صبحي حديدي
(سوريا/باريس)

صبحي حديديخلال الندوة الدولية التي نظمتها جامعة السوربون في إحياء المئوية الأولى لوفاة الشاعر الفرنسي بول فيرلين، قرأت الباحثة الإيطالية باولا ريكشيولي ورقة حول ترجمة فيرلين إلى الإيطالية، كانت ستمرّ بسلام مثل أوراق أخرى تحدثت عن ترجمة هذا الشاعر إلى الألمانية والإنكليزية والروسية والهنغارية و اليابانية والكورية... لولا ما قالته على هامش الورقة: "لقد عرفت فرنسا الكثير من الشعراء بعد فيرلين، ولكن هذا الرجل كان آخر الكبار".

وسواء اتفق المرء أو اختلف مع هذا الرأي الراديكالي، فإنه في الحالين لن يخرج عن إجماع من النوع التالي في توصيف موقع فيرلين في خريطة الشعر الفرنسي: لقد التقط بودلير في عمر مبكّر للغاية وجهد طويلاً لمواصلة تلك الأسلوبية الفريدة التي بشّرت بها مجموعة "أزهار الشر"، وأغنى الشعر الفرنسي بالكثير الجديد في مستوى الموضوعات والتقنيات، وحرّره من كمّ مماثل من الأعراف والقيود، وحقّق الرابطة الشاقة بين مالارميه ورامبو، وانتمى إلى "الحركة البرناسية" دون أن ينجرف إلى جمالياتها الرومانتيكية المطلقة ودون أن يكبح جماح الترميز الكثيف والتصوير التشكيلي للعالم المادي، وعاش حياة صاخبة وعاصفة ومشحونة بكل ما هو جدير بشاعر بوهيمي.

ولعلّ "الصداقة اللدودة" التي جمعت فيرلين ورامبو هي التفصيل الأكثر دراماتيكية في حياة متقلبة مضطربة صاخبة معذّبة. ففي أيلول (سبتمبر) من العام 1871، تلقّي فيرلين رسالتين من رامبو، وصلتا من بلدة شارلفيل واحتوتا عدداً من القصائد (هي اليوم جزء من كلاسيكيات الشعر الفرنسي)، مع طلب بأن يبذل فيرلين جهوده لمساعدة رامبو في المجيء إلي باريس. وعرض فيرلين القصائد على عدد من أصدقائه، فشاطروه إنطباعه الحسن عنها، وتحمسوا للموهبة التي تقف وراءها. ولم يتأخر فيرلين، فكتب إلى رامبو: "تعال أيها الروح العظيمة العزيزة. نحن ننادي عليك، وننتظرك"، وأرفق بالرسالة مبلغاً من المال يكفي لوصول رامبو إلى باريس.
وهكذا بدأت صداقة خاصة حقاً بين الشاعرين، لم يمض وقت طويل حتى أخذ الشارع الباريسي يتقوّل حول طبيعتها، وبلغ الأمر أن صحيفة كتبت تقول: "شوهد المسيو بول فيرلين وقد تأبط ذراعه مخلوق شاب فاتن، هو المدموزيل رامبو". وقد زاد في الطين بلّة أن ظروف طفولة فيرلين، مثل طفولة رامبو، قد خلّفت الميول الواضحة نحو المثلية الجنسية، الأمر الذي أسهم في تكريس مشاجرات دائمة بين فيرلين ورامبو. وفي تموز (يوليو) من عام 1872 غادر الصديقان إلي بروكسيل، ثمّ إلى حياة تسكع أخرى في لندن هذه المرّة، وإلى دورة متعاقبة من الخصام والمصالحة والخصام من جديد، حيث كان الأمر ينتهي دائماً بشجار أشدّ عنفاً.
ويبدو أن أحداً لا يعرف على وجه الدقة ما الذي اعتور فيرلين في بروكسيل، صبيحة العاشر من تموز (يوليو) 1873، حين خرج باكراً لابتياع مسدس، وعاد مخموراً عند الظهيرة. "هذا لك، ولي، وللجميع"، قال فيرلين وهو يظهر المسدس لرامبو. ولكن الرجلين غادرا الفندق معاً، وشربا وتناولا الطعام، ثم عادا إلى الغرفة وإلى وصلة شجار جديدة أسفرت هذه المرة عن طلقتين من مسدس فيرلين: واحدة أصابت ساعد رامبو، والثانية ارتطمت بالجدار. وحين هرعت والدة فيرلين إلى الغرفة وجدت ابنها يبكي بحرقة ويتوسل إلى رامبو أن يطلق رصاصة على رأسه.

وفي المستشفى دخل الصديقان اللدودان في جدل جديد لم ينفع في تبديل قرار رامبو بالعودة إلى فرنسا. وبعد تضميد الجرح غادرا إلى المحطة دون مشكلة قانونية لأن رامبو لم يتقدم بشكوى، ولكنهما تشاجرا في الطريق. وتجمع الروايات على أن فيرلين مدّ يده إلى جيبه أو هدّد باستخدام المسدس ثانية، مما جعل رامبو يفرّ من أمامه ويحتمي بشرطي. وبعد ساعة كان فيرلين محتجزاً في انتظار حكم سيصدر بحقّه بعد أقل من شهر، ويقضي بسجنه سنتين.
في السنة ذاتها حصلت ماتيلد على أمر قضائي بالإنفصال عن فيرلين، رغم الإفراج عنه قبل انقضاء مدّة حبسه. وفي شرط مثل هذا ارتدّ فيرلين إلى نزعة تديّن كاثوليكية كانت محفورة في وجدانه منذ الطفولة، لكنها امتزجت برؤيا نبوية تجوس أركان هذا المجتمع "المقيت، العفن، الخسيس، الأرعن، والملعون"، ولا توفّر نقداً لأحد: الديمقراطية، الجمهورية، حقّ الانتخاب، فكتور هيغو، فلوبير، غونكور... ولكنّ فيرلين الجديد هذا لن يتردد في البحث عن رامبو فور خروجه من السجن، والسفر إليه في شتوتغارت لإقناعه بالعودة إلى فرنسا، دون طائل.

وفي ذروة صعود مجده وانتخابه "أمير الشعراء" الفرنسيين، أخذت الأمراض تفتك بجسده (الروماتيزم، السكري، السفلس، ذات الرئة...)، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة يوم الثامن من كانون الثاني (يناير) 1896بعد غيبوبة طويلة. وهكذا، قضي بول فيرلين كما يليق بشاعر بوهيمي رجيم غير عادي: وحيداً، عارياً، ممدّداً على بلاط الغرفة المظلمة الباردة. ومنذ أيام صدرت مختارات جديدة من قصائد فيرلين، مزيّنة برسوم بديعة للفنّان الفرنسي المعروف غابرييل ليفيفر، تلتقط جانباً جديداً ومدهشاً في شخصية فيرلين: براءة الطفولة، والحسّ البدائي بالأشياء، وصفاء الروح...
ولِمَ لا، في نهاية المطاف؟