لا أكاد أصدّق آنّ سنة كاملة قد انقضت على رحيل الشاعر الفلسطيني محمد القيسي (1944 2003)، أو كأنني بالأحرى لا أفلح تماماً في القبض على إيقاع الزمن الذي انصرم منذ الأوّل من آب (أغسطس) السنة الماضية، حين غادر "ناي فلسطين" هذه الدنيا، قبل الأوان بكثير... بكثير!
هل أقول اليوم أيضاً، كما قلت قبل عام، إنني كنت "محظوظاً" بالوصول إلى العاصمة الأردنية عمّان صبيحة رحيل القيسي، لكي أشيعه إلى مثواه الأخير، وأري بأمّ العين دموع أصدقائه، وأستمع إلى عبارات الرثاء التي بدت في الصدق والحرارة والمرارة أكثر انسجاماً مع الشمس اللاهبة، ومع المقبرة الفقيرة الجرداء في ظاهر عمّان حيث تشتعل "الرصيفة"؟ بالطبع، ليس من اللائق أن يعتبر المرء نفسه محظوظاً إذْ يشارك في جنازة صديق، ولكني مع ذلك لا أتردد في القول إنّ حسن الطالع شاء أن أكون تحت تلك الشمس، في تلك المقبرة، ذلك اليوم!
آنذاك ألقى الصديق رشاد أبو شاور خطبة قصيرة موجعة، فبكى وأبكى. وها هو اليوم في طليعة مَن يذكّرنا بعذابات القيسي بعد رحيله: تلك المتاهة البيروقراطية الكافكاوية التي تطحن أسرة الراحل في سياق بحثها عن أبسط حقوقه في التقاعد، هو الذي كان متفرغاً على ملاك وزارة الثقافة الفلسطينية. وليس دونما سبب وجيه، وحرقة حقّة فضلاً عن السخط المشروع، أنّ أبو شاور يضع الأمر أمام الملأ ليعرف الجميع أنه "في زمن اللصوص، وتجّار الإسمنت، ومورّدي كلّ ما يلزم لبناء السور العازل خدمة لمصالحهم الشخصية على حساب الوطن والشهداء والمستقبل... لا كرامة لمبدع، ولا اهتمام بأسرته"...
والحال أنّ القيسي ليس مبدعاً عادياً، ومن العار أن لا تتنبه بيروقراطية وزارة الثقافة الفلسطينية إلى هذه الحقيقة، فتنصف الراحل، وتردّ إلى أسرته بعض حقوقه... أبسطها في الأقلّ، لكي لا نتحدّث عن تكريمه كما يليق برجل كان بحقّ أحد كبار فنّاني فلسطين المعاصرة، وأبرز الأسماء في دائرة "السداسيّ" الشعري الفلسطيني الذي ضمّ أيضاً خالد أبو خالد، فوّاز عيد، مريد البرغوثي، أحمد دحبور، وعز الدين المناصرة.
وهذا "السداسي" حمل أعباء تطوير القصيدة الفلسطينية في منافيها العربية، وفي حلقة وسيطة ستينية بين "شعر النكبة" و"شعر المقاومة". وشعراء هذا الجيل لم يتوفّر لهم رفاه الابتعاد عن الهمّ الفلسطيني في مختلف مستوياته، شريطة أن يكون المستوى الوطني في الطليعة كما توفّر لشعراء فلسطينيين بعدهم، واليوم في الحقبة المعاصرة تحديداً. ولا ريب في أنهم حملوا، تماماً كما فعل "شعراء الداخل" من أمثال محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران، العبئَيْن معاً: تطوير شعريات فلسطينية يُشار لها بالبنان وتشكّل خصوصية جمالية في المشهد الشعري العربي، والانتماء من جانب آخر إلى حركة الحداثة والمساهمة في صناعتها علي حدّ سواء.
لكنّ محمد القيسي كان أغزرهم بلا ريب!
ساعة رحيله كان قد أصدر زهاء 40 عملاً، في الشعر والسرد والنثر والسيرة والحوار وأشعار الأطفال، إلى جانب الأعمال الشعرية التي صدرت سنة 1999 في ثلاثة مجلدات. وإذا كانت تلك الغزارة دليلاً بيّناً على خزين شعري عميق الغور، فإنها كانت في الآن ذاته جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية الشاعر في مقاومة شرط المنفى، وشرط الوعي الشقي الذي حاق به أو طوّره هو بنفسه إلى درجات أشدّ وأرقى، إلى جانب فعل المقاومة الفريد كما تصنعه كتابة الشعر.
ولعلي هنا أستعيد حكاية ذات دلالة خاصة. ففي ذروة بحث الوجدان العربي عن إحالات خلاصية، نشرت مجلة "شعر" ملفاً عن شعر المقاومة داخل فلسطين المحتلة، تضمّن عدداً من القصائد القادمة "من وراء الأسلاك" حسب التسمية التي اعتمدتها المجلة. لكنّ التحرير ارتكب هفوة، يمكن للمرء أن يتفهمّها تماماً، آنذاك والآن أيضاً، هي إدراج خمس قصائد للراحل القيسي، الذي كان في الواقع قد عرف مرارة النزوح منذ العام 1948، وكان عند صدور الملفّ يعيش متنقلاً بين أكثر من منفى بعيداً عن مسقط رأسه، "كفر عانة".
ذلك لأنّ القيسي كان جديراً بهذه الصفة (التي بدأت، واستمرّت حتى الساعة، غائمة ملتبسة فضفاضة مجازية)، إنْ لم يكن بسبب انخراطه التامّ في الموضوع الفلسطيني، بالمعاني الوطنية والإنسانية والوجودية والرمزية، فعلى الأقلّ لأنّه كان يعتبر الشعر ذاته سلوكاً مقاوِماً بأرفع ما تعنيه الكلمة من معنى. وهو يقول، في توصيف علاقته بالشعر: "إذا كان الشعر أداتي الوحيدة في مواجهة القسوة، فقد كان المخيّم موضوعي وهاجسي اللحظي، كنت أكتب لأقنع نفسي بالحياة، ثمّ لأزداد معنى، وكنت أحسّ بواسطة الكتابة أنني أقترب أكثر من الحلم، من أغاني أمّي، ومن الأرض".
ويا أيها السادة رجالات السلطة الوطنية ، الذين يتبختر معظمكم هنا وهناك في مرابع أوربا، حيث بات إنفاق المال الفلسطيني أدهى من ابن عمّه المال الخليجي؛ وحيث تُصرف الملايين في كازينوهات القمار ودور الأزياء وأعراس البنات ومباذل الأبناء... تذكّروا محمد القيسي، واتقوا الله في عياله!