I
لعلّ معظم الرأي العامّ الثقافي العربي يجمع على أنّ جوائز الشاعر ورجل الأعمال الإماراتي الراحل سلطان بن علي العويس (التي تمنح خمس جوائز في حقول الشعر والرواية والنقد والعلوم الإنسانية والإنجاز الثقافي والعلمي، مرّة كلّ سنتين، وبقيمة 100 ألف دولار أمريكي لكلّ حقل) هي الجوائز الأرفع والأهمّ والأكثر نزاهة.
ما قد يجهله الكثيرون، في المقابل، هو أنّ النظام الداخلي للجوائز، ومنهجية تشكيل لجان التحكيم، وطرائق وتقاليد عمل هذه اللجان، والاحتراف العالي الذي يطبع عمل الأمانة العامة وحياديتها التامّة في المناقشات، كلّ هذه عوامل صانعة لتلك السمعة الطيبة التي تجعل جوائز العويس أكثر إثارة لاهتمام الجمهور الثقافي العربي، بالمقارنة مع جوائز أخري (الملك فيصل، اليماني، سعاد الصباح، البابطين ... الخ).
ولقد سبق لي أن شاركت في تحكيم جوائز العويس، وأسمح لنفسي تالياً بإيضاح بعض عناصر الصورة في ما يخصّ منهجية وطرائق وتقاليد عمل لجان التحكيم، دون المضيّ أكثر ممّا ينبغي في كشف أسرار عمل هذا المطبخ المعقّد الذي يتخذ القرارات بطريقة تشاورية سجالية وديمقراطية في آن. وما الغرض من إيضاح بعض هذه العناصر سوي ملاقاة الثقة التي يمنحها الرأي العامّ الثقافي العربي لجوائز العويس من جهة، والتشديد من جهة ثانية على حقيقة أنّ مناخات الحياة الداخلية للجان التحكيم هي التي لعبت وتلعب الدور الحاسم في ما تتمتّع به هذه الجوائز من سمعة طيبة، ومسار متصاعد، ومجاراة مدهشة لقوانين التطوّر التي تشهدها الحياة الأدبية والثقافية العربية ذاتها.
الخطوة الأولى في تشكيل لجان التحكيم تبدأ من اختيار الأعضاء (بناء على ترشيحات ليست قليلة التعقيد)، حيث يُراعى مبدأ التنوّع في السنّ والتجربة النقدية والحساسيات الفكرية والمنهجية وحسّ الموضوعية في دراسة وتقييم العمل الأدبي والفكري. الخطوة الثانية، بعد الحصول على موافقة المرشحين لعضوية لجان التحكيم، هي تقسيمهم إلى أربع لجان فرعية (بالنظر إلى أنّ جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي يمنحها مجلس أمناء مؤسسة العويس)، ثمّ موافاة كلّ عضو بنسخة كاملة من أعمال المرشحين للجائزة في حقل اختصاص اللجنة الفرعية (بعد أن تكون لجان خاصة في الأمانة العامة قد استبعدت ما ينبغي استبعاده من المرشحين الذين لا ترقى أعمالهم إلى مستوى المنافسة على الجوائز)، وذلك قبل فترة زمنية كافية تتيح لعضو لجنة التحكيم أن يستدرك ما قد يكون فاته الإطلاع عليه من أعمال المرشّح (وعلى سبيل المثال، إذا كان العضو يعمل في لجنة تحكيم الشعر مثلاً، فإنه سوف بتلقى صناديق كُتب تحتوي مئات المجموعات الشعرية، وليس العشرات منها فقط!). الجانب المهمّ في هذه المرحلة من العمل هو أن أيّاً من أعضاء لجان التحكيم لا يعرف هوية الأعضاء المشاركين الآخرين، سواء أكانوا معه في اللجنة الفرعية أم كانوا في لجان أخرى.
الخطوة الثالثة هي قيام كلّ عضو بكتابة تقارير نقدية عن كلّ المرشحين دون استثناء، ثم اختيار مرشحه المناسب للجائزة وتعليل الاختيار، وإرسال التقارير إلى الأمانة العامة، التي تقوم بجمعها وطباعتها بحيث يُتاح لكلّ عضو في لجنة التحكيم (في كلّ الفروع) الإطلاع على نسخة كاملة من جميع التقارير في الجوائز الأربع. الخطوة الرابعة هي اجتماع لجنة التحكيم للتداول واتخاذ القرارات، حيث (في هذه المرحلة فقط، وفي الاجتماع الافتتاحي الأوّل) يعرف عضو لجنة التحكيم هوية زملائه في اللجنة الفرعية وفي لجنة التحكيم كاملة بالتالي.
