صبحي حديدي
(سوريا/ باريس)

بلند الحيدريتهدف هذه القراءة إلي استعادة ذكري الشاعر العراقي الراحل بلند الحيدري (1926 ـ 1996) بوصفه واحداً من روّاد الشعر الحديث في العراق من جهة أولي؛ وتسعي من جهة ثانية إلي محاولة وضع الأطوار المبكرة من تجربته ــ وتحديداً مجموعاته الأولي خفقة الطين ، 1946، و أغاني المدينة الميتة ، 1951، و خطوات في الغربة ، 1965 ـ في سياق محدّد يختصره السؤال التالي: هل مارست قصائد الحيدري دوراً غير مباشر ـ ودوراً مباشراً حاسماً ربما ـ في تشجيع وتحصين الولادات المبكرة والنماذج اللاحقة من قصيدة النثر العربية؟ وهل من المشروع القول بأن واحداً من أبرز مظاهر التحديث الشعري العربي (أي خيار التفعيلة والشعر الحر) كان في الآن ذاته يستبطن ويؤسس ويطلق في داخله ذلك الاعتمال النشط الذي سيسفر عن الثورة التؤام ، ويرفع قصيدة النثر إلي مصافّ الخيار الأكثر شيوعاً في الكتابة الشعرية العربية منذ أواخر السبعينيات وحتى أيامنا هذه، وربما إلي أمد قادم لا يبدو أنه سيكون قصيراً؟

وفي ظنّي أن هذا النوع من الاشتغال التحليلي علي تجارب روّاد الشعر الحرّ لا يستمدّ شرعيته الواضحة من حقيقة أنه يفتح الكثير من الحقول الدراسية الجديدة والخصبة فحسب، بل لأنه يربط علي نحو مقارن بين مختلف الأحقاب والأجيال والأشكال والتيارات، ويضع تجارب الروّاد في سياقات تاريخية ـ جمالية متحرّكة في الزمان والمكان. إنه، أيضاً، الاشتغال الوحيد الذي يسمح بعمليات قراءة جدلية تستهدف ردم الهوّة (الزائفة أصلاً) بين طور تحديثي أوّل شهد ولادة ورسوخ الشعر الحرّ، وطور تحديثي تالٍ شهد ولادة قصيدة النثر بوصفها الامتداد الطبيعي للحركة بأسرها، وليس النقيض التناحري لواحد من تفاصيلها دون سواه، أي الوزن مقابل النثر .(1) وبهذا المعني يكون هذا الاشتغال أكثر جدوى، لأنه علي وجه الدقة أكثر مشقة وأشدّ انطواء علي التحديات، و.. أجزي ثواباً! ولعله أكثر أهمية من البحث التقليدي في خصائص وتواريخ وملفات الريادة (أو الريادات) الشعرية علي اختلاف أحقابها وجغرافياتها، لأنه جوهرياً اشتغال في منطقة دراسية مختلفة لا تسعي إلي الأغراض ذاتها، ولا تنظر إلي التاريخ الأدبي من الوجهة ذاتها، ولا تتكيء في استخلاص نتائجها علي العدّة المنهجية ذاتها. ففي وسع المرء أن يفرغ سريعاً من حكاية وضع بلند الحيدري في السياق العام لطور الريادة الشعرية، وذلك حين يقرأ أية شهادة للشاعر الراحل أو لأقرانه ومعاصريه. علي سبيل المثال، يقول بلند الحيدري:
ولدت عام 1926، وفي ذات العام ولد بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، وقد كان لنا بعد عشرين عاماً علي وجه التقريب أن نبدأ رحلة الشعر الحديث عبر مداخل رئيسية هي:

أولاً: الخروج علي شكلية القصيدة القديمة باعتماد التفعيلة أساساً، متجاوزين بذلك نظام الشطرين في القصيدة الكلاسيكية.

ثانياً: اعتماد الوحدة العضوية للقصيدة، حيث يكون لها أن تنمو من أطرافها المتعددة ـ موسيقاها وصورها ـ ومحتواها العضوي، وبما يؤكد مقامها علي ثلاثة محاور ـ أوّل ووسط ونهاية.

