المثقف الشيعي في لبنان، بدأ عمليا، وربما أكثر من أي مثقف آخر، بقطيعة شبه مقصودة عن ماضيه، وهذه القطيعة تكاد تشكل ركيزة أساسية في كينونته الشخصية والثقافية. القطيعة الراديكالية مع الطائفة تجعله تقريبا خارج المجتمع الشيعي، لأنه يتبادل مع هذا المجتمع النبذ. يطرد المجتمع من نفسه والمجتمع يطرده تقريبا. يتم هذا النوع من التنابذ بدون تعقيد كبير، لأن المثقف يخرج من هذا المجتمع بدون ألم، ويخرجه المجتمع بدون تسوية. يبدو له هذا الطريق، خاصة في زخم الصبا الأول، نوعا من التحليق الطوباوي، وهذه الطوباويات تتسامى بالإنتماء الى وحدات أكبر. من هنا كان مثقفو الشيعة الذخيرة الأولى للحركات القومية والشيوعية.
المثقف الماروني يملك تاريخا للهوية المارونية وتأسيسا يصعب عليه الانسلاخ، لأن الطائفة المارونية تملك آلياتها الخاصة لاعادة إدماج المنشقين. هناك مكان للمتمردين داخل الجسم الأوسع للجماعة. المثقف الماروني المنسلخ لايمتنع عن دخول الكنيسة او الإجتماع بالزعامات السياسية، لأن هناك في هذه الطائفة تاريخا للانشقاق والتمرد، ولإعادة احتواء المتمردين والمنشقين. منهم مثلا جبران خليل جبران، أمين الريحاني خليل نعيمة، ومارون عبود. عرفت هذه الطائفة منشقين كبارا وأعادت إدماجهم في تاريخها، بيننما المثقف الشيعي يقوم بالطلاق الكامل مع طائفته.
بالنسبة لي تم الإنشقاق مبكرا، وتأسست القطيعة الثقافية على خلفية الخيارات الثقافية والسياسية. بين الشعراء الشيعة، كنت أعتبر الشاعر الأكثر تغّربا، اي أكثر إتصالا بالتجديد الشعري، ربما كنت أول شاعر مولود شيعيا في جيلي يبدأ بقصيدة النثر، أي ان اتصالي بالقصيدة الغربية، والجرأة على الإنشقاق الشعري، كان يستكمل الإنشقاق الإجتماعي.
عندما يشعر الأديب بأنه أسس لذات ما، سرعان ما ينتبه الى أن داخل هذه الذات هناك الماضي، التربية الأولى، السيرة الشخصية. هناك التأسيس الأول الذي بدا له لفترة طويلة أنه نسيه، أو بات فائضا أو أنه يستطيع أن يبدأ من دونه.
في مرحلة لاحقة يسعى الى التكامل الشخصي عبر إسترداد أو إمتلاك ماضيه، وهي مغامرة أخرى، وليست إطلاقا العودة أو رجوع الأبن الضال أو الإهتداء. إعادة الامتلاك هو نوع من إختراع للماضي، أو خلق إسطورة خاصة أو إبتكار سيرة، كي يمتلك هذا الماضي. هذا التعلق بكتابة السيرة في وقت متأخر هو في الواقع نوع من ابتكار تاريخ وسيرة، لان ما نكتبه ليس هو التاريخ تماما ولا السيرة الحقيقية. هو نوع من إستكمال السيرة الخاصة.
هذا ما فعلته شخصيا وفعلوه آخرون. عندما ينهمك وضاح شرارة، المنشق الأكبر والناقد الأكبر، على دراسة تاريخ الشيعة في جبل عامل حيث ولد. ما الذي يدفعه وبأمكانه ان يجد مواضيع أرحب ومجالات للكتابة أكثر أهمية؟ ليستعيد التاريخ الضيق والصغير والبائد، سوى انه يريد أن يكتب عن نفسه، عن روايته الخاصة بطريقة أو بأخرى. يمكن أنني فعلت الشيء نفسه.
عندما كتبت "صور" لم تكن لي علاقة بها، ولكنها رغبة في كتابة التاريخ الناقص أو تاريخ اللاتاريخ. هل نعتبر هذه المحاولة نتيجة لهذا الانقطاع الذي لم ننتبه الى انه كم كان دراماتيكيا وحدثا تأسيسيا في حياتنا وسنبقى ندور حوله. ظننا ان القطيعة سهلة، وقد حدثت فعلا بسهولة. لكن الأمر لم يبق كذلك فيما بعد.
عندما أقول هذا أفكر بالجميع، أفكر بأحمد بيضون الذي كتب نصوصا مهمة عن سيرته وعن أبيه وتاريخ الشيعة، وجبل عامل. أفكر بحسن قبيسي الذي كان مهتما بالتاريخ الإسلامي، كأنه كان مهتما بتاريخه. أفكر بالشعراء الشيعة وهؤلاء يحيلونني على تصور مماثل.
لاأملك ذاكرة فعلية عن هذا الموضوع، فقدان الذاكرة أو نقصانها أمر ليس إعتباطيا. الصراع ضد الذاكرة الشيعية وإحالتها الى نوع من المكبوت، هو ما لايدل فقط على الأثر العميق لهذه التربية ، وإنما يدل أيضا على الصراع ضد هذه الذاكرة.
صلتي بالتربية الشيعية هي نوع من من علامة غائرة ولا تملك صفة ولا تريد، وتبقى معلقة ومحيرة وحائرة.
