صبحي حديدي
(سوريا/ باريس)

صبحي حديديهل يجب أن نغمض أعيننا عن الخير لأن "المؤسسة" شرّ مطلق؟
عبد المنعم رمضان والتغريد خارج السرب خلال ثلاثة أسابيع كتب الصديق العزيز عبد المنعم رمضان ثلاث مقالات حول شاعر مصر الكبير الراحل أمل دنقل (1940 ـ 1983)، نُشرت على التوالي في "الحياة" اللندنية بتاريخ 17/5، وفي "أخبار الأدب" المصرية بتاريخَي 18/5 و8/6. إنه منخرط في ما يشبه "الحملة" إذاً، وهذا شأنه بالطبع، وهو حقّه في الأساس.

ولست أنوي الخوض في غمار ما جاء في المقالات الثلاث، ما خلا تسجيل موقف إجماليّ، لا مناص من تبيانه هنا حرصاً على وضوح النيّة في ما سيلي من سطور سجالية. خلاصة هذا الموقف هو اختلافي الجذري مع معظم الخلاصات التي يتوصّل إليها رمضان، فضلاً عن اعتراضي الجوهري على روحية المقاربة ذاتها، في بُعدها الأخلاقي تحديداً (حديث رمضان، على سبيل المثال الصارخ، عن أنّ "الفعل الفطن الماكر الذي قام به أمل دنقل هو موته المبكر"، مقابل "حماقة حجازي في التشبث بالحياة"، التي "أدت به إلي أن يقرأ نصوص الشباب ويرفضها علي أنها ليست شعراً"!).

ومع ذلك أكرّر القول إنّ هذا شأن رمضان وحقّه، ولن أضيف مفردة واحدة في امتداح دنقل على سبيل مناهضة رمضان: للبيت ربّ يحميه، وللراحل الكبير نساء ورجال يؤمنون بمكانته وموقعه ويجيدون الدفاع عنه أكثر منّي، وأفضل وأعمق. ما يزجّني في النقاش هذا هو أنّ رمضان، في مقالته الثالثة، يثير عدداً من النقاط التي يعتبرها مآخذ عليّ، الأمر الذي يلزمني بالردّ لكي لا يبدو صمتي موافقة على ما يقول، أو عزوفاً عن تفنيد مزاعمه وتصويب استنتاجاته. وما دام قد استند في تعيين تلك النقاط إلى فكرة كنتُ قد أثرتها في صفحات "القدس العربي"، 26/5/2003، فإنني سأردّ عليه في الصفحات ذاتها.

وعبد المنعم رمضان يأخذ على ثلاثة ("الشاعر الجميل محمود درويش"، والأستاذ صاحب "المكان والمكانة محمود أمين العالم"، و"الصديق العزيز صبحي حديدي") أنهم "وقعوا في أسر العزف المستمرّ لنشيد التوقيت"، أو كما يقول بعدئذ: "العزف المنفرد لنشيد التوقيت"، دون أن نعرف السبب في تحوّله من "المستمرّ" إلى "المنفرد"، لأنهم ربطوا بين مقالتَيه ومؤتمر المجلس الأعلى للثقافة في الذكرى العشرين لرحيل دنقل.

وأمّا سبب وقوعي أنا في هذا الأسر الرهيب (المنفرد/ المستمرّ!) فهو أنّني كتبت في "القدس العربي" أستعرض قصائد رثاء أمل دنقل، وحين ورد ذكر قصيدة رمضان أضفتُ عبارتي المستغربة: "وهنا ذروة المفاجأة".

عبدالمنعم رمضان- مص
(عبدالمنعم رمضان- مصر)

وفي حقيقة الأمر لم يكن إحساسي بالمفاجأة ناجماً عن" توقيت"، من أيّ نوع، بين نشر مقالتَي رمضان ونشر قصيدته في رثاء دنقل، بدليل أنّ المفاجأة تلك لم تقتصر على رمضان وحده، بل ضمّت أيضاً شاعرَين "سبعينيَيْن" آخرين هما أحمد طه ومحمد سليمان. ولكنّ رمضان خير مَن يعرف حقيقة ــ وحجم ونطاق وجسارة ــ مواقفه بالمقارنة مع سواه، وهو قد سَلّفنا من المواقف السابقة المناهضة لدنقل ما يكفي ويزيد لكي يُصاب امرؤ مثلي بالدهشة حين يقرأ له قصيدة في رثاء الراحل. هذا منطق حسابيّ بسيط، ولكنه منطق تراكميّ ومتين ومنيع في آن، ولا حاجة للمراوغة حوله أو في أرجائه.

