أمكنني في فترة أن ألاحظ تأثير سليم بركات الواسع في شعر العرب، ولم أتعجب من ذلك بالطبع، إلا أنني وجدته أبكر من العادة، فالأرجح أن بركات بدأ مؤثراً. أمر لم يتح لمجايليه الذين يبدو بركات لهذا السبب بالضبط، أسبق منهم، وربما أسنّ منهم.
لم يكن بركات بالنسبة لي حيرة في يوم، لكأنني كنت أجزم بأنه سيوجد،وأن نزعة ما كان لابد لها أن تصل الى تمامها أو شبه تمامها، وأن تتجذر وتتأصل وتتركز في نصه.
ذلك أن عند بركات نزوع، لنسمع نزوعاً، الى إنجاز متكامل بحيث يصعب أن يتحقق أكثر ولو بخطوة واحدة.
انه واحد من انجازات نادرة غدت مثالاً. ذلك أن ما يبهرنا ويشق علينا في آن في نص بركات هذا الاستعداد لأن يكون مثالاً. إذا كنت لاحظت في أوائل نصوصه بعض المواضع الفجة والقليلة الصقل، فإن هذا ينتفي تماماً في أواسط نصوصه ونهاياتها، يصعب أن نجد زلة في هذه. بل يصعب أن نقف على جزيء لم يأخذ نصيبه من الصقل والعناية و التوازن و النظم على ما كان يقول الجرجاني.
لا أريد أن اسمي النزوع الذي تحول معماراً وهندسة ونظاماً في عمل بركات، انه نزوع شعري أولاً، ومن النافل أن نسميه لغوياً. إذ لا أظن أن اللغة نعت فنطلقها على احد دون سواه، إنها أصل في كل عبارة.
يترآى لي أن صنيع سليم بركات في اللغة يشبه صنيع النحات الذي يستنطق مادته. ولعلنا لا ننسى ذلك النحات الذي قال انه لا يفعل سوى أن يزيل الزوائد عن الحجر.
ولنا أن نفكر أحياناً أن سليم بركات يزيل الزوائد عن اللغة، بل لنا أن نفكر بأنه يجعل حقاً من اللغة مادته، وأنه يصنع فيها صنيع النحات في مادته: يحفر ويقص ويصقل، وفي كل ذلك نراه يفعل في مادته بقدر ما يفعل في صوت (مادية) اللغة هذه تعفيها من أن تكون ترجيعاً وتصويتا فحسب. لكأن للغة سليم بركات ملمساً وأنت تسمعها فتجد لها صفحة خشنة وصفحة ناعمة، وتجد لها جلداً ومساماً بل أطرافاً وحوافي. ثم أن اللغة في أكثر أشعار سليم بركات مسافة. لكأن الفصاحة هنا مدى بين الكتابة والقارئ، إذ لا يتطابق سليم بركات مع لغته الفصيحة هذه ولا يباشرها بدون وعي الى فرق ما بينها وبينه، وبدون أن يبدأ من التراث كما لو كان يبدأ من حياته الخاصة.
القصيدة هكذا وعي للمدى و المسافة والفصاحة، هي مساحة باروكية أو أكزوتيكية، وحين يعود الشاعر إليها فكما يفعل الرسام حين يستعيد فضاءً بيزنطيا أو إغريقيا أو إسلاميا في لوحته، فضاء هو في ذات الوقت زمن ومدى وانتحال.

غير أن للفصاحة غواياتها، وهي في أحيان تعمّي على نفسها وتعمّي على صاحبها، وتفلت بلا عقال وتعدو على المسافة  وعلى الزمن. ذلك صحيح، وقد يحصل آناء قليلة أو كثيرة. إذ مثل هذا الأمر محسوب بدقة مرهقة قد لا تبقى دائماً متأهبة حاضرة وقد ينتابها سهو أو ما يشبه السهو.

كان نص بركات دائماً فاتناً، وقد فتن بمثاله وفتن بكماله، ولعل ما أعفاني شخصياً من أن أتأثره هو شعوري بكماله المرهق، ووصوله الى غاية لا أحسن أن أتسلق إليها، وخير لي أن أجد نفسي في مناطق لم تمهد بالقدر ذاته، ولا يزال فيها بقية للآخرين.