عن النقد العربي المعاصر يقول الشاعر الفلاني: مضى زمان النقد الموضوعي الذي يواكب المبدع، والنقد الحالي كلّه قائم على العصابات والزُمَر والمحسوبيات. الروائية الفلانية لا تخالف الشاعر الفلاني في هذا الرأي الذي يأخذ شكل بلدوزر كاسح جامح، وإنْ كانت تضيف باستعلاء (لا تغيب عنه روائح الغنج المبتذل): أنا لا أعبأ بالنقد العربي الحالي، لأنه كلّه بلا منهج.
ويحدث (دائماً!) أنّ دواعي النفاق الرخيص تدفع فلاناً وفلانة إلى إضافة العبارة السحرية: "طبعاً... مع بعض الاستثناءات القليلة". ظريفة وماكرة وفاقعة هذه الـ "طبعاً"، التي يُراد لها أن تهبط برداً وسلاماً على قلوب جميع النقّاد دون استثناء، لا لشيء سوى أنّ كلّ ناقد سوف يسارع إلى تصنيف نفسه (بنفسه!) في خانة مخلوقات الـ "طبعاً" إياها، وكفى الله الفريقَين شرّ القتال! والحال أنّ الـ "طبعاً" ذاتها، وفي القياس المنطقي البسيط، ينبغي أن لا تنفع كثيراً. ما فسد كثيره فقليله فاسد أيضاً، بالعدوى على الأقلّ.
والتاريخ الأدبي، شرقاً وغرباً في الواقع، يعلّمنا أنّ شيوع هذه المعارك ــ أو هذا النوع الزائف منها تحديداً ــ لا يؤشّر على ظاهرة قدر برهنته على وجود أزمة عميقة أخرى، إلى جانب أزمات اضطراب الأشكال وقلق الأساليب وانفلات الأجناس وتصارع التيّارات وتحالف العصابات وائتلاف الزُمَر وتكريس المحسوبيات. إنها الأزمة التي لا تضع المبدع في الخندق القتالي المواجه للناقد هذه المرّة، بل هي تلك التي تضع المبدع والناقد معاً، في خندق واحد (متعاضد!) ضدّ القارئ وضدّ القراءة.
وليس بغير دلالات حاسمة (وفضّاحة تماماً، رغم ما تسدله من أقنعة كثيفة كتيمة) أنّ مفردة "القارئ" لا تَرِد على لسان الشاعر الفلاني أو الروائية الفلانية وهما يكيلان السهام للناقد، ولا تَرِد كذلك على لسان الناقد وهو يعيد السهام إلى نحور أصحابها. المتخاصمون يفترضون، سلفاً ودون عناء أو أوجاع ضمير، أنّ القارئ المستهلِك العريض إنما يقع خارج "قوس الصراع" بين جيوش الإبداع وجيوش النقد، وأنه في الحقيقة ليس رقماً في المعادلة "الحربية" الكفيلة بترجيح كفّة فريق على فريق.
.. أو ربما لأنّ المتخاصمين يفترضون ضمناً أنّ القارئ الجدير بالدخول طرفاً في الصراع لم يولد بعد، أو أنّ ولادته عسيرة بالتعريف، أو قيصرية بالتمنّي، أو هي مؤجلة إلى زمن لاحق لا صلة تجمعه بزمن اشتداد الصراع بين السيّد المبدع والسيّد الناقد: زمن خارج الأزمان، بعبارة أخرى. في غضون ذلك، أي في انتظار "المجيء الثاني" لهذا المواطن القارئ، لا بأس من إدارة الصراع على أسس أرستقراطية ـ بيروقراطية ـ مؤسساتية خالصة: بين المبدع، والناقد، والمنبر الثقافي الذي يحتضن المواجهات.
أين القارئ؟ ماذا يقرأ من إبداع أو نقد، ولماذا؟ ماذا يشتري من أصناف البضائع ذاتها، ولماذا؟ هذه أسئلة نافلة، أو أسئلة متخلفة، أو أسئلة لا تتفق أطراف الصراع على أمر قدر اتفاقها على تغييبها تماماً من ساحة القتال. وهنا أيضاً: كفى الله المبدعين والنقّاد شرّ قتال غير محمود العواقب، حول قارئ غير محمود الصفات! الفاضح أكثر أنّ المبدع الذي يشتم النقد يتناسى هويّة الناقد الأوّل الذي لا يقتطع من قوته اليومي حصّة مادية (مالية، أيها السادة!) لشراء رواية أو مجموعة شعرية فحسب، بل يفعل ذلك قبل ودون حاجة أو دون كبير اكتراث بما قاله أو سيقوله الناقد عن فلانة صاحبة الرواية، أو عن فلان صاحب المجموعة الشعرية.
ومسألة "قبل" قائمة على حقيقة أننا لا نملك بعدُ تقاليد الاعتماد على ما يقوله المنبر الثقافي في ترشيد خيارات شراء البضاعة الثقافية المطروحة في السوق. ومسألة "دون حاجة" تنبثق من حقيقة أنّ أهواء القارئ في اختيار البضاعة لا تعتمد على أية "تقنيات" يزوّده بها النقد من أجل فرز وتقليب البضاعة قبل اتخاذ القرار بشرائها. وأمّا مسألة "دون كبير اكتراث" فإنها حصيلة ميل المستهلك إلى الشكّ في نوايا الإعلانات التي تروّج للبضاعة، ولأنه نادراً ما يُلدغ من جحر مرّتين!
وكان الفيلسوف والمفكّر والناقد الفرنسي غاستون باشلار يضرع إلى الله، صباح مساء، كي يعينه على اكتساب صفة "القارئ"، ليس بسبب من تواضع كاذب أو تقليل من قيمة التأمّل الفلسفي والنقدي حول ظاهرة الإبداع، بل خشوعاً أمام جلال مفهوم القراءة ذاتها، تحديداً وليس أقلّ. وما دام باشلار موضة رائجة تماماً في العالم العربي هذه الأيّام، فلِمَ لا يتعظ الشاعر الفلاني والروائية الفلانية بما يقوله الرجل عن قيمة القراءة؟ ولِمَ لا يحتكم المبدع إلى القارئ بوصفه الناقد الأبكر والأكبر؟ وما الذي يمنع المبدع من إدارة الظهر تماماً للنقد القائم على العصابات والزُمَر والمحسوبيات، أو ذاك الذي "كلّه بلا منهج"؟
وكارل ماركس كان مغرماً بحكاية الرجل الذي فاخر قومه بالزعم أنه قفز ثلاثين متراً في الهواء عندما كان في جزيرة رودس، وكيف ردّ عليه أحد الخبثاء بالقول: "يا سيّدي، لنفترض أننا في رودس. فلتقفز هنا"! وللسادة المبدعين الغاضبين من النقد نقول: دعوا السادة النقّاد في غيّهم يعمهون. ههنا المواطن القارئ... فلتقفزوا هنا!