ورمضان يسوق سلسلة دفوعات أجل دحض إمكانية الإحساس بالمفاجأة، والإجهاز استطراداً على أيّ احتمال لمشروعية الوقوف عند حكاية "التوقيت" تلك. إنه يطوّر حجّته هكذا: "أولاً يمكن أن تكتب قصيدة مدح لا رثاء في شخص منذ عشرين سنة، ثمّ تتبدّل آراؤك ومواقفك، وينقلب بك نضجك أو تعاستك إلى الموقف النقيض"، وهذا الأمر قد يكون صحيحاً تماماً، ولعلّ مشروعيته لا جدال فيها، ولكنه ببساطة لا يلغي مبدأ الحقّ في المفاجأة، بل والإحساس بذروة المفاجأة، لأنّ المرء يتغيّر هكذا... وسبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر!

وثانياً، يتابع رمضان، "يمكن أن تنحني أمام الموت وتخاف منه وتكتب مرثية لشاعر لا تحبّ شعره"، وهذا ممكن على الأرجح، ولكنه حين يقع فلا مفرّ من أن يثير المفاجأة، في ذروتها هنا أيضاً، بصرف النظر عن ثبوت التوقيت أو انتفائه من النقاش أساساً، لا لشيء إلا لأنّ رمضان لم ينحنِ فعلياً أمام موت دنقل (والمفارقة التي سبق ذكرها خير دليل)، ولم يخَفْ منه البتة، بدليل جسارة ما كتب ويكتب ضدّ الراحل منذ عقدين على الأقلّ!

وفي الواقع، وما دام الشيء بالشيء يُذكر، للمرء أن يتساءل حقاً عن سبب غضب رمضان من حكاية "التوقيت" هذه: ألم يكتب مقالتَيه، في 17 و18/5، لكي تتواقتا على أتمّ وجه مع بدء مؤتمر أمل دنقل، في 18/5؟ وإذا كان هذا الخيار حقّاً له مطلقاً مصاناً، فلماذا يكره أن يذكّره البعض بتبعات ممارسة هذا الحقّ (التوقيت)؟ وهل يبغض أن يعيده البعض إلى المنطلق الذي بدأ منه بالفعل (التوقيت إياه)؟ وكيف يحتجّ على تذكيره بجوهر ما يسعى إليه في الإجمال (التغريد خارج السرب، في التوقيت المناسب)؟

وفي جانب آخر من المسألة ذاتها، ألم يتخفف رمضان من كلّ حرج حين تندّر على حكاية التوقيت دون سواها، فكتب يقول: "يروي أحد الضائعين أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت تدبّر لغزو العراق بعد سنتين على الأقلّ، ولكنها عندما علمت بالاحتفالية الدولية لأمل دنقل قررت أن تقوم بإسقاط بغداد قبل الاحتفالية مباشرة، وذلك لضمان نجاح حملتها العسكرية والعرس الشعري"؟ مَن الذي يعزف أناشيد التوقيت، والحال هذه؟ ألا يبدو رمضان كمَن يحتكر تلك الأناشيد لنفسه وحده، ويأبى أن يقاربها سواه، أياً كانت النوايا وكيفما سارت السياقات؟ ألا يتصرّف وكأنّ اقتراب الآخرين من هذه الأناشيد ليس أقلّ من اعتداء على حقوقه، ملكيته الشخصية؟

كذلك للمرء أن يتساءل عن حقيقة الأسباب التي تدفع رمضان إلى الغضب من المؤسسة إلى هذا الحدّ الأقصى. فهل يتوجّب على المرء، والمرء المعارض بخاصة، أن ينظر إلى ما تفعله المؤسسة من خير، تماماً كما ينظر إلى ما ترتكبه المؤسسة ذاتها من شرور؟ وإذا كان المجلس الأعلى قد قام بجهد حضاري وثقافي رفيع في تكريم مبدع مصري وعربي كبير، هل يتوجّب أن نغمض أعيننا عن هذا الخير لأنّ المؤسسة شرّ مستطير بالمطلق، أنّى كانت ومهما فعلت؟ ألا ينطوي موقف كهذا على خفّة معلنة، عجيبة تماماً، غير مسؤولة، وكاريكاتورية في المحتوى والشكل؟