ثالثاً: اعتماد الكلمة المأنوسة والمألوفة لإيجاد البعد الإيحائي للمفردة، فإذا كان لي أن أختار ما بين كلمتَيْ سكين أو مدية ، فقد اختار الأولي منهما لما تحمل من ترجيع ذهني وتداعيات من خلال ألفتنا اليومية للكلمة.

رابعاً: حاولت جاهداً أن أسعي إلي تأكيد الاختزال في قصيدتي، وهو ما أطلق عليه جبرا تعبير الأسلوب البرقي ، أي استخدام أكبر إيحاء في المضمون من خلال أقل ما يمكن من الكلمات.

خامساً: حاولت الإفادة من ثقافتي الفنية في المجال التشكيلي في شعري، كاستخدام الفراغات والألوان بمرماها الانطباعي . (2)

وهذه الشهادة تختصر، علي نحو دقيق وشامل، جوهر تجربة الحيدري كما رآها وننوافق إجمالاً علي رؤيتها. وعلي الأرجح فإن الدارس لن يقوم بأكثر من تفكيك و توسيع وإعادة إنتاج عناصر هذه الشهادة، سواء بطريقة معقدة صائبة أو بأخرى تبسيطية قاصرة، الأمر الذي لا يعني الدعوة إلي إغلاق الباب أمام الاجتهاد... هنا وهناك، في هذه أو تلك من المعطيات القديمة التي قد يحدث أن تجدد نفسها، ليس أكثر.

***

كيف يستقيم القول بأن نصّ بلند الحيدري الشعري لعب دوراً، مباشراً أو غير مباشر، في تشجيع وتحصين الولادات المبكّرة والنماذج اللاحقة من قصيدة النثر العربية، وهو الشاعر الذي لم يجرّب قصيدة النثر، واقتصرت تجربته الشعرية علي العمود الخليلي أوّلاً ثم التفعيلة أو الشعر الحرّ حسب المصطلح الذي كان شائعاً آنذاك؟ وكيف يستقيم ذلك وخياراته في التنويع التفعيلي ظلّت قائمة علي هندسة إيقاعية عالية وصلدة ومحْكَمة، حتي ليمكن الجزم بأن موقفه ــ تماماً مثل موقف بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ــ كان محافظاً ومتحفظاً إزاء تجارب الإبدال الوزني لبحور محددة مثل المديد والمتدارك، وهي التجارب التي حاولت إشاعة مناخ من الارتباك الوزني (3)، وخلخلة التربية الإيقاعية السائدة، فشكّلت بهذا القدر أو ذاك عتبة علي طريق الولادة غير العسيرة لقصيدة النثر؟
وثمة نمط آخر من الأسئلة: ألم يكن موقف بلند الحيدري من قصيدة النثر العربية مناهضاً دون أي لبس، بل ومعادياً لمعظم تجاربها وعلي نحو متشدد أحياناً؟ ألم يذهب ذات يوم إلي حدّ إطلاق صفة الفئران علي بعض شعراء قصيدة النثر (4) ؟ ألم يعلن مراراً إيمانه بأن:
الشعر يقوم علي المضمون الشعري والإيقاع الشعري. فالمخيلة الشعرية كانت موجودة في النثر العربي منذ القديم، لكنها لم تسمّ شعراً لأن الشعر لا يقوم إلا علي جانبين، خاصة وأن اللغة العربية فيها من الإمكانيات الموسيقية ما لا يتوفّر للكثير من لغات العالم. فلماذا أهجر هذه الإمكانية إلا إذا حاولت أن أعترف بضعف قدرتي علي استخدام الوزن والإيقاع الموسيقي. فقصيدة النثر تحقق الجانب الأول من الشعر، وهو المخيلة الشعرية، لكنها تفتقد الجانب الثاني الذي يعزز من العمل الشعري، والحقيقة إلي اليوم تقول بأن الغناء أجمل من الكلام العادي، والرقص أجمل من المشي . (5) وثمة، أخيراً، نمط ثالث من الأسئلة حول جذور وبدايات قصيدة النثر العربية. وإذا كان المقام لا يسمح بالخوض فيها، فإن التذكير بها يرتدي أهمية منهجية لتطوير المحاججة الرئيسية حول تأثير الأطوار المبكرة من تجربة الحيدري الشعرية في قصيدة النثر العربية. علي سبيل المثال: هل نردّ تلك الجذور والبدايات إلي الريحاني وجبران خليل جبران، أم إلي السور القرآنية القصار وترجمة التوراة؟ هل نجد أصولها الأولي عند ميّ زيادة ورشيد نخلة ومنير الحسامي ومجموعة ألبير أديب وأورخان ميسّر وعلي الناصر، أم نجدها عند ثريا ملحس وتوفيق صايغ ومحمد الماغوط، ثم أنسي الحاج وأدونيس وشوقي أبو شقرا؟ مادور ترجمات نصوص رامبو وبودلير وسان جون بيرس، ثم كتاب سوزان برنار قصيدة النثر من بودلير حتي أيامنا (6) الذي تحوّل منذ أواخر الخمسينات إلي إنجيل نظري للسواد الأعظم من روّاد قصيدة النثر؟

