صبحي حديدي
(سوريا / باريس)

هويات غير قاتلة يقرأ الفرنسيون هذه الأيام، وبشغف مدهش، كتاباً بعنوان "الروائية وعلم الآثار: مغامراتي في الشرق الأوسط"، مترجماً عن الإنكليزية، ولكنه كان قد صدر في العام... 1946! لماذا الآن، بعد أكثر من نصف قرن على صدوره؟ ولماذا هذا الشغف بـ "مغامرات" امرأة روائية، في علم الآثار؟ ألم يشبع الفرنسيون من مئات الكتب الفرنسية التي تناولت آثار الشرق الأوسط، حتى تستفيق دار نشر أساسية على هذا الكتاب الإنكليزي تحديداً؟
الحيرة تتبدّد سريعاً حين يكون الجواب الوحيد على الأسئلة السابقة هو أنّ الروائية ليست سوى أغاثا كريستي (1890ـ 1976)، مؤلفة أكثر من 90 كتاباً بين رواية بوليسية وعاطفية وأدب رحلات ومذكّرات، بينها العمل المسرحي الفريد "مصيدة الفئران" الذي ضرب رقماً قياسياً في العرض لا مثيل له في التاريخ (أكثر من ثلاثة عقود)، وحاملة أرقام في المبيعات تحتلّ المرتبة الثالثة بعد شكسبير والكتاب المقدّس، وصاحبة أسلوبية في صناعة التشويق والحبكة تسيّدت القراءة الشعبية جيلاً بعد جيل دون أن يُفقدها الزمن بريقها وجاذبيتها، ولقب ثقيل الوطأة بعض الشيء على امرأة: "السيّدة الأولى للجريمة"!

وفي مطلع أربعينيات القرن الماضي كتب الناقد الأمريكي الشهير إدموند ولسون مقالة هجائية شهيرة شنّ فيها هجوماً عنيفاً على الرواية البوليسية، وما تخلقه من عوامل زائفة مكرورة ليس لها من هدف سوى التسلية الرخيصة، والإمتاع السطحي، ودغدغة مشاعر القارئ، وجرّه خلف خيوط الغامض والملتبس والخفيّ. عنوان مقالة ولسون كان "مَن يعبأ بمَن قتل روجر أكرويد"، في إشارة إلى أهمّ روايات كريستي آنذاك، "مقتل روجر أكرويد". ولقد كان الجواب ملموساً صريحاً واضحاً، بقدر ما كان مخيّباً لآمال منظّر أدبي واسع النفوذ مثل إدموند ولسون: أكثر من 400 مليون قارئ، في طول العالم وعرضه، يعبأون بمَن قتل روجر أكرويد!

تلك كانت خيبة أمل لها ما يسوّغها في واقع الأمر. فهذه السيدة لم تكن تمتلك أسلوباً أدبياً فائقاً أو ذا خصوصية ملحوظة (في عصر فرجينيا وولف وجرترود شتاين!)، ولم تأبه يوماً بتقديم شخصية روائية ذات سمات إنسانية كونية جديرة بالخلود، بل إنها لم تسعَ مرّة واحدة إلى الغوص في أعماق أيّ من شخصياتها. أنها لم تتقصّد سوى تصميم جريمة قتل، وحبك خيوطها وعناصرها، وإلقاء ظلال الشكّ على المشتبه بهم هنا وهناك، ثمّ تضليل القارئ من صفحة إلى أخرى حول الفاعل، وتصعيد التشويق إلى درجة الصفر من القدرة على تمييز الحقيقة. وأخيراً، تقديم القاتل (أو القتلة!) على طبق من أدلة بيّنة وبراهين ساطعة مرّت قبلئذ على القارئ المنشغل، دون أن يدركها أو يدخلها في سياقاتها الصحيحة.
غير أنّ هذه العلاقة الخاصة بين قارئ الرواية البوليسية وكاتبها هي مشكلة ولسون وسواه من النقّاد والأدباء الذين جوبهوا بهذه الموجة من الكتابة الشعبية، الرائجة تماماً رغم أنّ عمرها لا يتجاوز قرناً ونصف على أبعد تقدير. إنها العلاقة التي لا تتوفّر في أيّ نوع آخر من القراءة أو الكتابة القصصية، لأنّ الكاتب هنا ليس مجرّد "مفبرِك" بارع للألغاز والحبكات ومواقف الغموض، وهو أيضاً ليس ذلك الإنتهازي الذي يعرف كيف يعيد القارئ إلى بؤرة التشويق كلما ضاقت تلك البؤرة. إنّ دوره يتمثّل في قيادة القارئ عبر شبكة تقاطعات انفعالية حادّة التمايز، بين الحياة والموت، والخير والشرّ، والأمان والعنف، وبين الهيولى والهوية.

وما تلهّف القارئ على معرفة إسم القاتل، في ازدحام البدائل والتوازيات والأشباه، سوى بحث عن الهوية في نهاية المطاف. وفي مقدّمة معمّقة لنخبة من القصص البوليسية وروايات الرعب والغموض، تقترح الروائية البريطانية دوروثي سايرز التعريف الكلاسيكي الأكثر أهمية لهذا النوع من الكتابة: الرواية البوليسية جزء من أدب الهروب وليس أدب التعبير، وهي لا تهدف إلى (لأنها بالفرضية لا تستطيع) بلوغ ذُرى التعبير الأدبي بمعناه المألوف.

ومع ذلك ــ أو ربما بسبب من ذلك جوهرياً ــ فإنّ الفرنسيين، وقبلهم الملايين في لغات مختلفة بعد الإنكليزية، أقبلوا على قراءة كريستي حتى حين لا يكون البحث عن هوية القاتل هو المأرب الأوّل. والحال أنّ كتاب الرحلات هذا، الذي يحمل في الأصل الإنكليزي عنواناً مختلفاً وجميلاً هو "تعال حدّثني كيف تعيش"، يروي أسفار كريستي في العراق وسورية خلال الفترة بين 1934 و1939، صحبة زوجها عالِم الآثار ماكس مالوان. وثمة مقاربة إنسانية بديعة، وأخّاذة مذهلة إذْ تأتي من "السيّدة الأولى للجريمة"، عن السمات الإنسانية والحضارية والعمرانية للشخصية السورية كما تتبدّى عند المدينيّ والريفي والبدوي في مناطق الشمال الشرقي بصفة خاصة، في مدن القامشلي والحسكة ودير الزور والرقّة وحمص وحلب، وفي بلدات مثل عامودا ورأس العين وعين عروس وشاغر بازار، وعلى سفوح تلال أثرية مثل تل حلف وتل طويل وتل عجاجة وتل رمّان وتلّ براك...
أليست المقاربة، بدورها، بمثابة تمرين في استكشاف الهويّات... غير القاتلة هذه المرّة؟