ويحدث أن يعقد أعضاء اللجان الفرعية اجتماعات تمهيدية خاصة للتداول حول أسماء المرشحين في حقل اختصاصهم، وقد يتوصّلون إلى مرشح إجماع واحد يعرضونه على اللجنة، وقد يفشلون في ذلك فيتمسّك كلّ عضو لجنة فرعية بمرشّحه. وأمّا القرار النهائي فهو من حقّ لجنة التحكيم الكاملة، حيث تذوب اللجان الفرعية تلقائياً عند مناقشة جائزة الاختصاص، ويصبح التصويت (بعد مناقشات مستفيضة ومعمّقة وساخنة والحقّ يُقال!) هو سيّد اللعبة. والباب الثامن من اللائحة الداخلية لجائزة العويس ينصّ علي أنّ الأمين العام هو الذي يرأس لجنة التحكيم بحكم منصبه، ويحقّ لأعضاء الأمانة العامة حضور جلسات التحكيم كمراقبين فقط، كما ينصّ على أن قرارات لجنة التحكيم تتمّ بالأغلبية، وإذا تساوت الأصوات يرجح الجانب الذي فيه الأمين العام أو من ينوب عنه.
ولا ريب في أنّ طرائق العمل هذه هي السبب في أنّ أبرز الأدباء العرب حصلوا على جوائز العويس تباعاً، دون أن يؤثّر في قرارات لجان التحكيم أنّ انتماءات بعضهم الإيديولوجية أو السياسية أو حتى الجمالية (وأخصّ بالذكر أمثلة محمد مهدي الجواهري، سعدي يوسف، عبد الرحمن منيف، يمني العيد، سعد الله ونوس) كانت تشكّل نقطة الحرج هذه أو تلك بالنسبة إلى جائزة خليجية في نهاية المطاف. الجانب الثاني، والأهمّ ربما، هو أنّ طرائق العمل ذاتها كفلت للجائزة مواكبة الحياة وسنّة التطوّر، وجنّبتها التقوقع والانعزالية والانحياز لأشكال أدبية بعينها، أو تفضيل تيّارات ومدارس فكرية وجمالية على سواها لأسباب لا علاقة لها بالأدب دائماً.
وفي حيثيات منح جائزة الشعر، الدورة السابعة 2001 ـ 2002، إلى الشاعر البحريني قاسم حداد، قالت لجنة التحكيم إنّ شعره يتميّز بالاهتمام بقضايا الإنسان في مواجهة الواقع، وقضايا الإبداع في مواجهة المكرّس والثابت. وأضافت أنّ لغته تميّزت بالجدة والحيوية والقدرة على استغلال إيحاءات الألفاظ والعبارات بما يخدم غرضه الشعري، وإنْ كانت لغته لم تسلم من الغموض وذلك يعود إلى اتكائه بصورة خاصة على معطيات الحدس والحلم وعوالم الباطن في تشكيل التجربة الشعرية.
والأرجح أنّ الفقرة الأخيرة (التي تثير بعض التحفّظ على غموض لغة حداد الشعرية) هي الإيحاء الأوضح حول الصراع الذي دار داخل لجنة التحكيم، بين أنصار القديم وأنصار الحديث، الأمر الذي يحدث دائماً في مداولات لجان التحكيم، وهو أمر طبيعي وحيوي ومطلوب في الواقع. ذلك لأنّ جائزة الشعر العويسية حقّقت هذا العام نقلة نوعية في موقفها من أشكال الشعر العربي السائدة اليوم، واختارت الفائز من صفوف شعراء قصيدة النثر، وهذا يحدث للمرّة الأولى. صحيح أنّ حداد يكتب التفعيلة أيضاً، ولكن من الصحيح أيضاً أنه شاعر قصيدة نثر، وتأثيره في المشهد الشعري الخليجي نهض وما يزال على خياراته الطليعية في المحتوى والشكل معاً، وقد لا نبالغ إذا قلنا أنّ الشكل كان دينامية التأثير الأكثر أهمية في السنوات الأخيرة من تجربة حداد.
هذا، في عبارة أخرى، اعتراف بشعرية قصيدة النثر من جهة، وإقرار بـشرعية وجودها على الساحة الأدبية العربية من جهة ثانية. وتاريخ جائزة العويس، الذي بدأ في العام 1988، يشير إلى منح جائزة الشعر إلي فدوى طوقان، وسعدي يوسف، وعبد الله البردوني، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد عبد المعطي حجازي مناصفة مع إبراهيم نصر الله، ومحمد عفيفي مطر، وقاسم حداد، فضلاً عن منح جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي إلي محمد مهدي الجواهري ونزار قباني. ثمة شكل العمود (الجواهري والبردوني)، وثمة التفعيلة في مختلف أطوارها الأجيالية والأسلوبية، ولكننا قبل قاسم حداد لا نعثر على شاعر واحد يكتب قصيدة النثر، أو يكتبها دون التخلّي عن التفعيلة.