وفي التعليق علي هذه الأسئلة، أكتفي بالقول إنّ قصيدة النثر العربية لم تكن نتاج تجريب طويل في الشكل الشعري، ولكنها يمكن أن تكون نتيجة طبيعية لتجليات وإرهاصات التجريب الأحدث عهداً، أو لعلها لا يمكن إلا أن تكون كذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية ـ الأدبية التي تكتنف أية ثورة أدبية أو أية ولادات أسلوبية وتعبيرية كبري. بهذا المعني يكون بلند الحيدري (ومن قبله بدر شاكر السيّاب بصفة خاصة) أحد الآباء الكبار الذين مهّدوا الأرض الوعرة لحركة تجديد معمّقة وراديكالية في السائد الشعري، وشقّوا الطريق العام الأصعب الذي ستتفرع عنه مسالك فرعية عديدة.
وفي التعبير عن الوجدان الإبداعي داخل ذلك المخاض العميق المضطرّم لتلك الحقبة، هنا نصّ بالغ الأهمية علي لسان بلند الحيدري: هنالك في بغداد الأمس كان الواحد منّا يحاول أن يجد لما تراكم في نفسه من قلق وهلع وخيبة متسعاً في الأدب يثبت فيه قيماً جديدة تتناسب مع أحاسيسه وتفهمه العاطفي لمشاكل العالم. وكان العالم يتحدث بصوت مبحوح عن جريمة قتل مرعبة حدثت في هيروشيما، وعن انتحار كاتب ألماني في البرازيل، وعن طالب بعث برسالة إلي الرئيس الأمريكي يسأله عما إذا كان عليه أن يتمّ دراسته بعد أن اخترعت القنبلة الذرية. وكانت صحف بغداد تتحدث عن تاجر خلط الدقيق بنشار الخشب وقدّم خليطه خبزاً للناس (...) وكانت تحملنا قصاصات من ورق عبر أمسيات كثيرة من مقهى إلي مقهى، لنستمع إلي هذه المحاولة الجديدة، وننتقد تلك القصيدة ونحن نحاول أن نفلسف العالم من حولنا. وظلّ البعض منّا يحاول يائساً أن يوفق بين ماركس ونيتشه لينتشل نفسه من صراع مرّ . (7)

تلك، بالتالي، كانت حقبة الهزّات الكبرى والأسئلة الشائكة والتجديدات الأكثر عمقاً، حين يتطلّب العصر صورته كما عبّر إزرا باوند، وحين تقع علي عاتق الشعر مهمة جَسْر الهوّة بين اللغة اليومية وشعرياتها، وبين الشعر وانقلابات النفس... هذه النفس المترعة بإنسانيتها حتي حدود المأساة المنثورة كما عبّر هيغل. وتلك كانت أخطر عتبات ما يمكن اعتباره تسوية تاريخية بين الوزن والنثر في التعبير الشعري: تسوية بمعني التفاعل التبادلي بين الوسيطين، وتاريخية بمعني وجودها في سياق ثورة شعرية جذرية يشهدها مجتمع (وذائقة جمالية) في حالة عالية من الارتجاج والترقّب والتعطّش للجديد.

