صبحي حديدي
(سوريا/فرنسا)

صبحي حديديالنساء السورياليات بتن يجتمعن من الآن فصاعداً في أنطولوجيا عالمية تتضمن أعمالاً ل97 امرأة من 28 بلداً، بينهن ثلاث نساء عربيات (جويس منصور وإقبال العلايلي وهيفاء زنكنة). الكتاب الرائد والضخم الذي صدر في منشورات جامعة تكساس، بالإنكليزية، يحمل مقدمة جليلة للناقدة بنيلوبي روزمونت، وقد قرأه لنا زميلنا الباحث صبحي حديدي.

باريس...

باستثناء وحيد هو التيّارات النسوية ذاتها، ما من حركة أدبية أو فنّية أو فكرية تتفوّق على السوريالية في التفاخر بالعدد الكبير من النساء اللواتي انخرطن في صفوف الحركة منذ سنوات التأسيس الباريسية في العشرينيات من القرن المنصرم، واللواتي انضممن بعدئذ في هذا الطور أو ذاك من أطوار صعود السوريالية أو ركودها أو إحيائها. أمّا خارج الحركة، فإنّ التاريخ الأدبي الرسمي لم يكترث كثيراً بدور النساء في التأسيس والتكوين والصياغات، واكتفى بالنجوم الكبار (أندره بروتون، رينه كروفيل، ألفريد جاري، بنجامين بيريه، جاك فاشيه)، ومَرّ عَرَضاً ومن باب التقاطع الأحداثي فقط على دور ليونا كامي جيزلين د. (التي ستُعرف باللقب الأشهر: ناديا) لا لسبب جوهري آخر سوى أنها كانت صديقة بروتون وموضوعاً من أبرز أعماله.

انطولوجيا

الاستثناء الأبرز في تسجيل دور النساء السورياليات وتدوينه وإنصافه هو كتاب بنيلوبي روزمونت الرائد والمهم "نساء سورياليات: أنطولوجيا عالمية"، والذي يسعى إلى تصحيح ذلك الموقف الشاذّ من دور المرأة في الحركة السوريالية. وروزمونت تفعل ذلك عبر مقاربتَين: تشكيل أنطولوجيا أشبه بديوان جامع يتضمن 300 نموذج معياري، مختارة من أعمال 97 امرأة سوريالية، من 28 بلداً (نصوص نثرية وشعرية، (نصوص ميكانيكية)، نصوص سردية، (ألعاب لغوية)، بيانات جمالية وفكرية، رسوم وتخطيطات وصُوَر فوتوغرافية). المقاربة الثانية هي تقديم قراءة نقدية معمّقة لهذا الجانب المهمَل من تاريخ الحركة السوريالية، سواء عبر التعريف بنتاج النساء السورياليات، أو عبر ربط نتاجهنّ بعدد من التطوّرات الجمالية والفكرية والتاريخية والسياسية التي طرأت على الحركة بصفة خاصة، وعلى المشهد العالمي بصفة أعمّ.

والكتاب ينقسم، في الموضوعات كما في المنهج، ستة أقسام مرتّبة حسب التسلسل التاريخي البسيط: بدايات السوريالية كحركة منظّمة (1924 1929); انتشارها العالمي السريع (1930 1931); انتشارها أكثر فأكثر على النطاق العالمي، بصرف النظر عن عوائق الحرب العالمية الثانية (1940 1945); إعادة تجميع صفوفها بعد الحرب، وإحياء أنشطتها في صيغة راديكالية شبه (سرّية) Underground خلال سنوات الحرب الباردة ( 1946 1959); إنبثاقها، من جديد، على نطاق عالمي منذ مطلع الستينيات; وأخيراً، حاضر السوريالية اليوم.

