صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

بسام حجاز بسام حجار بين قلّة قليلة من الشعراء العرب المعاصرين الذين يكتبون قصيدة النثر ويمكن لقصائدهم أن تسدي (خدمة) نوعية خاصة للدراسة النقدية التي تسعي إلى إنصاف جماليات قصيدة النثر ليس عن طريق القفز مباشرة إلي بلاغة تنصيبها كخيار في الكتابة الشعرية اكتسب شرعيته النوعية والكمية والزمنية، بل قبلئذ عن طريق تناولها كإشكالية ما تزال عالقة في حقل القراءة العريضة والقارئ العريض. وقد يكون هذا الشطر الثاني هو الحيوي والأكثر ضرورة، خصوصاً وأنه يستوجب زجّ قصيدة النثر ـ وعبر نصوصها الأفضل بطبيعة الحال ـ في منطقة التحدي المعقدة حيث تستوطن الذائقة، تقليدية كانت أم حداثية، متحركة أم راكدة، أحادية أم تعددية.

ولقد آن الأوان لكي تواجه قصيدة النثر العربية المعاصرة مصائرها القرائية، ومن الملحّ اليوم تنظيم مواجهة علنية مفتوحة، صاخبة صريحة بقدر ما هي منظمة ومعمّقة، بين قصيدة النثر العربية والقارئ، بين النصّ وقراءته / قراءاته، وبين الشكل والحياة. ذلك لأن قدراً مدهشاً من الإجحاف وقع ويقع في أطوار مفصلية من حياة قصيدة النثر، هنالك حيث يتصبب عرق الشاعر المبدع دونما مثوبة أو إنصاف، وحيث تصطخب التجربة الشعرية بصدق وعمق ولا يملك القارئ عُدّة كافية تجنّبه المرور علي هذه السيرورة مرور الكرام.
بعض الإشكالية يبدأ من غياب ـ وبالتالي ضرورة استيلاد وتوطيد ـ أعراف قراءة تعددية تسمح بتآخي الأشكال، وتسهّل تأسيس أكثر من تعارف واحد علي طبيعة وحدود الشكل، وتدير منطق تعايش تعبيري واضح المعالم بين خيارات الكتابة المتواجدة في آن معاً أمام القارئ وفي ساحة القراءة. وبعض الإشكالية، من جانب آخر، يتصل بعزوف قصيدة النثر عن مواجهة جدل معضلتها الكبرى: أنها تستخدم النثر في كتابة الشعر، ولكنها تقوم بما يشبه (ترحيل) هذا الوسيط النبيل الثرّ إلي ما ليس فيه وما لا ينبغي أن يكون فيه، والهروب به إلي الأمام نحو (وزن) من نوع ما هو خرافة (الإيقاع الداخلي) تارة، أو هياج اللغة وتهييج الاستعارة طوراً. كذلك تبدو قصيدة النثر كمن يراهن علي زمن ميتافيزيقي يختزن قارئاً قياسياً مصنّعاً وقراءة (راقية) وهمية، متناسية أن الزمن إنساني، وانه زمن القارئ الذي لا يمكن أن يظلّ فأر تجارب إبداعية، ولكنه لا يمكن إلا أن يكون حاضنة صالحة لاستقبال توتّر القديم والجديد، السكون والحركة، وتنويعات الحركة الواحدة قبل ذلك كله وبسببه.

وفي مجموعته الجديدة المتألقة (بضعة أشياء) (1)، ولكن أيضاً منذ مجموعته الثالثة المتميّزة (فقط لو يدك (1990)، تسدي قصيدة بسام حجار خدمة خاصة ثمينة لأي نقاش نقدي حول إشكالية من هذا النوع تحديداً. ذلك لأنها تشتغل علي شعريات النثر بوصفه نثراً من سلالة النثر، والنثر وحده، فلا تهرب به إلي وراء أو أمام، ولا ترحّله إلي مناطق أخري غير شعريّته. وهي أيضاً قصيدة تقطع الخطوة الضرورية التالية حين تقترح (غريزة شكل) خاصة بها، تتكوّن أثناء برهة القراءة وبسبب من معطيات القراءة، فيصبح من نافل القول إنها تقطع الطريق علي قدوم القارئ إلي القصيدة متأبطاً غرائزه المسبقة الصنع حول الشكل، أو تختزل كثيراً فرصة قدومه متشبثاً بأعراف جاهزة حول شكل واحد وحيد ترسّب طويلاً في قرارته ولا ينوي اللجوء إلي سواه إذ يقرأ القصيدة. في المقطع التالي من (حين تكون السماء ليلاً، حين يكون الليل سماء)، وهي أطول قصائد المجموعة (189 سطراً) ولعلها بين أرفع نماذج قصيدة النثر العربية في عقد التسعينات بأسره، يكتب بسام حجار:


وأحببتُ الوردة ولشدّة
ما أحببتُ
جفّت البتلات
وما علمتُ قبل الآن أنّ
يدي البلا ملمس
هي يد الميت الذي كنتُه
وقلبي قربة من البكاء،
وجسمي فزّاعة طير
نُصبت في برّية موحشة
حيث لا تنضج ثمار.