في تلك الفترة الحافلة المبكرة كانت قصائد بلند الحيدري تأخذ النماذج التالية:

ـ 1 ـ

ينسج الصمت في جوانب نفسي
من خطاه الطويلة،
المسكونة
عالماً شامخ الذري
يتأبى أن يري نفسه حكاية طينة.
مدفن الظل

ـ 2 ـ

أبغي سموّاً ولكن
حوّاء فيّ وآدم
ولستُ إلا ظلالاً لرقصة تتقادم
ولستُ إلا تراباً
قد نتّنتهُ السنون
قاذورة من أمان أغفت عليه الدجون.
همس الطريق

ـ 3 ـ

بالأمس
مرّ من هنا
قال لنا شيئاً ومرّ من هنا
فانساب في قريتنا
فجرٌ وأينعت مني
واستيقظت كرومنا
لتنحني، حباً وظلاً وجني

بالأمس
مرّ من هنا
قال لنا شيئاً ومرّ من هنا
وكان في نظرته
وعدٌ
وفي بسمته
رعدٌ وفي قبضته
جرحٌ وآلام تفجّر السنا
للأرض
للتاريخ
للدنيا، لنا.
قال لنا شيئاً

لقد كانت هذه النماذج تتغاير وتتنوّع في الشكل والمحتوي، ولكنها في الآن ذاته واصلت أداء دور محوري في استكمال تلك التسوية التاريخية بين الوزن والنثر علي صعيد اللغة الشعرية (ما سيطلق عليه الحيدري تعبير المفردة المأنوسة في شهادته المقتبسة أعلاه)، وبين التقاط صورة العصر علي نحو نيتشوي، والتعبير عن موقع الكائن في سياق المأساة المنثورة بالمعني الهيغلي، وضمن السياق الفلسفي الأعرض للأغراض الشعرية (وهو بعض المظهر الملموس لتعبير الوحدة العضوية في القصيدة، والذي استخدمه الحيدري علي نحو تعميمي بعض الشيء في الشهادة ذاتها).
والنماذج السابقة تسمح لنا باستخلاص خصائص محددة في أسلوبية الحيدري، كانت بمثابة إسهامه الشخصي ضمن تيّار الشعر الحرّ بوصفه حركة تجديد جذرية، وكان لا بدّ لها بالتالي من أن تمهد الطريق للكثير مما هو جذري جوهري في انعطافات وتطوّرات قصيدة النثر العربية. فعلي صعيد اللغة الشعرية كان بلند الحيدري يسابق السياب في تحقيق درجة عالية من التوازي المدهش بين المستوي السطحي للغة، أي الحركة الصرفة للكلمات ضمن نسق محدد، وذلك المستوي الداخلي الخاص من الإحساس ـ الغامض والمألوف في آن معاً ـ بوجود رسالة دلالية مستترة أو خفيّة، سواء في المفردة الواحدة أو في أنماط تجاور عدد من المفردات.

في النموذج الأول يبدأ التحطيم الاستعاري للعلاقات الدلالية المألوفة من العنوان ذاته (مدفن الظل)، ثم يتسع علي هيئة دوائر توليدية قوامها الصمت الملتقَط علي نحو تشكيلي (والذي ينسج عالماً شامخ الذري، من خطاه الطويلة، المسكونة)، والصمت الملتقَط علي نحو مُؤَنْسَنٍ يتأبي أن يري نفسه في حكاية طينة ، والصمت المنقلب إلي داخل ضمير المتكلم الآدمي (جوانب نفسي)، حيث ينبني عالم شامخ الذري من الخطي الصامتة، التي تصنع صمت الكائن وتعيق إقراره بالأساس الطيني. وفي هذا النموذج، كما في النموذج الثاني، ثمة أمثلة عديدة علي تجاورات دلالية غير مألوفة (بين الصمت والخطي، والخطي والسكني، والحكاية والطينة، والقاذورة والأمان، والدجون والإغفاءة)، تندرج في جملة استعارية ذات شحنة عالية الإيحاء بذاتها، أو مولّدة لسلسلة إيحاءات متشابكة ومتقاطعة.