عندما كنت صغيرا قرأت في مكتبة أبي مجلدات عبد الفتاح عبد المقصود عن الإمام علي. قرأتها بنوع من إكتشاف حقيقة كبرى وخاصة في الوقت نفسه. يمكنني أن أتذكر كل الطقوس الشيعية، مجالس العزاء، وأستطيع ان أتذكر القصائد الحسينية الأولى، وقد أخلط هذا بالشعر العربي : ابن الرومي بأبي نؤاس، بالمتنبي. أستطيع أن أخلط كل هذا بأبي ، بلغته الفصحى الماخوذة من الكتب، وبأصدقاء أبي وبأحاديثهم التي تتعامل مع التاريخ الشيعي كما لو أنه حصل بالأمس. أستطيع أن أخلط هذا بالتقاليد المحلية : الشاي، السماور، السهرات. والدتي التي تلح على أبي ليصطحبني الى المجالس كي اغدوا رجلا قبل أواني. كل هذه المعاشرة في الواقع كانت حية وملموسة لما تسميه الثقافة الشيعية، وأسميه التربية الشيعية. شعراء جبل عامل، كتّابها، شخصياتها. أقاربي، جدي رجل الدين، رجال الدين من عائلة أمي. أقارب أمي العراقيين، الفولكلور، واحتفالات عاشوراء التي تمر بدار جدي. قرية أمي التي يجري فيها تمثيل واقعة كربلاء، . دار جدي التي كانت حوزة عراقية، عبارة عن بيوت حول فناء فيها عليات ومنخفضات، وغرف نصل اليها وسراديب. عندما أقعد المرض والدي، كان يزورنا يوميا موسى الصدر وصدر الدين شرف الدين. كل هذا يبدو ذخيرة كبيرة من الذكريات، كنزا، ولكني لا أعرف اهميته بالنسبة لي. ما أذكره ليس هو بالضرورة ترك الأثر الأعمق في حياتي ، لابد أن هذا جاء من الأماكن الأبعد غورا، هذه المناطق هي التي تشكل في الغالب، شبكتي الانفعالية. انفعالاتي قد تكون قريبة من مجالس العزاء، من مشهد عاشوراء الذي هو الانفعال بالخسارة النبيلة، نبل الخسارة. أظن هذا التماهي مع القضايا الخاسرة، ونبل التسليم والقبول بالخسارة، قد يكونا المصدر الخفي لإنفعالي الشخصي.
بعد حرب تموز، إنتقلت الى هذه المنطقة من الإحساس. كتبت عن الضاحية الجنوبية والجنوب، كنت لا أملك ذاكرة عنهما، ولكن أملك شعورا بالذنب إزاءهما. الشعور بخيانتي كأنما أهملت جزءا من نفسي تحت القصف. شعرت بأن علي أن أسترد هذا الجزء من نفسي الذي خذلته، وتركته هناك. وهذا الشعور نابع من التسليم بالخسارة، وهو ماتركني عرضة للتأثر، وفي حالة إنفعال شديدة، وكنت أوشك على البكاء. الفيلم الذي صّور بعد يوم من حرب تموز وجدت نفسي أدمع أثناء الحديث مع مخرجه. . اظن ان هذه التربية الشيعية موجودة فيّ أكثر مما يظهر للعيان، وهي نوع من المحرك الداخلي لكتابتي وقد تكون جزئياً وراءجملتي الخاصة.
* * * * *
قصيدة النثر يوم أصبحت ملكا مشاعا
س : هل تعتقد أن مشروع قصيدة النثر وصل الى مفترق صعب، وأن من أسباب إعراض القراء عن أكثر هذا الشعر، هو عدم قدرة شعرائه على الخروج عن شروط قصيدة التفعيلة، مع ان قصيدة التفعيلة تستكمل زمن أفولها؟.
ج: جماهيرية القصيدة الحديثة مفقودة ليس منذ قصيدة النثر، بل منذ شعر التفعيلة. هناك بضع شعراء تفعيلة جماهيريون مثل نزار قباني ومحمود درويش، عدا هذين الأسميين لانجد شاعرا جماهيريا بالقدر الذي وجدناه مع الجواهري وأحمد شوقي. أظن كل الثقافة العربية الحديثة، ما زالت في الهامش، ولم تغد كلاسيكية، هذا يحصل مع أدونيس والسياب كذلك مع الشعراء الأخرين. لذا يخرج الشعر من الحياة العامة، وهكذا يحصل على حريته، وعلى مزيد من الإنفراد والعزلة.
العرب يجدون في الشعر فنا عاما وصاحب وظيفة، ليس فقط في الحياة القبلية، بل في الحياة المدينية أيضا. أنه لسان عام يفترض به أن يرثي بالنيابة عن الجميع ويتحمس بالنيابة عنهم ويحرَض. ربما كان الهجاء أكثر فردية، لذا حقق بعض شروط الإبتكار.
أريد أن أقول أن الشعر كان ذا وظيفة منذ أن إقترن بالقبيلة، ثم بالبلاط، أنه فن رسمي وأظن الحركة الجماهيرية، أو عصر الجماهير دفعه لإداء نفس الوظيفة، كان عليه أن يتمثل إرادة عامة، ومخيلة عامة.
ف:نحن لانتحدث عن الجماهيرية بالمعنى المتعارف، بل عن قراء الشعر من النخبة. هناك بالطبع شعراء متميزون في قصيدة النثر، ولكن هذه القصيدة لايبدو انها أسست مدرسة شعرية، أو إستطاعت أن تعبر الى زمن آخر، غير زمن الشعر الحر؟
ع: لماذا يكون لقصيدة النثر جمهورها الخاص؟
أظن أن القاريء العربي ليس مهيئا لقصيدة النثر، لا لأن النثر الشعري مفقود في الأدب العربي، بل لأسباب أخرى. القرآن وهو مؤثر في حياة العرب، وهوخير مثال للنثر الشعري. كان ينبغي للذائقة العربية أن تكون متمرسة بهذا النوع من النثر، بسبب القرآن. ومع ذلك لم تحظ قصيدة النثر بإعتراف، ولم تجد مقدمات لها وسوابق في الأدب والشعر العربي.