فيزجّ قارئه في تلك الشبكة الغامضة / الأليفة من عمارة شعرية تبدو غاية في حدّ ذاتها وليست نتاجاً لتعالق المعني والصور والتراكيب والألفاظ والأصوات، وتبدو كمن يجرّ اللغة إلي ما هو أبعد من اللغة، وإلي كثافة رهيفة منتقاة من تجربة إنسانية يتعذّر علي أية لغة أن تعبّر عن كامل أبعادها. هي برهة فريدة من ائتلاف عناصر الشكل علي النحو الشعائري (الخام) الذي يتيح انطلاق العبارة أبعد بكثير من حدود ما هو موروث في المفردات والجمل والمعاني. وهي نموذج رفيع لذلك المستوي الذي بحث عنه ستيفان مالارميه في أي شعر عظيم: التقاط (سديم لا يُثمّن، هو ذاك الذي يسبح في اللجّة السرية لأي فكر إنساني).

في مثل هذا النوع من الشعر، الذي يكتبه بسام حجار ونفر (قليل لسوء الحظ) من شعراء قصيدة النثر، يتعالى صوت الشعر وليس الصرير الحادّ الصاخب لمطاحن (الإيقاع الداخلي) و(انفجار اللغة) و(الإنزياح المجازي). ويصعب علي قارئ الشعر المتوسط الدربة (فكيف بذاك المتمرّس!) أن يخضع هذا الشعر إلي مرجعية شكل مسبقة الصنع والاستقرار، كأن ينقّب فيه عن معيار الإيقاع التفعيلي مثلاً، أو أن يلتمس طرائق (الإيقاع) الذي عوّدته عليه النماذج الركيكة من النثر الشعري المبتذل (التكرار بصفة خاصة، والتوزيع البهلواني لعشرات الصور والاستعارات). الإيقاعات هنا ليست (داخلية) كما أنها ليست (خارجية) أيضاً. وهي ليست فيزياء الوَقْع وحده، ولا سيمياء اللغة وحدها. إنها، ببساطة فنيّة بارعة، معجزة تجريدية مفتوحة علي فضاء بالغ الخصوصية من حوار المعني والصوت في برهة شكل صافية، وبوسيلة لغة ساعية أبداً إلي ما هو أبعد من أي تصريح لغوي مسبق.

كذلك يصعب علي قارئ هذا النوع من الشعر أن يخسفه إلي قراءة شعرية (محايدة) متحللة من معيار اللغة الشعرية الأمّ، كما هو حال القارئ إذ يقرأ قصيدة مترجمة وهو في حلّ من التماس خصوصيات نسيجها اللفظي أو أبنيتها الإيقاعية. قصيدة بسام حجار مكتوبة بلغة واحدة وحيدة هي العربية الفصحى، العربية وهي تؤدّي عشرات الوظائف الشعرية الرفيعة، والعربية التي لا تتردد أصداء (عجماء) في جملها وتراكيبها واشتقاقاتها ومعانيها وظلال معانيها. وحين يكتب بسام حجار:


قالَ اتبعني
وما أحببتُ شيئاً
إلا أماتني
وأحياني كطيفٍ
ثمّ صار غريبي.


فإن لغته العربية هذه ليست النظير الشعري للعربية التي يستخدمها القارئ لقراءة نصّ مترجم من أرتور رامبو أو ت. س. إليوت أو يانيس ريتسوس، أياً كانت سويّة الترجمة. اللغة هنا جزء عضوي صانع لغريزة شكل خاصة بقصيدة بسام حجار، وعنصر مشارك في برهة تكوّن الشكل أثناء قراءة محددة لقصيدة محددة بدورها، اسمها في المثال أعلاه (اتبعني قال الملاك). ولأن قرينة الشكل المسبق، المترسب عميقاً في قرارة القارئ، ينبغي أن تسقط سريعاً من حساب قراءة هذا الشعر، فإن رهان القصيدة الأكبر سوف ينحصر في مدي قدرة الشاعر علي اقتراح الشعر وحده، وتوريط القارئ في جهد العثور علي ما هو شعر فقط وليس تحايلاً خطابياً علي قول الشعر، الأمر الذي يرقي بالضرورة إلي مستوي تخليص النثر مما فيه من (قول نثري) يردّه ويرتد به إلي أرومته الخطابية المصنفة: نثر المسيو جوردان دون سواه، الذي هو فنّ بدوره، ولكنه غير الشعر!