وقد يقول قائل إنّ الاعتراف التامّ بشعرية وشرعية قصيدة النثر سوف لن يتحقّق إلا حين تُمنح الجائزة إلى شاعر لا يكتب التفعيلة، ولا يكتب سوى قصيدة النثر وحدها. وقد يكون في هذا القول بعض المنطق، ولكنه من جانب آخر منطق مفرط في الغلواء والانحياز لشكل محدّد واحد وحيد، وكأنّ الشاعر ينبغي أن يحمل شكل قصيدته هوية دالّة عليه، وأن يُقرأ بدءاً من الشكل وحده، ويتمّ تذوّقه وتثمينه من هاهنا فحسب. من جانبي أميل، دون أوهام كثيرة، إلى اعتبار قرار منح قاسم حداد جائزة الشعر إقراراً بأنّ شكل قصيدة النثر لم يعد مشروعاً وحاضراً وداخلاً في نسيج الشعرية العربية المعاصرة فحسب، بل هو أيضاً شكل جدير بالتكريم وحيازة الجائزة الأدبية العربية الأرفع والأهمّ والأكثر نزاهة وموضوعية.
II
في دراسة سابقة (1) أشرت إلي أنّ تفاعل التجارب الشعرية الخليجية الشابّة مع شعر قاسم حدّاد، اتخذ علي الفور ــ وفي نسبة عالية ــ شكل التأثّر بقصيدة النثر التي أخذ حداد يكتبها، أكثر من قصيدة التفعيلة التي بدأ بها ولم ينفكّ عنها. كأنّ الأصوات الشابة المتميّزة التي قرأنا تجاربها ببهجة وإعجاب منذ أواسط الثمانينيات ومطلع التسعينيات (قادمة من السعودية وعُمان والإمارات وقطر والبحرين) كانت قد أزمعت الانشقاق مبكّراً عن نماذج التجديد تلك، لا لشيء إلا لأنّ نزوع الانشقاق كان بين أبرز الدروس الجمالية التي بشّر بها الرائد نفسه.
وبذلك فإنّ من الإنصاف الحديث هنا عن دور ريادي مزدوج لعبه قاسم حداد: الأوّل جمالي ـ إبداعي يتّصل بضرب المثال الشعري كتابةً وخيارات، والثاني ثقافي ـ سوسيولوجي يتّصل بضرب المثال الانشقاقي سلوكاً وإيديولوجية. ولعلّ النبرة الكفاحية العالية في قصائد قاسم حدّاد الأولى (مجموعاته: البشارة (1970)، خروج رأس الحسين من المدن الخائنة (1972)، والدم الثاني (1975) بصفة خاصة)؛ وحقيقة كتابته لعدد كبير من القصائد وهو في المعتقل؛ وتنقّله المَرِن بين شكل التفعيلة وشكل قصيدة النثر؛ كانت جميعها بمثابة أمثولات بادية للعيان تماماً، حاضرة في مشروعات التحديث المحليّة الشابّة (الخليجية) ومتواصلة مع مشروعات التحديث العربية (الناجزة بهذا القدر أو ذاك في المراكز الشعرية)، وقادرة أبداً علي المساهمة والإغناء والاغتناء، محليّاً وعربياً في آن معاً.
هذه، في عبارة أخري، هي سياسة التجديد التي تتجاوز مهامّ تكريس التيّار الأدبي، وتكتسب وظيفة ثقافية ـ سوسيولوجية عميقة الأثر حين تعبر حدود تطوير الأساليب والأشكال والأغراض، وحين تحضّ على المقاومة في النصّ الأدبي مثل المقاومة في السلوك الإنساني، وتدافع عن مقترحات جمالية وأخرى فكرية، وترسل جوهرياً رسالة الانشقاق البنّاء: عن السائد في الكتابة (مبنى ومعنى، شكلاً ولغة وموضوعات)، وعن السائد خارج الكتابة (النظام والمؤسسة، السياسة والأخلاق).