ويطيب لي أن أنزّه صاحبي عن مقاطعة طفولية كهذه، ودليلي أنّ محاسن الصدف شاءت أن آخر لقاء جمعني برمضان كان في البحرين، صحبة الصديق والزميل الشاعر الأردني أمجد ناصر، حين توافدنا نحن الثلاثة من لندن والقاهرة وباريس للمشاركة في تكريم الشاعر البحريني الصديق قاسم حداد، بمناسبة فوزه بجائزة سلطان العويس للشعر. غير أنّ المؤسسة ، وهي في هذه الحال دائرة الثقافة في وزارة الإعلام البحرينية، كانت هي صاحبة الدعوة والجهة المنظمة، الأمر الذي لم يمنع رمضان من المشاركة التامّة (بمعني الواجبات كما الحقوق)، وإلقاء الشعر، وحضور الندوات. لماذا لم يقاطع آنذاك، وكان في وسع قاسم حداد أن يتفهم ويعذر؟ وهل المؤسسة البحرينية شيء، والمؤسسة المصرية شيء آخر؟ ولماذا لم يقاطع رمضان مؤسسات أخرى، فرنسية مثلاً، شارك في أنشطتها رغم أنها تتعامل دون أدنى حرج مع شعراء صهاينة؟

غير أنّ ذروة المفاجأة الأولى، تلك الناجمة عن العثور على قصيدة لأمثال محمد سليمان وأحمد طه وعبد المنعم رمضان في رثاء دنقل، تهون تماماً أمام ذروة مفاجأة ثانية عمادها الغطرسة والكهانة هذه المرّة، يمارسها رمضان دون أن يرفّ له جفن كما يلوح. إنه يقول التالي: "ومع ذلك فلو أنّ صبحي قرأ قصيدتي التي لم أدرجها أبداً ضمن أيّ من دواويني، لو أنه قرأها لأدرك أنها تنطوي على موقف نقدي من أمل لا يختلف عن موقفي الآن، إلا اختلاف الشعر عن النشر [يقصد "النثر" على الأرجح]، واختلاف جلال الموت عن جمال الحياة، القصيدة اسمها المتاهة، سقطت منها مفردتان أفسدتا الإيقاع ولم تفسدا الرؤيا ولقد قمت في حياة أمل بصياغة البيان المضاد له شاعر كل العصور، وخطأ صبحي حديدي لا يبدد ذرة من تقديري له واهتمامي بما يفعل".

أليس عجيباً هذا الذي يقوله صاحبي؟ كيف جزم بأنني لم أقرأ "المتاهة"، وهو يعلم جيداً أنها ــ وإنْ لم تظهر في أيّ من مجموعاته ــ منشورة في الكتاب الذي أعدّه حلمي سالم، "عمْ صباحاً أيها الصقر المجنّح: قصائد إلى أمل دنقل"، والذي وُزّع على كلّ المشاركين عشية افتتاح مؤتمر دنقل؟ أية غطرسة هذه التي تدفعه إلى الوثوق التامّ، المطلق والشمولي والكهنوتي، بأنني لم أقرأ القصيدة؟ هل شقّ عليّ قلبي عن بُعْد، الشيخ الأكبر عبد المنعم رمضان، فوجد أنني لم أقرأ "المتاهة"؟ ألا يشعر ببعض الحرج حين يذهب أبعد ممّا ينبغي؟ وهل يشعر حقاً أنه يذهب أبعد ممّا ينبغي؟

ومن أسف أنه لا يدع لي هامشاً واحداً لقبول أيّ من مآخذه، الأمر الذي يدفعني إلى إعادة التشديد على ثلاث نقاط:

  1. أنني لم أقع أسير "العزف علي نشيد التوقيت"، منفرداً كان ذلك النشيد أم مستمراً. لقد أوضحتُ دهشتي إزاء عدد من قصائد الرثاء التي رأيت، وأرى ما أزال، أنها لا تنسجم مع مقدار الخصومة التي أبداها الشعراء أصحاب تلك القصائد تجاه الراحل موضوع الرثاء. (الأمر الذي لا يعني البتة أنّ تلك الخصومة كانت أمراً غير مشروع، فالبشر أحرار أحياناً، وللّه في خلقه شؤون).
  2. وأنّ المؤسسة لم "تشوّش أجهزة استقبالي الصافية"، كما توحي عبارة رمضان، لأنها أوّلاً لم تكن قد خطّطت لهذا في حدود ما أعرف، ولأنني ثانياً لم أشارك في مؤتمر أمل دنقل لكي أشحذ أجهزة الاستقبال وأرصد وأتربص وأصفّي! كان الأمر أبسط بكثير، وكان أنبل وأنقى وأشرف...
  3. ـ ويبقى أنّ تحية الصداقة التي يرسلها رمضان (تقديره لي واهتمامه بما أفعل) تسعدني وتلزمني بشكره وردّ التحية بأحسن منها، ولكنها لا تجعلني أطأطيء الرأس تهذيباً، فأصادق على اتهامه لي بارتكاب خطأ ما بحقّه، تنسجه مخيّلته وحدها... كيفما اتفق!

القدس العربي
2003/06/21