وللمرء أن يبدأ من محرّرة الكتاب، الشاعرة والتشكيلية الاميركية بنيلوبي روزمونت، التي بدأت حياتها "الثورية" في شيكاغو حين انضمت إلى حركة "العامل المتمرّد"، وهي الجناح اليساري من الحركة الأدبية الأعرض The Beat Generation وفي عام 1966 سافرت إلى باريس، فرحّب بها بروتون في صفوف السوريالية، وأخذت تشارك في اللقاءات اليومية التي كان السورياليون يعقدونها في مقهى (برومناد دو فينوس). بعد ذلك عادت روزمونت إلى الولايات المتحدة لتأسيس أوّل مجموعة سوريالية (أصيلة) في شيكاغو، وفي الولايات المتحدة بأسرها.

وبين قصائدها المنشورة في الكتاب واحدة بعنوان (مرور) مهداة إلى بنجامين بيريه، وفيها تقول:

الخَسُّ يزدرد أوراقه
والليلُ نجومَه
والحشرة تنعش آمالها
والبقرة العاثرة الحظّ
تذوب في السرّ
بينما الصابونة تأكل العشب
فتترهّل
والجادّات تنسى أسماءها
ولا يُشار إليها بلقب آخر
سوى "سميث"
بُرَك الوحل الصغيرة تأخذ المبادرة
لتقفز على رجال أنيقي الثياب
وقبّعات الرأس ليست بمنجى من كرات الثلج
حتى في منتصف الصيف.

الواقع الأعلى

وفي المقدّمة التي تمزج بين التأمّل النظري والتوثيق التاريخي تسجّل روزمونت جملة ملاحظات ثاقبة حول ما تعنيه السوريالية بالنسبة إليها، فتبدأ مباشرة من المغالطة الشهيرة التي تقول إنّ السوريالية لا تكترث بالواقع، أو ترفض قبول الواقع، أو تنكر وجود الواقع. السوريالية، في نظرها، لا تلحّ على شيء قدر إلحاحها على المزيد من الواقع، على الواقع الأعلى، على (الحقيقة الحقيقية). والسوريالية تبدأ من الإقرار بأنّ الواقع الحقيقي ينطوي على عناصر متعدّدة متنوّعة يتمّ قهرها وقمعها في سياق الأنظمة الاستغلالية المفتقرة إلى مبدأ المساواة. وفي ارتكازها على الحلّ الجدلي للتناقض بين الوعي واللاوعي، تذهب السوريالية صوب وعي أعلى مفتوح وديناميكي، لا يُطرد منه أيّ جانب من جوانب الواقع.

كذلك تشدّد روزمونت على أنّ السوريالية كانت وليدة تأثيرَين أساسيين: الاتجاه الشعري المضاد الذي مثّله لوتريامون وألفرد جاري وجاك فاشيه (والذين كانت قراءتهم محدودة تماماً في العشرينيات)، والاتجاه التحريري الذي مثّلته نظريات سيغموند فرويد. هذان التأثيران تآلفا حين حاول أندره بروتون وزملاؤه (وكان معظمهم من طلبة كلية الطبّ، مثله) استخلاص النتائج من التجارب البَوْحية في "الكتابة الأوتوماتيكية" والإفصاح أثناء التنويم المغناطيسي، وهي التجارب التي وضعت الأفكار الناجزة عن "الواقع" محلّ مساءلة راديكالية.

و"الثورة السوريالية"، كما يقول اسم المطبوعة السوريالية الأبكر والأشهر، نهضت على هذا المبدأ في استبطان أغوار الوعي، وفي تأكيد "العجيب"، أي إنتاج الصور اللاعقلانية التي تقلق ركود الوعي وتهزّ أركان السُبل الوضعية والتقييدية في التفكير والوجود، ثم استفزاز الآخرين لكي يقاربوا ويقارعوا هذا "الواقع الداخلي" وعلاقاته بالعالم الخارجي.
و"الثورة السوريالية" المبكّرة حاولت النأي عن السياسة والتسييس... طوال أشهر معدودات فقط في الواقع. ذلك لأنّ انتفاضة القبائل في الريف المغربي عام 1925 قادت السورياليين الأوائل إلى إعادة النظر في دلالات الافتقار إلى موقف سياسي في الجوهر، ومعنى خلوّ الثورة من السياسة، ومدى الحاجة إلى التحويل الثوري (والمادي) للمجتمع بأسره. ولقد انتقل السورياليون الأوائل من فيختة إلى هيغل، ثم بعدئذ إلى ماركس ولينين وتروتسكي.