ومنذ مجموعة (الدم الثاني) 1975، أخذنا نهتدي إلى شخصيّة الشاعر التي بدأت تستقلّ تدريجياً عن جملة التأثيرات، وإلى أولى السمات الأسلوبية التي سترافقه زمناً طويلاً، وستغتني من مجموعة شعرية إلى أخرى. لقد أخذ يدير شبكات سردية تمنح القصيدة حركة دوّامية ونموّاً عضوياً هادئاً؛ ويقيم حوارات بين ضمائر المتكلّم والغائب والمخاطَب، بالمفرد وبالجمع؛ ويبدّل التفاعيل داخل القصيدة الواحدة على نحو سلس متّسق أحياناً، ومتقطّع خشن الوقع أحياناً أخرى؛ ويضمّن الكتلة التفعيلية مقاطع نثرية مفاجئة؛ ويترك للغة أن تسترسل في ما يشبه الطواف اللفظي الحرّ؛ ويمزج في القصيدة الواحدة بين التركيب الدرامي ـ الحواري والتركيب الغنائي ذي الضمير المنفرد. أمّا موضوعات قصائده فقد خرجت، مرّة وإلى الأبد في الواقع، عن تلك النبرة الخطابية الحارّة التي طبعت مجموعته الأولى، ومالت أكثر فأكثر إلى التمحور حول الرؤى الحلمية والصوفية التي تتشكّل استناداً إليها عوالم طرفة بن الوردة، ومنظورات رثائه لعصره، وتحوّلاته الميتافيزيقية في الزمان والمكان:
(في طرف القبر حلمٌ: أنا الطرف الثالث للحلم
ماءٌ يسير ويختصر الموتَ والمهرجانْ
سأفصل ما بين عصر الوقوف وبيني
ليَ الآن حرّية في الرحيلْ
لغاتي ذائبة وحدها في الهواءْ
إذا شئتُ أدخلُ من فجوة الليل أو أستقيلْ.
حوانيتٌ توزّع مرض الحزن والنومْ. ومصحّاتٌ
بحجم السأم المرابط تنشر سلالة الشرطيّ
والصلاة والشفق واحتقان الأمل في الوريد.
وتحتلّ الغفلة جيلاً بلا أسئلة.
أنا خندقٌ عمّقته السؤالات والشكّ أن الطفولة ماءٌ
وأنّ النخيل طريقٌ إلي الماءْ.)
ومن الواضح أنّ السطور ( 7 / 10) تخرج عن الكتلة التفعيلية إلى النثر دون سابق إنذار، كما أنّ مخطط التواتر المخفّف للقافية لا يشبه في شيء تلك المخططات السابقة حين كان قاسم حدّاد يلجأ إلى التسكين أو التضحية بالتشكيل الصحيح لأواخر الكلمات في سبيل تحقيق القافية.
قبل هذه المجموعة وبعدها شهدت تجربة الشاعر منعطفها الحاسم التالي، حين استقرّ على تكريس مجموعتَين كاملتَين لشكل قصيدة النثر: قلب الحبّ (1980)، وشظايا (1983). ويمكن الركون، دون أدنى مساءلة، إلى ما يقوله حدّاد عن هذا الطور، الذي يدشّن مراحل تململه الفنّي في المجموعات الأولي، ويتبلور في خروج مباشر وشامل عن التفعيلة . غير أنّ الاعتراف الأكثر أهميّة، حول هذه المرحلة، هو ذاك الذي يتعلّق بإدراك الشاعر للمسؤوليات المترتبة عليى حيازة الحريّة التعبيرية هذه، وخطورة أداتها الكبرى: اللغة. وفي سيرة النصّ يقول: (الاحتفاء باللغة، إذن، هو الشرط الأوّل لتخلّق الحالة الشعرية، حيث الصورة الفنّية لا تتحقق بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة (...) تبلور ذلك في تعاظم الحساسية تجاه الإيقاع اللامتناهي في اللغة العربية: الكلمات، الجمل، المفردات، الحروف، الصور، الاستعارات، الدلالات، العلاقات. كنت أجد في اللغة طاقة هائلة من الإيقاع، الذي كانت الأوزان والتفاعيل تسحقه أو تَعبر عليه بضجيجها الخارجي والعام، ورأيت في ذلك كبتاً لحرّية الحرف، كوحدة وذات، في مواجهة القانون الموضوعي العام، الذي لا يرى في الحرف سوى جرس يمكن أن يصخب مثل طبل في نهاية كلّ كلمة وعند خاتمة كلّ قافية.. في ذيل الشطر أو التفعيلة ).