أغلب الظن أن الأمر لايتعلق بتخليها عن الوزن، فهناك لدى القاريء العربي قابلية على القبول بشعر غير موزون، لأن جانبا من التراث العربي كان منعقدا على هذا الإزدواج بين النثر والشعر، لكن أظن أن القاريء العربي لم يقبل بقصيدة النثر، لأنها لاتلائم مفهومه عن الشعر. إذا كان الشعر العربي يبدأ بالحماسة، فلهذا دلالته، بمعنى أن الشعر في تصوره أو تخيله لنفسه نشيد حربي، بمعنى انه "فلذة" ملحمية.
قصيدة النثر لاتناسب مفهوما كهذا، لأنها ليست قصيدة مسيرة، قصيدة النثر ليست حتى قصيدة تحريض ضد العالم.
ف:هناك الكثير من قصائد النثر تضج بالتحريض، ولا تخلو بعضها من حماس مفرط.
ع: نعم محمد الماغوط وجد جمهورا لأن قصيدته تحريض على العالم، وكانت مطابقة لمعاناة جماعية، ولأحلام جماعية، أكثر من قصائد التفعيلة. عندما كان خليل حاوي يرسل شواظيه التوراتية، ويستعيد سدوم وعامورية، وأدونيس يدخل في تجاريب نيتشوية، في هذا الوقت كان محمد الماغوط أكثر إنشغالا بالمسيرة الشعبية، تكلم عن الصعاليك والهامشيين والمنبوذين، فكانوا أبطاله الحقيقيين.
ف: ولكن البياتي وسعدي والصبور وسواهم تبنوا نماذج مثل هذه.
ع: وهذا يؤكد أن ليس هناك من قطيعة بين شعر الماغوط وشعر التفعيلة.
ما فتن العرب في مشروع السياب، ليست العناصر الثقافية أو التجريبية أو بالضرورة العنصر التحديثي في النص، المهم فيه ما يمكن ان أسميه ماديته، أي حسيته، بمعنى أنه الشعر الوحيد الذي يتكلم عن الأرض كأرض، العراق كعراق. قارني السياب بالجواهري، وهما يكتبان عن العراق، ستجدين مثلا في (غريب على الخليج)ما يدلك على المكان بتفصيله، وكل فصاحة الجواهري لم تصنع من شعره شعر أرض، أي شعر مكان محسوس.
مشروع السياب يتحدد الى حد كبير بقصيدة ذاتية، العنصر الحماسي في الشعر، يمنعه من التحول الى ذاتي، هذه القوة تمنع الشعر من ان يصبح شخصيا. شعراء الرومانتيك العرب مثلاً كانوا رخوين وعلى درجة من الهزال العاطفي، بينما ان السياب يملك قوة عاطفية غير موجودة في شعر هؤلاء، وليست عاطفته بلاغية موروثة، انها مبتكرة وحقيقية، وعلى هذا الأساس أستطيع التحدث عن رومانتيكية السياب. شعره آقرب الى انفجار عاطفي لانجده في شعر آخر، وربما احببنا السياب لهذا السبب.
الماغوط على رغم كونه يكتب قصيدة نثر، إستطاع أن يخلق اسطورة شعبية لن نجدها حتى عند شعراء التفعيلة.
قصيدة النثر إن تكلمنا عن بداياتها، عند إنسي الحاج وشوقي ابي شقرا، بدأت إستفزازية، وهي التي أخذت على عاتقها الصراع ضد الذوق العربي والروح العربي والجملة العربية. عندما نقرأ أنسي الحاج، أول ما يتراءى لنا أننا لانقرأ جملة عربية، وهي تسعى الى أن تكون بدون حماية إيقاعية أو بلاغية، أما جملة أبي شقرا، فتبدو لقاريء عربي متمرس جملة بلا شكل بلا إيقاع. نحن إذن امام إستفزازي شعري، وهذا الاستفزاز لايصنع جمهورا، بالمعنى المعتاد. يخلق مشايعيين، وحزبا وفريقا، لكنه لايخلق قراء حقيقيين. وحتى هؤلاء المشايعون ليسوا قراءً حقيقيين لهذه النصوص، لكنهم ضمن جوقة الاستفزاز التي شكلته. أنت تقرأين الشيء لا لنفسه، بل لضديته. قصيدة النثر في البداية كانت تعي انها ينبغي أن لاتكون وارثة لتقليد معين، وبالتالي كانت بلا رصيد، اي انها كانت غير مستقيمة وغير شعرية حتى بالنسبة الى قصيدة النثر الغربية. إذا قارنا شعر أنسي الحاج وابي شقرا، بالشعر الغربي الذي كان يكتب انذاك، لوجدنا أن هذا النتاج حتى بالنسبة للشعر الغربي بلا نموذج.
كان هذا الشعر إستفزازا أو إعتداء على اللغة او على الشعر، كما فهمه العرب. الذي أظنه أن قصيدة النثر بخلاف قصيدة التفعيلة، ولدت كمعركة، كهجوم، كنوع من التنصل الكامل للذاكرة العربية. كانت بهذا المعنى النتيجة المنطقية لمغامرة التحديث التي لم تستطع أن تصل اليها قصيدة التفعيلة، والتي بقيت بهذا المعنى تعد جزءا من الذاكرة الشعرية العربية. أدونيس مثلا كان يقول أنه كان مفعما ببراءة أنسي الحاج، وكان البحث عن نص بريء بلا أب وبلا ذاكرة وبلا تراث، من بين ما تتطلع اليه قصيدة النثر، وهي تعاملت مع نفسها وفق هذا الاعتبار.
كان علينا أن ننتظر منعرجات كثيرة لنجد فعلا قصيدة النثر قد بدلأت الانحراف حتى عن المفهوم الغربي لها، والاستمرار على هذا الانحراف أنشأ عقودا من الإبداع الشعري، بحيث بات من السخف العودة الى نقطة البداية ومحاسبة تلك القصيدة على انحرافها. وهذا يعني أن تأريخها يوجد كوهم وعلينا أن نقبله كما هو. فمقارنة قصيدة النثر مع الأصل الغربي بعد خمسين سنة إنقضت، نوع من السخف والتعجيز.