في النموذج الثالث يعتمد الحيدري هندسة متكررة لعبارة تأخذ صفة اللازمة الكورالية (بالأمس مرّ من هنا/ قال لنا شيئاً)، وهندسة أخري متغايرة عمادها تفكيك حركة التركيب والإيقاع والقافية، علي نحو يجافي المنطق الغريزي. وعلي صعيد انقسام معجم القصيدة إلي تراكيب شعرية وأخري نثرية (وهو التقسيم الذي لا يعتمد علي الوزن وحده، ولكنه في الآن ذاته لا يمكن إلا أن يكون تقسيماً شكلياً)، فإن تجارب بلند الحيدري لا تقلّ أهمية عن تجارب السياب في الطمس البارع للعديد من الخطوط الفاصلة بين تركيب نثري يصرّح وتركيـب شعـري يوحي، بين جملـة نثرية يشطبها المعني فـور أدائها له، وبيـن أخري شعرية تتنامي بفعل ما تنتجه وتعيد إنتاجه من إيحاءات وأحاسيس. قصيدة عقم نموذج علي هذا الاندماج بين التركيبين الشعري والنثري ، وبين التصريح المباشر والإيحاء الاستعاري الكثيف.
وإمعاناً في هذا التغريب للعلاقة بين التركيب الشعري الكثيف والتركيب النثري الأقرب إلي السرد الحكائي، يلجأ بلند الحيدري إلي مزيد من تفكيك المنطق الغريزي لحركة الإيقاع والقافية، كما يعتمد ما يشبه التجزئة القسرية للروابط التلقائية بين المقاطع الشعرية، حتي إذا اقتضاه الأمر إلغاء الحركة عن أواخر الكلمات والاكتفاء بالتسكين لتفادي الكسر العروضي. هذه، من جانب آخر، اجتهادات في تطوير البنية الإيقاعية تقتفي دروباً مماثلة لتلك التي طرقها السياب حين بحث عن تطبيقات وتنويعات شتّي لحركة التفعيلة الواحدة أو التفعيلات ذات المقاطع المتساوية، وحين مزج بين البحور فأكسب السطر الشعري دينامية خاصة، وأضفي علي القصيدة مزيداً من التجانس بين المحتوي والشكل في القصيدة من جهة، وأمدّ التراكيب النثرية بطاقة إيقاعية تعددية من جهة ثانية.
ذلك يقودنا إلي المستوي الثاني للعلاقات الجدلية التي تكتنف أية ثورة أدبية أو أية ولادات أسلوبية وتعبيرية كبري، أي مستوي ضغط خطوط المضامين علي الشكل الهيكلي والبلاغي للقصيدة، بحيث لاح مراراً أن الشكل لا يستطيع احتواء المضمون إلاّ إذا خضع لتحوّلات مورفولوجية وتكوينية جوهرية. وتجارب عشرات الشعراء الرواد في معظم البلدان العربية عكست علي نحو متنوع وغنيّ الضغوطات الهائلة التي خضع لها شكل شعري كان أصلاً يسير إلي تحوّل محتوم منذ مطلع القرن كما تقول سلمي الخضراء الجيوسي (8)، وإنْ كان قد بلغ طوراً دراماتيكياً مع قصيدة نازك الملائكة الكوليرا وقصيدة السياب هل كان حبّاً اللتين ظهرتا عام 1947.
وشعر بلند الحيدري اكتسب خصوصية مختلفة عن نموذج السياب، في أنه مزج علي نحو تركيبي بين الميول والمؤثرات التالية:

ـ النصوص الأدبية والتاريخية الكردية، التي اتصفت علي الدوام بجمعها بين الشجن الوجداني العميق، والغنائية الرثائية، والحسّ الملحمي بالمصير، والرومانتيكية، والاندماج بعناصر الطبيعة، فضلاً عن الحساسية الفائقة إزاء المفهوم الكارثي والتراجيدي إجمالاً.

ـ التأمل البوهيمي حول العلاقة بين الواقع والكتابة، وبين ضيق الوجود الفردي واتساع حركة المخيّلة، واقتران ذلك التأمّل بباصرة تشكيلية تكوّنت علي خلفية صحراوية بدوية وأخري جبلية كردية.