لماذا ــ بين مجموعة قصائد نثر وأخرى، وبعدهما أيضاً، وبعد هذا الكلام المتشدّد ضد ضجيج التفاعيل وجرس الحروف التي تصخب مثل طبل ــ عاد قاسم حدّاد إلى كتابة قصيدة التفعيلة في القيامة، بل واستخدم القافية في انتماءات ؟ ألا تبدو مقاطع قصيدته الفاتنة أوراق الجاحظ الصغيرة وكأنها تذكرة بليغة بأفضل ما في تقاليد قصيدة التفعيلة من صياغات موسيقية باهرة؟ هنا، على سبيل المثال، مقطع من مجموعة (انتماءات) 1982، يصعب أن تكون حروف قوافيه صاخبة مثل طبل:
(أرّختُ للدماء في سرادق العروسْ
وقلت للطاووسْ:
تصير غرباناً على الذبيحهْ
أرّختُ. كنت الكتب الجريحهْ
مصابة بالكتب الفؤوسْ
بعثتُ أوراقي إلى رفاقي
أرّختُ. صارت جنّتي بغداد
آهٍ على بغدادْ
محزومةٌ بالماء والزنازن الفسيحهْ
أرّختُ للعروسِ
لو أرّخت غير الكتب الكسيحهْ)
وفي يقيني أنّ الإجابة على التساؤلات السابقة تكمن في حقيقة أنّ الإنعطافة الأسلوبية الفاصلة التي شهدتها تجربة قاسم حدّاد منذ مطلع الثمانينيات وحتى أواسطها لم تكن تدور حول قلق الشكل (التفعيلة، أو قصيدة النثر)، بل حول قلق اللغة الشعرية أوّلاً، وقلق الموضوعات ثانياً. وليس بغير مغزى تعبيري عميق أنّ مجموعتَي (قلب الحب)ّ و (شظايا) تشتركان في سمات محدّدة طارئة على أسلوبية حدّاد: القصيدة القصيرة، أو تلك التي لا تتجاوز السطرين؛ قصيدة الحب؛ وموضوعة محاورات العاشق؛ المسحة الغنائية الممتزجة برومانسية شفيفة؛ والاشتغال التشكيلي على علاقات التجاور الدلالي بين الألفاظ.
هذا القلق الأسلوبي (الذي يدور جوهرياً حول الأدوات التعبيرية، وليس حول الخيار بين شكل التفعيلة وقصيدة النثر) هو الذي سوف يعطينا دفعة من أصفى مجموعات قاسم حدّاد الشعرية، بدءاً من (انتماءات) ، وصولاً إلي (عزلة الملكات) 1992، ومروراً بالمجموعة المتميّزة (يمشي مخفوراً بالوعول) (1990). وفي هذه المجموعة الأخيرة تحديداً ندرك مقدار الاضطرام التعبيري الذي قاد الشاعر إلى هذا المستوى المستقرّ من القدرة على المصالحة بين الشكلَين، والمستوى القَلِق (المتحرّك أبداً) من أنساق تجريب الأدوات، واللغة الشعرية بخاصة.
وإذا كانت هذه المجموعة قد صدرت في مطلع التسعينيات، فإننا من جانب آخر نعرف أنها كُتبت في العام 1982: عام انخراط قاسم حدّاد في دورة معقدة من البحث الجمالي والاستكشاف التعبيري. ومّما يرتدي أهميّة خاصة في هذا السياق أنّ الشاعر هنا كان قد استقرّ كثيراً في علاقته النقدية مع خياراته الشعرية السابقة، ولكنه استقرّ أكثر في استقلاله عن تأثيرات شعراء المدرسة الحديثة ، كما كان يحلو له تسمية شعراء التحديث العرب في المراكز .
ومجموعة (قبر قاسم) (1997) هي ذروة اكتمال دورة البحث والاستكشاف تلك، والأرجح أن قاسم حدّاد قرّر ــ بعد هذه المجموعة بالذات ــ أنّ تاريخه الأسلوبي قد شهد الكثير من التصارع والتطاحن والقلق والاستقرار، وأنّ الأوان قد آن لإصدار الأعمال الشعرية الكاملة. وليس من المدهش، والحال هذه، أن يكون هاجس تطوير اللغة الشعرية هو القاسم المشترك الأعظم في المعادلات الجمالية والتعبيرية التي نهضت عليها هذه المجموعة، الأضخم حجماً والأكثر أهمية في تراث الشاعر.
وشخصياً يحلو لي أن أرى في قرار منح قاسم حداد جائزة العويس للشعر تكريماً لدورة البحث والاستكشاف تلك، وهي الدورة القلقة الغنية المفتوحة التي تجاوزت عقدة الشكل حين تطهّرت من عقدة الانحياز إلى شكل واحد وحيد.
* عن جريدة القدس
لندن 19 ديسمبر 2001