ف: عندما كتبت قصيدة النثر، هل قصدت إيجاد بداية أو أرضية مختلفة عن بدايتها الأولى؟ وهل تحسب قصيدتك التي عادت الى الموضوع والمكان وتفاصيل الحياة، انحرافا عن أصل قصيدة النثر العربية؟
ع : لم أكن في وارد تصويب وجهة قصيدة النثر عندما كتبت الشعر، كما لا أستطيع أن أعفي نفسي من إضمار بيان شعري، وأظن أن (الوقت بجرعات كبيرة) إضمار لهذا البيان. أظن أنني وجيلي والجيل الذي تلانا، حاولنا فرز الشعر من البيان العام، فنصوص سابقينا كانت أحيانا كثيرة، بياناً يتخطى الشعر، ويقترح نفسه بديلا عن الثقافة كلها. نحن حاولنا إخراج الشعر مما يضمره من نزعات سوريالية او شبه رومانتيكية، من الشخصنة والنموذج البطولي. فقد كان الشعر في هذه البدايات هو "البطل" ويقدم نفسه على أنه بداية التاريخ ومحرك التغيير. تلك الأونة كانت توكل الى الشعر مهمة الإحياء الثقافي والحضاري، أو توكل أليه وظيفة التدمير والتخريب، او انتاج وخلق إنسان جديد. وأظن أن هذا النوع من الطموح لم يكن لديّ ولا لدى سركون بولص او وديع سعادة أو بسّام حجار. هذا الجيل ومن تلاه نجوا من قراءة لبنانية للسوريالية، أو سوريالية عربية. ترى في بدايات قصيدة النثر والشعر رغاء لفظيا أو لعبا لفظيا سيالا وفلكيا، بدون أي موضوع وبدون أي بؤرة، وأحيانا كثيرة بدون "معنى". أظن أننا ضجرنا من الذاتية المغرقة بالجوانية، هذا النوع من الإزدراء للخارج والإزدراء للموضوع. وهذه الجملة من التابوات والمحرمات التي وضعتها القصيدة الحديثة، هي أكبر بكثير من فرصة القصيدة الكلاسيكية. الجدار الصيني بين النثر والشعر، بين السياسة والشعر، بين الخارج والداخل، بين السرد والشعر، وبين المباشرة والشعر، كل هذه كانت تابوات، وتدل الى مفهوم للشعر يخلط الذاتية الرومانطيقية بالهذيان السوريالي، ولم نكن في هذا ولا ذاك.
ف: ولكن في بعض شعرك محاولة لتوليد نوع من السحر الإيحائي، وهو بهذا الشكل او ذاك، عودة الى الرومانتيكية.
ع: خياراتي في الكتابة غير واعية، الشاعر لايختار الأفضل. انها قضية شغف، بمعنى ان انحيازي الى كتابة جسمانية، او تحت جسمانية، كتابة التحلل الجسدي، كتابة الإفرازات، هو جزء من شغف بالتحلل. أنا افتتن بالنفايات، بتحويرات المياه على الحيطان، وأجد فيها جمالية من نوع ما. الفن التشكيلي الحديث يعطيني مبرراً. قد يجد الرسام في مجموعة من المهملات جمالا، في كومة من المسامير. هل صدر هذا عن إعجابي بالفن الحديث أو حصل بالمصادفة؟ لا أعرف. من اللحظة الأولى التي كتبت فيها لم أكن أبالي بقانون شعري أو بقاموس شعري، لا لشيء الا لأنني كنت أجد إيقاعا لكلمات و كمية هائلة من الألفاظ ليست موجودة عادة في القاموس الشعري الرسمي.
ف: مادمت تتحدث عن الايقاع، لنعد الى نقّاد قصيدة النثر العرب، الكثير منهم تحدثوا عن "الايقاع الداخلي أو الخفي" في هذه القصيدة، واستخدموها على نحو متواتر، حتى تحولت الى ثيمة مملة. كيف هو مفهومك للإيقاع؟ هل هو موسقة الشعر او علاقاته اللغوية او علاقاته التركيبية؟.
ع : هو مصطلح غامض، الشعراء العرب وجدوا فيه ذريعة لمصالحة قصيدة النثر مع الشعرية العربية. مفهوم الإيقاع نفسه موضع خلاف. انا أميل الى أنه أسم آخر لما نصطلح على تسميته بالشكل، فهو لايتعلق فقط بتناسق وتجانس وتنافر الحروف، وانما هو قوام النص كله. وهو لايختص بالشعر، بل يوجد في النثر ايضا. نحن نعلم ان الصوت أيا كان هو الأساس في النظم الأدبي، كل أسلبة تقوم على الايقاع.
والايقاع هو جماع كل العلاقات الداخلية في النص على رأي أوكتافيو باث، كل ما نسميه شكلا أو بنية أو تركيبا أو تشبيكا.
هناك من إنتبه الى وجود أوزان داخلية في قصيدة النثر، وفي الشعر الفرنسي هناك من يفّرق بين قصيدة سان جون بيرس وبين قصيدة بودلير (سأم باريس) اوما يرد في شعر هنري ميشو او لوتريامون. شعر بيرس لاينتمي الى نفس النوع الذي عند رامبو او بودلير. فاذا كان شعر بودلير قطعة سردية متوترة وكثيفة، فان شعر بيرس له أوزان داخلية، انه ينتمي الى الشعر الحر لا الى قصيدة النثر كما شعر إليوت.
اذن قصيدة النثر تخرج عن مفهومها الأصلي، لا في الشعر العربي، ولكن في الشعر الفرنسي أيضا. شعر بونفوا لاينتمي الى النوع الذي ينتمي اليه شعر هنري ميشو، فميشو هو قصيدة نثر بالمعنى الذي بدأ مع بودلير وأخرين، ويختلف شعر بونفوا الذي يتألف من أبيات منفصلة، بل من أوزان داخلية ، واذا تجاوزنا الاوزان فهناك قواف داخلية. واظن ان شعري عامر بالقوافي الداخلية.