وفي مقابل السؤالين الشهيرين حول القول الشعري: (لماذا لا تقول ما يُفهم) و(لماذا لا تفهم ما يُقال)، وقف بسام حجار قاب قوسين أو أدني من اقتراح سؤال ثالث: لِمَ لا تفهم ما لا يُقال؟ إذ (لعل الجدوى، كل الجدوى، في إبراء حدّ الشعر مما يكتنف القول من لغو ورطانة) (2). وأن يفهم القارئ ما لا يُقال في القصيدة مسألة تعني ذهابه إلي صمت القصيدة، واستنطاق صخبها الخفيّ أو المتخفي، أو قيام القارئ نفسه بصياغة هذا الصخب إذا تعذّر استنطاقه من واقع القصيدة. (وبسام حجار يتساءل عما إذا كان الشعر (حدّ استقراء الصمت. فقط)).

ولكن عمليات كهذه لا تجري في مستوي (تفكيك) القصيدة إلي وحدات من القول الذي لا يُقال، إذ أن نشاطاً كهذا لن يتجاوز حدود التنقيب عن وحدات المعني والدلالة والأفكار... والتي يمكن العثور عليها مهما تستّرت واستترت، وأياً كنت وجهتها في (تضييع) القول وتحويله إلي (ما لا يُقال). ذهاب القارئ إلي صمت القصيدة، وبالتالي إلي جوهرها الذي يتوجب أن لا يُقال بالفعل، هو في المقام الأول صيغة تعاقد مع الشكل الشعري، الذي يصنع وحده سلسلة المعطيات التعبيرية الكفيلة بتقديم وحدات المعني والدلالة والأفكار، بهذه الوجهة البارعة (حين ينقلب نثر الحياة اليومية إلي لغة شعرية فقط)، أو بتلك الوجهة الرديئة (حين يراوح نثر الحياة اليومية بين توظيف (الشاعرية) الطبيعية الكامنة في اللغة والمشاعر والأشياء والملقاة في الشوارع، وبين تشويه هذه الشاعرية عن طريق تصنيعها إلي (شعر) ليست قرينته الكبرى سوي الترتيب الطباعي للنصّ في صيغة سطور شعرية!).

وإذا كان لنثر الحياة اليومية أن يحتوي ما شاء من لغو ومن معني، من رطانة ومن فصاحة، من ابتذال أو جزالة، فإن (نثر الحياة) ـ وهو ليس سوي اللغة الشعرية كما حلم بها بودلير ذات يوم ـ لا يمكن أن يكون لغة شعرية ونثر حياة يومية في آن معاً، وليس له أن يتبرأ من معضلة القول النثري لمجرّد أنه يطلق علي النثر تسمية الشعر. إمّا أن يكون لغة شعرية، لها ما لها وعليها ما عليها في حساب الشعر قبل حيثيات ما يُقال وما لا يُقال، أو هو لغة نثرية حسابها التعاقدي الأول يدور حول وظائف خطابية مثل الإيصال والاتصال.

وبسام حجار أستاذ ماهر في صياغة تلك التعاقدات مع الشكل الشعري، وفنّان متمرّس في تنويع بنودها وشروطها وآجالها ضمن القصيدة الواحدة أو في مجموعة قصائد، وشاعر مرهف مثقل بوطأة نفسه وبالغ التوغّل في سطوحها حيث يتّسق الصخب الناجم عن احتشاد الأشياء والعناصر في العالم الخارجي، مع الصمت المطبق الآسر الذي يخيّم علي الأعماق السحيقة من العوالم الداخلية لنفس آدمية الحسّ والحساسية. في قصيدة (المنام) يكتب حجار:


أكانَ في وهمنا فقط
أن الشمعة كانت تنزّ ضوءاً
تالفاً
وظلال الأيدي تثرثر علي الجدران،
وأن الجسد المسجّي
ليس أختاً
لأن الأخت منامٌ أبيض
لرجل
تريّث في نومه
أو ضلّ طريقه إليها
فآوته الشجرة المستوحدة
في ظلّها.


