قبل أيام معدودات، وضمن إطار الحوار الثقافي السوري ـ الأوروبي الذي تنظمه بعثة المفوضية الأوروبية في سورية، كان الجمهور السوري في مدينتَي دمشق وحلب علي موعد مع أدونيس، لعلّه الأوّل من نوعه منذ سنوات طويلة، إذا لم يكن الأوّل في نوعيّته علي الإطلاق. أمسية شعرية في قصر العظم؛ وأخري شعرية أيضاً بعنوان قراءات متقاطعة في المركز الثقافي الفرنسي، صحبة الشاعر الفرنسي ألان جوفروا؛ وندوة نقدية ـ فكرية عن الشاعر ومعه، بعنوان أدونيس: الشاعر والمفكر ، في مكتبة الأسد؛ وأخيراً، أمسية شعرية ـ موسيقية في حلب، بعنوان جاز وشعر .
وهذه الزيارة تستدعي عدداً من الملاحظات ذات الطابع النقدي والفكري والسياسي، ولكنها في البدء تثير شجناً من نوع خاصّ... وعتيق عتيق يتّصل بقاعدة كرامة النبيّ في أهله! أليس من المحزن حقاً أن تجري هذه الأنشطة، النوعية مرّة أخري في قناعتي، بمبادرة من جهة أجنبية وليس من جهة سورية؟ وإذا كانت المفوضية الثقافية الأوروبية قد اتبعت الأصول واختارت سورية (وليس ألمانيا أو فرنسا) مكاناً لهذه الأنشطة، فما الذي منع اتحاد الكتّاب العرب من طيّ الألاعيب الصغيرة مؤقتاً، والمشاركة في تكريم رجل هو ــ في أوّل الأمر وليس في آخره ــ شاعر كبير ومواطن سوري بارز تماماً علي الصعيد الدولي؟ أليس من المخجل أن لا تنشر صحيفة الإتحاد الرسمية، الأسبوع الأدبي ، أية تغطية لهذه الأنشطة؟
وأمّا الملاحظة الأولي، السياسية، فهي أنّ الشاعر الكبير تحاشي الخوض في مسائل حقوق الإنسان، وكان في وسعه أن يفعل ذلك دونما عواقب وخيمة، ودونما أية عواقب نهائياً ربما. إنه لم يكن ممنوعاً من دخول بلاده، وهو اليوم يزورها بصورة طبيعية تماماً، أي ليس تحت راية أوروبية؛ وهو ليس مع النظام (مبدئياً، إذْ لا يمكن لشاعر في قامة أدونيس أن يقف مع حكم استبدادي ـ وراثي)، ولكنه في الآن ذاته ليس في صفوف المعارضة (وليس من الصواب أن يطالبه أحدٌ بهذا). ولكنه كان في عداد المثقفين السوريين الذين وقّعوا عريضة الـ 99 الشهيرة، ومن واجبه ــ بمعني أضعف الإيمان كما أري ــ أن يعلن من دمشق تضامنه مع مثقف آخر زميل له في التوقيع علي العريضة، هو الدكتور عارف دليلة، الذي يقبع في سجون النظام إثر محاكمة صورية أشبه بالمسخرة القضائية. وبالطبع، أثير هذه الملاحظة استناداً إلي ما أملك من معلومات حول تصريحات أدونيس في سورية، راجياً والله يعلم أن يأتي مَن يكذّبني ويقول: كلاّ، لقد تضامن الشاعر الكبير مع زملائه السوريين المعتقلين، وقال كذا وكذا.
الملاحظة الثانية، الفكرية، هي أنّ ندوة مكتبة الأسد النقدية شهدت عدداً من تعليقات أدونيس الهامة والجديرة بالمناقشة، مثل هذا مثلاً (وأقتبس علي ذمّة راشد عيسي في السفير اللبنانية): التأويل اليقيني في الفكر العربي انتقل إلي بنية النظام السياسي، الذي أصبح هو الآخر ذا صفة مطلقة ويقينية، وألغيت فكرة الوطن الذي ينتمي إليه الفرد، وهذا تطوّر لم يحدث ما يشبهه في تاريخ العالم إلا عند العرب. ألغيت فكرة الوطن وحلت فكرة النظام، وهكذا نشأ نظام عربي واحد وبتسميات عديدة (ديكتاتورية جمهورية ديمقراطية) يقصي الإنسان بوصفه كائناً حرّاً يطرح أسئلة علي نفسه والوجود والعالم .
والحال أنّ إقصاء الوطن لصالح النظام ليس اختراعاً عربياً، بل استورده طغاة العرب من الخارج، وحدث ما يشبهه في تاريخ العالم، مراراً وتكراراً وكلّما صعد دكتاتور علي جثث الشعب وأشلاء الوطن. وشهد الغرب، قبل الشرق، عشرات الأمثلة علي أنظمة استبداد ألغت مباديء المواطنة لصالح عبادة القائد الفرد، وحوّلت الشعب إلي قطيع، وبينها النظام السوري الذي تناساه أدونيس. وللحقّ والإنصاف، كان المفكّر السوري الكبير أنطون مقدسي قد ذكّر بالفارق بين الشعب والقطيع، في رسالة مفتوحة إلي الرئيس السوري بشار الأسد!
الملاحظة الثالثة، النقدية، هي أنّ أدونيس اكتشف أنّ الناس أتوا بأعداد كبيرة إلي أمسياته وندواته، وعن هذه النقطة يقول، نقلاً عن علي الراعي في تشرين السورية: أنا سعيد جداً بقدر ما أنا متفاجيء، ومتفاجيء جداً بقدر ما أنا سعيد بهذا الجمهور، لا سيما وأنني لم أكن في حياتي شاعر جمهور، وإنما كنت شاعر قرّاء أفراد. ومن جانبي، كمواطن سوريّ ودارس شعر، أقول إنني سعيد جداً بإقبال الجمهور السوري علي أدونيس، ولكني لست متفاجئاً به البتة. وأعترف أنّ بعض بهجتي يعود إلي أسباب شخصية، لأنّ أدونيس يكمل فيقول: أعتقد إذا كانت هناك أزمة فيما يتعلّق بالشعر العربي فهي ليست أزمة كتابة، بل هي أزمة قراءة. وبتقديري فإنّ الكتابة الجديدة مقصّرة حتى الآن في خلق قرّائها؛ وهذا تفصيل نقدي وسوسيولوجي شديد الأهمية، عزيز عليّ تماماً، أناقشه وأكتب فيه منذ سنوات.
ولست أرتاب، أخيراً، في أنّ ذكاء أدونيس وعمق استبصاره للأمور والظواهر، سوف يتيحان له أن يفهم الكثير من الدلالات النبيلة الأخرى وراء احتفاء السوريين به، وأن يردّ لهم التحية كما يليق بقامة كبيرة.
القدس العربي-2003/07/07