ـ التأثر المبكر بأشعار إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة والياس أبو شبكة، لجهة موضوعات الخلود والفناء، والتأمل الرواقي في الوجود والعدم، والفصاحة الأخاذة المطعمة بمعجم فلسفي ووجداني حارّ.

ـ التفكير الماركسي، الذي كان غائماً بعض الشيء في كلّ ما يتصل بالعقيدة والدوغما، وحاداً صريحاً في كل ما يتصل بالتراجيديا الجَمْعية والهموم الاجتماعية والإنسانية.

ـ وأخيراً، الإتكاء الواضح علي رؤية حداثية متمردة، تستلهم التشديد النيتشوي علي الشخصية البطولية وهي في حالة قصوى من احتدام الإشكالية الوجودية، وفي مواجهة مفتوحة مع المعضلات الكونية والأقدار العمياء. ومنذ مجموعته الأولي خفقة الطين ، هتف بلند الحيدري:

نزّت الآثام من عمري
فثوري
وارقصي نشوي علي قلبي الكسير
مضغ الحزن شبابي يافعاً
فامضغي بالشهوة القصوى مصيري
لستُ أهوي جنّة الله... ولا
أتمناها رجاء في شعوري.

وإذا كانت مثل هذه العوامل الفكرية والخصائص الأسلوبية والتجارب التعبيرية، والتي تضافرت لتصنع خصوصية الريادة عند بلند الحيدري وبدر شاكر السياب، غير كفيلة بشقّ الطريق أمام قصيدة النثر العربية، فإنّ من الصعب أن نتخيّل نصوص رامبو وبودلير ومالارميه وسان جون بيرس وهي تقوم وحدها بذلك الاستقلاب السحري وتلك الولادة العجيبة خارج الرحم، أي رحم. ذلك لأنه من العبث الحديث عن ثورة شعرية في الشكل والمحتوي، استناداً إلي حفنة بيانات شعرية وتنظيرية اختزلت أو أساءت قراءة كتاب واحد وحيد (كتاب سوزان برنار)، هو في الأصل اختزال لظاهرة بالغة التعقيد شملت قامات شعرية فذة من أمثال بودلير ورامبو.
لقد ظلت النظرية رمادية، خصوصاً حين تلقّفها بعض الشعراء العرب الذين اختاروا التعبير بالنثر ورأوا في هذا الخيار بديلاً عن الوزن ومعركة إسقاط لعرشه المكين، وحين أغفلوا جانب الجدل والمساومة التاريخية ـ الأنواعية في لقاء الشعر والوزن، والشعر والنثر. النصوص التأسيسية الكبرى، بالمقابل، كانت قد عرفت مشاق الاخضرار لأن أصحابها تعايشوا مع حركات تجديد أصيلة ونهلوا منها في وعيهم أو في اللاوعي، وليس في ذلك ما يعيبهم، وليس في عكسه ما يمنحهم فضيلة التغريد خارج أي سرب.
وهكذا فإن نصوص بلند الحيدري هي التي تجيب بالإيجاب علي النوع الإجرائي من الأسئلة المثارة أعلاه: كيف يستقيم القول بأن نصّ بلند الحيدري الشعري لعب دوراً، مباشراً أو غير مباشر، في تشجيع وتحصين الولادات المبكّرة والنماذج اللاحقة من قصيدة النثر العربية، وهو الشاعر الذي لم يجرّب قصيدة النثر، واقتصرت تجربته الشعرية علي العمود الخليلي أولاً ثم التفعيلة أو الشعر الحرّ حسب المصطلح الذي كان شائعاً آنذاك؟ والنصوص ذاتها هي التي تؤكد سيرورات التفاعل العميق بين حركات التجديد والولادات الأسلوبية الكبرى، ويستوي هنا أن يكون الراحل بلند الحيدري ناقماً علي قصيدة النثر أم راضياً عنها: لقد كان، في الحالتين، أحد أبرز آبائها المؤسسين.

الحلقة القادمة: محمد خضيّر

القدس العربي- 2003/04/23