صدرت، كما بات معروفاً، ثلاث ترجمات إلى العربية لمذكّرات الروائي الكولومبي غابرييل
(سوريا / باريس)غارسيا ماركيز: الأولى بعنوان "عشتُ لأروي" من صالح علماني، والثانية "نعيشها لنرويها" من رفعت عطفة، والثالثة "أن تعيش لتحكي" من طلعت شاهين. قرأت المجلّد الأوّل من ترجمة علماني، وتصفحت الفصول ذاتها في ترجمة شاهين (وللأسف لم تقع بين يديّ ترجمة عطفة، ولكنني أعرف ترجماته عن الأسبانية وأثق أنها رفيعة)، وأقول ببساطة: كم هو محظوظ هذا الـ "ماركيز"!
روايته الفذّة والأهمّ ربما، "مائة عام من العزلة"، قُيّض لها اثنان من خيرة آل الجندي معرفةً بالأدب والفصحى (سامي الجندي وإنعام الجندي)، وذلك رغم أنهما ترجما عن الفرنسية وليس عن الأصل الأسباني. وإذا كانت متابعتي سليمة، فإنّ سليمان العطار أنجز ترجمة ثانية للرواية ذاتها، صدرت في الكويت؛ وثالثة في لبنان، على يد محمود مسعود؛ ورابعة في لبنان أيضاً، من محمد الحاج خليل...
غير أنّ حظّ ماركيز في العربية لا يُقارن البتة بحظّه في لغة أخرى، جبّارة وكونية وكوزموبوليتية، هي اللغة الإنكليزية... إنْ لم يكن بسبب الذيوع الرهيب للصيت، فعلى الأقلّ لأنّ الترجمة الإنكليزية للرواية ذاتها جلبت له جائزة نوبل للآداب سنة 1982. وحين صدرت الرواية بالأسبانية للمرّة الأولي سنة 1967، تلقى ماركيز النصيحة الثمينة التالية من صديقه الروائي الأرجنتيني الكبير خوليو كورتازار: إعملْ على أن يترجمها غريغوري راباسّا، ولا تدعْ أحداً سواه يقترب منها، واصبرْ عليه حتى يقتنع بها، وانتظره حتى يشاء الله!
ذلك لأنّ كورتازار كان يعرف ما يقول، حقّ المعرفة: لقد ترجم له راباسّا أصعب رواياته على الإطلاق، ولعلها بين الروايات القليلة الأشدّ استعصاءً على الترجمة في تاريخ النوع الأدبي بأسره. وهذه الرواية، وعنوانها Rayuela بالأسبانية و Hopscotch بالإنكليزية، و"لعبة الحَجْلة" حسب قاموس منير البعلبكي، أو "الخَطّة" كما نقول في بلاد الشام، هي العمل الروائي الوحيد (في ما أعلم) الذي يمنحك رسمياً وعلانية قراءتين مختلفتين!
القراءة الأولى "تقليدية" تبدأ من الفصل الأول وتنتهي في ختام الفصل 56، حيث يعلمك كورتازار أنك تستطيع التوقف عن القراءة بضمير غير قلق أبداً، إذْ أنّ الفصول الـ 99 الباقية يمكن الاستغناء عنها! القراءة الثانية "تركيبية"، يقترح كورتازار ترتيب فصولها هكذا: 73 ـ 1 ـ 2 ـ 116 ـ 3 ـ 84 ـ 4 ـ 71 الخ... وكاتب هذه السطور يشعر بالاعتزاز لأنه نقل روايتين عظيمتين إلى العربية ("طيران فوق عش الوقواق" للأمريكي كين كيسي، 1981؛ و"ضجيج الجبل" للياباني ياسوناري كاواباتا، 1983)، ولكني ــ ضمن إيماني الراسخ بأنّ الترجمة واجب أخلاقي ـ معرفي قبل أيّ توصيف آخر ــ كنت وما أزال أحلم بترجمة "الخطة"، وكنت سأفعل لولا يقيني القاطع بأنّ ترجمتها عن الأسبانية هي الخيار الأمثال، ولعلّه الوحيد حصراً.
أعود إلى غريغوري راباسّا، إذاً، والشراكة السعيدة التي قادته إلى ترجمة معظم أعمال ماركيز بعد "مائة عام من العزلة": "خريف البطريرك"، "وقائع موت معلن"، "عاصفة الورق"، "لا أحد يكاتب العقيد"، "في ساعة شرّ"، وسواها... ولم تكن جائزة نوبل هي التتويج الأعلى لتلك الشراكة، لأنّ ذيوع صيت ماركيز بدأ في الواقع من ذيوع صيت تلك الترجمة الفريدة، لرواية فريدة في الأساس بالطبع. وقراءة ماركيز بترجمة راباسا لا تعادل قراءته في أية ترجمة إنكليزية أخرى، بل إنّ المقارنة غير واردة أصلاً، وغير عادلة. وهكذا يمكن القول، دون مبالغة، إنّ ماركيز يدين لمترجمه العظيم بقدر من الفضل لا يقلّ كثيراً عن فضل الأعمال ذاتها.
كذلك يمكن القول إنّ "الغزو" الحقيقي، الذي يمكن أن يُوصف به انتشار أدب أمريكا اللاتينية، وخصوصاً ما يُسمّي بـ "الواقعية السحرية"، في الغرب والعالم إجمالاً، لا يدين للكتّاب بفضل أقلّ من فضل راباسا نفسه. لقد كان وراء ترجمة أكثر من 30 عملاً من اللغتين الأسبانية والبرتغالية، لكبار كتّاب أمريكا اللاتينية، من أمثال ميغيل أنخيل أستورياس، ماريا فارغاس يوسّا، خورخي أمادو، أوكتافيو باث، يواكيم ماشادو دو أسيس، بالإضافة طبعاً إلي كورتازار وماركيز. وهذا الأخير كان يحلو له وصف راباسّا كما يلي: "إنه أعظم كاتب أمريكي ـ لاتيني في اللغة الإنكليزية". باث اعتبره "أعظم مترجمي القرن العشرين"، وكورتازار قال "إنه أكثر من مترجم: هو معلّم". أستورياس، من جانبه، لم يكن يتخيّل كيف كان يمكن لروايته "قبطان الرمال" أن تصل إلى القارئ الغربي، لولا ترجمة راباسّا...
كانت المصادفة قد قادته إلى الترجمة من الأسبانية، وهو من أب كوبي وأمّ أمريكية، حين عمل مترجماً في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية. إنه اليوم في مطالع ثمانيناته، ولكنه يواصل تدريس الأدب الأسباني في جامعة نيويورك، وكان قد أصدر كتاباً بديعاً في لغته ومنطلقاته ونطاق موضوعاته، أسماه "إذا كانت هذه خيانة: الترجمة ومظانّها". وبالطبع، يلمّح هذا العجوز الكبــير إلى المثل الإيطالي العتيق الشائع الذي يقول: "المترجم خائن" Traduore, traditore، وكأنه من جانب آخر يحثّنا على النظر إليه كواحد من أعظم الخونة أولئك.
وهو كذلك حقاً!