كل هذا يعني أن أحد نوازع قصيدة النثر هو الشعر الحر، ولكن لانستطيع أن نختصرها بذلك، فهي مدعوة الى أن تكون لها ايقاعها وأوزانها الخاصة. أن تعيد إختبار الإيقاع الشعري، وأن تجعل من اللغة حقلا ديناميكيا لتوليد إيقاعات جديدة. وأظن أن الإيقاع نفسه ليس بعيدا عن الحياة، فاللغة في تفاعلها مع الحياة تتبنى سرعات جديدة وإيقاعات جديدة. إذا كان العرب القدامى يوازنون بين ايقاعاتهم الشعرية وحداء الإبل، ويوحون بأن أوزانهم خرجت من هذا الحداء. إذا كانت الإيقاعات القديمة توازي الطبول الحربية، فنحن نفكر بأن المدينة هي مختبر كامل ومستمر لايقاعات جديدة بلا حصر. يمكن أن نفكر بالقطار مثلا ونحن نقرأ أبولينير.
الواقع أن مسالة الايقاع محيرة، نعرف أن قصيدة أنسي الحاج وأبي شقرا في مصارعتها الإيقاعات الموزونة، لم تنجحا في ترسيخ هذه المسالة، سرعان ما وجدنا تحت تأثير ادونيس وترجمته سان جون بيرس، موجة من قصيدة قاموسية تنطلق او تسعى الى إدراج اللغة كلها في وزن واحد، وتحويل القصيدة الى ترجيع ايقاعي سيّال، يطمس كل التفاصيل الشعرية الأخرى من صورة ومعنى وفراغ وصمت.
وهكذا وجدنا إيقاعا صحراويا، ولست هنا في موقع الإحتجاج على هذا، ولكن أفهم ان قصيدة النثر في هذه المرحلة فاقت القصيدة الموزونة في جزالتها وملحميتها وايقاعها الجرسي. وأظن أن قصيدتي وقصائد جيلي والجيل الذي بعدنا، لم تطق هذا الإبتسار الشعري، هذا النوع من إلغاء النثر في قصيدة النثر. إلغاء الإيقاع المعاصر.
سعينا في جملة ما سعيناه، الى ايقاعات أكثر راهنية، أكثر مدينية.
أظن ان واحدة من جدليات قصيدة النثر، مراوحتها بين الشعر والنثر، بين ايقاع الشعر الميال الى نوع من الواحدية، وايقاع النثر الذي يحوي قدرا أكبر من التعدد والتنوع. وأحسب أن هذا الجدل قد يكون من محركات قصيدة النثر وديناميتها الداخلية.
ف:عندما تؤرخ الحداثة الفرنسية، وقصيدة النثر على وجه التحديد، يعاد إستذكار تأثر بودلير بإدغار الآن بو، وهذا الأخير جوبهت كتاباته بإستنكار وازدراء النقد الاميركي، بل الانكلو سكسوني، بسبب تغنيه بالقبح، وإعراضه عن نزعة تمجيد الجمال، أو مزاوجته بين الفظاظة والوحشية والحنان والرقة. بودلير بدأ مشروعه الشعري في (سأم باريس) من هذا المنطلق. بمقدورنا والحالة هذه ان نقول ان فاصلة التحول في الذائقة الشعرية الفرنسية بدأت هنا. انت كمثقف، وثقافتك الشعرية تبدو في غالب الوقت، وكأنها تعود الى الأصول الفرنسية، هل تعتقد ان ما تسميه "الشغف بالنفايات" و" التحلل الجسدي" او تجاهل الجمال، مرده هذه الثقافة أو انك تتجه بلا وعيك لتمثل هذه التجربة ؟.
ع : لا . المفهوم الفرنسي بدا واضحاً مع شعراء الحداثة اللبنانيين وضمنهم أدونيس، وأنا من الأشخاص الذين بدأوا عملهم الشعري برفض ضمني لهذا المفهوم. إذا كان المفهوم الفرنسي للشعر قد حوّل هذا الشعر الى نوع من الإشتغال على اللغة، وحوّله الى مستوى منقطع ومستقل بذاته، وبدون مقابل أيّ خارج ينطلق منه، فأنا لا أنتمي الى هذه التجربة. اللعبة الشعرية في هذا النتاج تبدو قائمة بنفسها، ومنقطعة عن سواها، ونائية عن الخارج المعيش، وحتى بعيدة عن الفكرة التي تنطلق منها. هذا المفهوم الذي يجعل تجربة الشعر في ذاته، هو مفهوم فرنسي، شاع عن طريق التجربة اللبنانية او الذين مروا بها. بالنسبة لي لم يكن هذا المفهوم كافيا بلا شك. انه قدم لنا تراثا او تحريضا على المغامرة اللغوية، كانت هذه المغامرة موجودة في الأساس قبل الشعر الحديث، جبران ونعيمة وسواهم، يقوم أساس عملهم على المغامرة اللغوية والإيقاعات المختلفة في الكتابة، بما يتضمن ذلك من شكلانية وعمل متحفي (من المتحف). بالتأكيد نحن استفدنا من هذه المغامرة اللغوية، وربما راقت لنا وانغمرنا فيها، ولكن يقظتنا إنبنت على احتجاج عميق عليها. هذا الاحتجاج أتى من مصادر غير فرنسية. مصادر شعر إميركا اللاتينية: اكتافيو باث نيرودا او يونانية حديثة ريتسوس. مصادر ألمانية ريلكة وسواه، وأميركية. كل هذا الشعر يملك دائما علاقة بقارئه، وبالتالي بالحياة والأشياء والفكر.
ف: انا اتحدث عن حيز آخر من شعرك، عن ما يمكن ان نسميه التغني باللاجمال أو القبح؟ .