غريزة الشكل في هذا المقطع يمكن أن تبدأ من إيحائية لا محدودة في تحوّلات وتجاورات مفردة واحدة مثل الأخت: جسد مسجّي ليس أختاً / منام أبيض / منام لرجل تريّث في نومه / الأخت رجل ضلّ طريقه إلي الأخت / الشجرة المستوحدة آوت الرجل ـ الأخت في ظلها / الظل المرتد إلي ظلال أيدٍ تثرثر علي الجدران / الظلال التي تصنعها شمعة تنزّ ضوءاً تالفاً / أكان وهماً؟ أو يمكن أن تبدأ من انفصال الدلالة بين مفردات مثل وهم، شمعة، تالف، تثرثر، أخت منام، أبيض، شجرة، أو اتصال العلاقات المجازية في جمل صُوَرية مثل:
شمعة تنزّ، جسد مسجّي ليس أختاً، أخت منام أبيض، رجل تريّث في نومه، شجرة مستوحدة في ظلها. أو قد تبدأ من الدور الإيقاعي الذي تلعبه وحدات نحوية مثل أدوات وحروف الاستفهام والنصب والعطف والاستئناف، في سياق أزمنة فعلية متغايرة. والأرجح أن غريزة الشكل سوف تبدأ من هذه العناصر بأجمعها، فضلاً عن الكثير سواها من عناصر القراءة الفردية التي قد يستولدها كلّ قارئ لنفسه، بوحي من معطيات نفسه كما قرأت (صمت) المقطع وكما استلمت ما لم تقله السطور الشعرية جهاراً، وذلك لأسباب فردية تماماً وليس في وسع أي رصد تحليلي معياري (وقياسي بالضرورة) أن يلمّ بها، بل ومن الخير له ألا يفعل في الأساس!

وبسام حجار يمارس الكثير من النواس البارع بين الإيحاء بما لا يوصف لأنه يفوق الوصف، ومقاربة العديد مما يوصف بالفعل لأنه يساهم في توسيع إيحائية ما لا يوصف. الحالة الأولي هي حصّة النفس من التجربة الداخلية، الإنسانية بكلّ ما تعنيه الكلمة وعلي العكس مما يلوح للوهلة الأولي. والمرء يسمع في كل يوم تلك العبارات البسيطة (المدهشة!) التي تقول: (لا أستطيع أن أصعندما. حيال...)، أو (لا أعرف كيف أصف حالتي عندما ...)، أو (إنني عاجز عن التعبير عن...). وفي ذلك كله ميل إلي تثمين تجربة إنسانية فريدة، مع إعلان العجز (وربما العزوف) عن إيصال خصوصيتها إلي الآخر. والقصائد العشرون في (بضعة أشياء) تتوغّل في قرارات عميقة من تجارب شعورية ووجودية إنسانية كبري، وتنجز مستويات رفيعة من التجسيد الشعري لتلك التجارب، والأهمّ من ذلك أنها لا تصادر حق القارئ في حسن (أو حتي في إساءة) استخدام المستويات ذاتها لصناعة تجسيدات أخري حول التجارب ذاتها.

في الشطر الثاني من حالة النواس البارع، يصف بسام حجار سلسلة من الأشياء (بضعة أشياء!)، من منظورات مكان داخلي بدوره قد يكون حجرة أو رواقاً أو نفقاً، ولكن دون أن تنفصل الأشياء وأمكنتها عن الشراكة الإنسانية (وهذه بدورها حصة إضافية لتوسيع التجربة الإنسانية). وعلى سبيل المثال، تنقسم قصيدة (المراثي الثانية) تنقسم إلي ثلاث قصائد حول ثلاث علاقات مع الأشياء: (بضعة أشياء لا أعرفها)، (بضعة أشياء أعرفها وحدي)، (بضعة أشياء فقط). الرثاء هو الموضوعة المشتركة بين القصائد الثلاث، ومناخات الرحيل الجسدي تتكثّف علي نحو وجداني مؤثّر وإنساني فذّ. براعة بسام حجار أنه يسند إلي الأشياء دور الحامل الدلالي غير المباشر لموضوعة الموت، بعد أن ينتقيها بعناية، ويستعرض ما في باطنها من قدرة غامضة (خام) علي الإيحاء المفتوح بمناخات الموت. لكن مفردة الموت ذاتها لا تَرِد البتة إلا بصدد الكناري الذي أماته البرد، وباستثناء مفردة واحدة هي (نعش)، ليس ثمة وحدة معجمية تدلّ مباشرة علي الموت، وثمة بالمقابل الكثير الكثير الذي يوحي بمستويات موت متضاعف، استثنائي لأنه مشحون بهاجس إنساني فريد.

وليس بغير مغزى خاص أن تسعة أعشار الأشياء التي تحتشد في هذه القصيدة الثلاثية البارعة، والتي ليست سوي العناصر التكوينية الصانعة لموضوعة الموت، كانت قد احتشدت من قبل علي نحو شبه تسجيلي في نصّ نثري، فاتن بدوره، عنوانه (ما قاله أبي عن الشجرة والكناري والسعال) (3). ورغم ما انطوي عليه هذا النصّ من مهارات عالية في التماس شعريات النثر، فإن بسام حجار ظلّ حريصاً علي انتماء مادة النصّ إلي نثر الحياة اليومية، لكي تكون (المراثي الثانية) قصيدة شعر، أولاً وثانياً وعاشراً!