ع : لماذا لانقول أنه منظار عادي. انا لست بودليريا بهذا المعنى. الشعر يجد مادته في غير الشعر، بمعنى المستوى الشعري ليس قائما، فهناك مقترب شعري، إطار شعري، ولكن الكلام عن الشعري كمستوى منقطع لم يكن واردا. يمكن أن تكون صلتي بالفن التشكيلي الحديث، وراء مقترباتي الجمالية. أنا أرى ان العالم اللغوي والقاموسي غير محدود. فكرتي عن الشعر تتناسب مع البوب آرت، الذي يصبح فيه العالم كله جاهزا للشعر، والقبح جزء من العالم. هذه الشعرية للأشياء توّلد أشكالها وعلاقاتها، بما فيها جمالية التشعث والتشابك والتبعثر . أفكر بالبوب آرت لا لأقيم علاقة بينه وبين شعري، بل كي يكون لي مقتربا لفهم القصيدة. في هذا النوع من الفن تتكون علاقات جديدة هي عبارة عن أيقنة (من إيقونة) للأشياء، غير العادية ووضعها في اطار فني.
ف: تكلمت مرة عن رفضك قصيدة الأفكار أو ما يسمى مجازا "القصيدة المثقفة" أو الذهنية، هل تجد في الفن التشكيلي ما يساعد استبدالها عبر إقامة روابط تجريدية داخل نصك؟
ع : لا أفهم ماهو الفن الذهني، قد أتخيل مثلا أن فن موندريان ذهني، ولكن أنا لا أحبه ولا أعرف الى أي قدر هو فنان أصلا، بمعنى أن مربعاته الشطرنجية لا تعنيني كثيرا. تجريد موندريان قائم في التبرير، فنه ذهني بقدر ماهو مبرر فلسفيا او نظريا، أي مايجعل لهذه اللوحة كيانا. بشكل عام لا أستطيع أن اتخيل لوحة ذهنية، كما لا استطيع أن أتخيل قصيدة من هذا النوع. عندما نتكلم عن تثقيف الشعر، نرى ان هذا هو تحصيل حاصل، فالشعر شأنه شأن الرواية قائم على مفترقات الثقافة. لايمكن أن نتخيل شعرا يقع خارج التقاطع الثقافي. في آخر الأمر في أية لحظة ثقافية نستطيع أن نتوقع هذا التداخل العميق والواسع بين مختلف الحقول الفكرية والفلسفية. لابد أن نجد تبادلا مثابرا بين الفلسفة والشعر والفن والسياسة والعلوم الإنسانية وحتى العلم البحت. أفهم أن الشعر هو عبارة عن فكر بطريقة أو أخرى. بالتالي الكلام عن الشعر بوصفه لايفكر هو نفس الكلام عن الشعر بوصفه بلا معنى، أو مجرد لعب كلامي، هذا الكلام يجعل الشعر بلا مبرر.
أنا من الأشخاص الذين يوافقون على أن الشعر متعة وتسلية ولعب، ولكن شروط لعب متغايرة ومختلفة. مفهوم المتعة واللعب متباينان ومتعددان. من ناحية أخرى فإن الشعر قد يكون فكرا أو سياسة بطريقة أخرى، ولكنه ليس ترجمة للسياسة والفكر والفلسفة كما هي خارجه. ليس ترجمة لبرنامج سياسي او خلاصات فلسفية، الشاعر يملك فكره وفلسفته الداخلية وهو يفكر على طريقته. سبق لميشيل فوكو أن قال أنه لايفهم رينيه شار رغم انه وضع بيتا له على غلاف كتابه (تاريخ الجنس). عندما لايفهم فوكو وهو الأديب الكبير، معنى شعر شار، يعني أن الشعر لا يدخل في نطاق التفكير الفلسفي على طريقة فوكو. نحن نقرأ ريلكه، فنجد شبكة من أنصاف الاسئلة وأنصاف الأفكار وحطامها وشظاياها . وعندما يترجم هيدغر شعر ريلكه الى الفلسفة، وليس العكس، نقترب من الفكرة التي تقول أن الشعر ليس ترجمة للفلسفة. الشعر نوع من الفكر يمكن أن يترجم الى فلسفة وغيرها، ولكننا أن نفهم تثقيف الشعر إذا وضع مقابل إنشغالات فلسفية أو معرفة فلسفية. أفهم فقط شعرا يبحث في تحتية (من التحت) الأفكار وما خلف الأسئلة، هناك ماتحت الفكرة والسؤال. بالتالي لا نستطيع أن نعرف ما محمول الثقافة في الشعر. هل على الشاعر ان يعرف فرويد او يقرأ كانت مثلاً؟. ليس بالضرورة أن يوصف الشعر بثقافته.
عندما إنتبهنا لبيروت
ف: بيروت هذا الفضاء الحميمي، مدينة الألفة والتحادث بين الأشياء، بزواريبها ومقاهيها وأماكنها التي تمد يد الصداقة، هل تركت أثرا في شعرك؟ . في الحوار أو حتى المنلوغ الذي يحسب على فن التحادث في قصيدتك مثلا، هل هناك صدى لروح المكان؟. و في ديوانك الاخير ( ب. ب. ب) وفي الجزء الذي يخص بيروت، كانت تلوح مجرد مدينة مفترضة . كيف ترى تأثير بيروت عليك؟.
ع : كتبت ثلاث روايات أحداثها تدور في صور، ولم اكتب عن بيروت. لا استطيع ان ادعي أن ليس لي حياة في بيروت، ولكن إذا وضعنا الأدب جانبا، أمكن لي ان اتكلم عن علاقتي المباشرة بصور أو بيروت. أظن أن لدي أنا حنين الى المكان، اكثر مما انا موجود في أمكنة فعلية. الأمكنة تكاد أن تكون تطلعا وطموحا بما فيه الأمكنة التي نعيش فيها. هناك صراع بيني وبين المكان، وهناك في الأرجح لا وعي بهذه العلاقة، شبيه باللاوعي الذي بيني وبين أمي مثلا. . بمعنى أن جزءا من العلاقة يسقط في الغيبوبة، ويسقط في النسيان، جزءا من العلاقة غائب ولم يترّمز ولا يملك لغة. (صور) مثلا، كما قلت عنها أكثر من مرة، كانت مكانا لا أشعر به، مكانا للضرورة. كانت نوعا من المخيم المستقر.
نحن نعيش في أمكنة لانراها، ولا نحس بها، ولا نشعر بتداخلها في حياتنا. أمكنة لاتملك أي فائض عن الضرورة، سواء كان حياتيا أو جماليا. علاقة الغياب هذه لم تختلف كثيرا عن علاقتي ببيروت. إذا كانت صور لاتشبه أي مثال في رأسي، فبيروت لاتشبه المدينة.
يوم ذهبت الى باريس لأول مرة، سُحرت إذ وجدت نفسي أمام مدينة، وبالتالي فأن باريس مهمة لي كمكان: شوارعها، وكنائسها، ونهرها ومتاحفها وأرصفتها ومقاهيها، كل تلك الأشياء حاضرة بالنسبة لي أكثر من الناس الذين يهمونني أقل بكثير. بينما بيروت ليست شيئا سوى الناس الذين أعرفهم. منذ سنوات زارتني صديقة فرنسية مفتونة بالأمكنة القديمة في مدينتها، وبسبب ذلك توفر لها إنتباه خاص لكل قديم في كل مكان. سرت معها في الحي الذي أسكنه منذذ سبع سنوات، وفجأة بدأت هذه الصديقة تدلني على تفاصيل في الحي الذي أسكنه، لم تتوفر لي رؤيتها رغم مروري بها كل يوم.
منذ عدة سنوات نشأ لدي وعي بأنه ينبغي أن أرى الأشياء التي إصادفها ولا أتركها تمر خفية. ورغم ذلك لم أكن أملك الإستعداد الكافي والإنتباه لتفاصيل ما أراه. يتراءى لي أنني مجددا أعيش في مكان لا أراه، على الأقل أحتاج مسافة ما لأعيد تخيله.
وحين كتبت آخر نصوصي (دقيقة تأخير عن الواقع) عن بيروت، كتبت تحت شعور يشبه الإلتزام. وجدت أن من الغريب أن نكون شعراء في لبنان ولا نكتب عن بيروت. تقاعسنا في الكتابة عن بيروت له دلالات ما. هذه الدلالات تنقض بعض تطلعاتنا وبعض إداعاءاتنا. لم يكن هذا الدافع الوحيد للكتابة، ولكن لا أنكر ان التحدي كان من بين دوافعي. لا أريد ان أتكلم عن النص المعنون ( أبواب بيروتية )، فحين نكتب عن المدينة نفهم في البدء إستحالة ذلك، وأن جلّ ما يمكن أن نفعله هو نشر بضع تفاصيل على أمل أن تكون هذه فيما بينها إيعازات لمدينة.
الأمكنة في الشعر قد تكون نوعا من ال (هو) الكبيرة، من (أنا ) بانورامية، من (نحن) التي قد تكون فضاء لغويا. المهم لا تكون هذه الامكنة في الشعر مدنا حقيقية، وأمكنة حقيقية، وقد توجد مدن في تفاصيل أخرى شعرية.
ف: المدينة لاتتجسد بالوصف، او تركيب علاقات بين أمكنتها، بل هي كما أتخيل، وجود يملي عليك نوع الكتابة. الحوار عند الشاعر الذي يعيش في الصحراء، غير الذي يعيش في مدينة صناعية او مترامية الأطراف. ما قصدته هنا انك لو لاح لك البحر في بيروت بين البيوت، او سرت في واحدة من وزواريبها المتقاربة، تجد الاشياء وكأنها بين يديك. تمسك بها وتشعر بوجودها. هذا الذي قصدته.
ع: بدأت انا مع صور، وكان حسن العبدالله يومذاك يكتب عن صيدا، وبسام حجار إختار أن يكتب قصائد عن بيته وحجرته. أظن أن شعرنا، وهذا ما يميزه، عن شعر الرواد، هو شعر مكان، بالقياس الى شعر الزمان الذي هو شعر الرواد. بمعنى أن شعر الرواد كان حوارا مع الأزمنة، مع الماضي ومع الذاكرة ومع المستقبل.
ف: ولكن عندما كتبت "صور" كنت تفعل مثل هذا، في محاولتك تحويلها الى مكان إنشادي او ملحمي .
ع : كان حوار الرواد في زمان مطلق، وتاريخ "صور" القصيدة ليس زمانا مطلقا. هو طبقات المكان الذي لايقصد منه جغرافيا محددة. قصيدة صور مسرحها مكان محدد، وتنطلق من رؤيا البحث عن المكان وتاريخه، وليس البحث عن زمان مفقود. شعر الرواد كان في شمولية دعوته المستقبلية، في إنسانه الجديد، كان حوارا لايتموضع في مكان.
ف: أي رواد تقصد؟ السياب كما قلت عنه أنت كان يكتب عن أمكنة بعينها.
ع: أقصد الريادة اللبنانية. الحداثة التي بدأت هنا كانت زمنا عالميا، والإلتحاق بالحداثة، كان إلتحاما بهذه اللحظة العالمية. لم يكن المكان بمعنى شروط الإستعداد له، أو شروط الواقع نفسه، حاضرة في بداية الدعوة الحداثية. هناك مسيرة عالمية ، وهناك لحظة عالمية، ولهذا علينا أن نفكر بزمان عالمي. هذا الشعر لايكترث بالمكان الذي ينطلق منه، بالعكس كانت الحداثة إنفصالا عنه، وانفصالا عن استعداداته وإمكاناته وشروطه. أظن أن إفلاس الحداثة الأولى، بمعنى إنهيار أحلام العالمية، وإنهيار فكرة الإلتحاق السهل والبديهي بالعصر، وإنهيار إنشاء مجتمع معاصر، إنسان جديد، هو ما عشناه نحن. الأرجح كان إنهيارا لكل هذه الأعمدة الكوزموبولوتية التي عشناها، لذا بدأ الصحو على الأمكنة. وأظن ان اليقظة على الأمكنة، كانت بداية مخيلة أخرى، وهذه المخيلة كانت بمعنى ما، مدينية، وتبّدى عل إثرها، فقدان الملحمية الأولى، والتشخيص البطولي والبيان الشامل والذاتية المتضخمة والأنوية المتضخمة، مقابل مشهد شعري آخر يتداخل فيه الداخل والخارج، ويبدو النص بلا مؤلف، أو تبدو الأنا المتكلمة مراقبة وملاحظة، أكثر مما هي خالقة أو محورية.
بطبيعة الحال بدأ كما لو أن هناك طموحا لقصيدة ليس لها طابع أفقي، ولكنها تنبني من مجموعة تقاطعات وتشبيكات كبيرة وفضاء مليء بمتناثرات. ناهيك عن إعادة الإعتبار للعاديات والنوافل، إعادة الإعتبار للأشياء والخارج. عند بسام حجار الطبيعة لاتوجد، وفي شعري هناك طبيعة، ولكنها غير التي في شعر الرواد. قد تكون هذه العناصر ليست مدينية، ولكنها عناصر تطلّع الى المدينة، المدينة تغدو بين أحلامنا. إذا كان الشعراء الأوائل باحثين عن زمان مفقود، فنحن نبحث عن مكان مفقود، لأن المدينة العربية هي مكان مفقود، فالضجر من عالم صحراوي وزراعي، تبدو فيه المدينة وكأنها حلم.
ف: كيف تغير أدبك والأدب اللبناني عموما بعد الحرب الأهلية؟
ع : انقطعتُ أربع سنوات عن الكتابة، بعد أن كتبت "صور" عشية الحرب. بدا لي كأن هناك هوة لابد أن أستوعبها. لا أستطيع أن أواصل كما كتبت في "صور"، لانها فجأة صارت في زمن آخر. "صور" في فضائها الزماني والمكاني، في ملحميتها وإنشادها، وبهندستها المتماسكة، لم تعد قصيدة حاضرة. الحرب شكلت قطيعة شعرية بالنسبة ألي، وأظن كذلك بالنسبة الى الأخرين. من هذا القطع ولدت الرواية اللبنانية، وولد الشعر الجديد، وأظن أن الموجة الشعرية الثانية خرجت من هذا القطع. الحرب اعادتنا الى مكان ما قبلها. فالثقافة اللبنانية كانت تتعالى على المكان، أو تجد أن طموحها وتطلعها الكزموبوليتي الحداثي أوسع من الرقعة الضيقة التي هي لبنان أو بيروت. بل تجد أن لبنان هو نفسه أكبر من مكان، فالمكان اللبناني بضألته وعادية تفاصيله، أقل من الفكرة اللبنانية، كما سميّت يومذاك. كان لبنان بالنسبة لمثقفيه على المستوى الثقافي والفلسفي والحضاري، محطة أوسع من واقعها الجغرافي.
أذكر في لقاء مع يوسف حبش الأشقر، قلت له أن روايتك بدون مكان، وهي عبارة عن تقاطعات وحوارات خارج أي تفاصيل مكانية، قال ببساطة انه لامكان في لبنان، هو أصغر من أن يكون مكانا.
مع الحرب، ومع إحتمالات زوال لبنان وإختفائه كجغرافيا، بدأ الصحو على المكان، وتحولت الثقافة من التعالي والعالمية المفرطة، الى إنشغال تفصيلي بالمكان اللبناني. هذه المكانية في الثقافة والأدب كانت على صلة وثيقة بالحرب. الحرب نقلتنا من طوبى عالمية الى حنين ضيق، تحول بحد ذاته شظايا وفقدان أي إحساس بالمدى. صرنا حبساء حجراتنا، خرجنا من السباحة في وهم عالمي الى السباحة ما تحت الواقع. إذا كنت أحكي عن إفرازات الجسد والتحلل، فعالم الياس خوري هو الزعران والعاهرات، صرنا في قاع الواقع.
ف: بيروت اليوم لاتبدو وكأنها على موعد مع حرب قادمة، هي تعيش زمنها الخاص، زمن التغافل عن الخوف، مع انها خائفة. أليست هذه حالة شعرية خاصة؟ ، ألا تنتج ثقافة توحي بالإستقرار و تطمئن نفسها بمشاريع عابرة للحرب، ولكنها أقرب الى مغامرات، او مراثونات للنجاة من الكارثة؟.
ع: أخشى من ان هذه اللحظة تفوتنا. مرة جديدة يبدو الواقع اكثر خيالية من الفن. انه مليء بمفارقات وسخر وافتضاح وتمويهات عملاقة وديناصورات هاربة ولا ندري من أي تاريخ وأي زمن. مرة جديدة تنهار طبقة أخرى من هندستنا الفكرية والتخييلية ونغدو بدون مرجع. ولا نعرف ايضا هذه المرة الى اين يتم التراجع اذ كان وجد حقا ما نتراجع اليه، الفكرة الأولى هي اننا بلا تاريخ وربما بلا واقع. شيء كهذا قد يجرد كل ما نفعله من أي قيمة. نتساءل عندئذ اذا كان لنا حق في ان نكتب او اذا كنا كتبنا اصلا. لا نحلم بالطبع في ان نعبر عن هذه اللحظة بالشعر. اننا نواجه بأيدينا، بالنثر المباشر، بالكتابة السياسية، لا يمكننا ان ننتظر وعلينا فورا ان نواجه، هذا ما أفعله الآن بدون أي أمل تقريباً. مرة ثانية تتساوى السياسة والفن في كونهما معا لعباً.