وإذا كانوا قد نجحوا في الإفلات تماماً من قبضة الماركسية الأرثوذكسية ودوغما النظرية، فإنّ قراءتهم للماركسية ظلّت منفتحة على التيّارات التجديدية (مدرسة فرانكفورت كما مثّلها هربرت ماركوز وتيودور أدورنو)، وكانت صلاتهم وثيقة مع ماركسيين مستقلين من أمثال والتر بنيامين، رايا دوناييفسكايا، وسي. ل. ر. جيمس. ولأنهم تماهوا، دون مشقة كبيرة، مع قضية التحرير الذاتي للطبقة العاملة، فإنّ السورياليين وجدوا القليل من العناء في إدانة النُخب الثقافية الرأسمالية، وتفادوا فخاخ "التصوّف" والأديان والميتافيزيقا المجّانية.

ومنذ عام 1929، في بيان بعنوان "ملاحظات حول الشعر"، أعلن أندره بروتون وبول إيلوار أنّ "الفكر ليس له جنس"، وذهب بروتون إلى حدّ القول: "ليتني أغيّر جنسي كما أغيّر قميصي". والحقّ أن السورياليين الأوائل كانوا حلفاء طبيعيين للحركات النسوية، رغم أنهم لم يكونوا نسويين بالمعنى الفكري للمصطلح. لقد شنّوا هجمات متواصلة، متوقعة تماماً، ضد أركان القمع البطريركي (الكنيسة والدولة والعائلة ورأس المال و"أرض الآباء" والجيش)، وكانت مواقفهم من التنميطات الجنسية بين ذكر وأنثى متقدّمة وتقدمية وأكثر راديكالية من أيّ اتجاه ثوري فكري أو سياسي في فرنسا تلك الأيّام.

ورغم أنّ القراءة المعاصرة للبيان الشهير "أرفعوا أيديكم عن الحبّ"، الذي صدر عام 1927 وكتبه أراغون، يمكن أن تكشف عن وجود عدد من عناصر تمجيد الذكورة، فإنّ روحية البيان الإجمالية كانت مناهضة تماماً للمفاهيم البطريركية، وكانت تجاوزية وانتهاكية وثورية. كذلك يخطىء الذين يقرأون نصّ بروتون "المرأة الطفل" في وصفه نوستالجيا رومنطيقية ذكورية مقنّعة، وهم بذلك يتجاهلون حقيقة أنّّ مفهوم الطفل يرتدي عند السورياليين قيمة عالية وليست تحقيرية، لأنّ الطفل "هو الأقرب إلى الحياة الحقيقية" كما عبّر بروتون.

تلك أسباب جعلت السوريالية تخترق حيوات النساء مثل (شرارة تشعل الوعي بالذات، ووسيلة تتيح العثور على الصوت وتعلّم النطق عن الذات، باسم الذات). تقول بنيلوبي روزمونت: (في كتابات كلود كون، سوزان سيزير، إقبال العلايلي، نورا ميتراني، جويس منصور، ماريان فان هيرتم، نيللي كابلان، نانسي جويس بيترز، هيفاء زنكنة، وسواهنّ يتعمّق تقديرنا للسوريالية نفسها: في وصفها تجربة جَمْعية وفردية، وكتلة أفكار، ونقداً راديكالياً، وتطبيقاً شعرياً، ومنهج بحث، ومغامرة لاهية، ومشروعاً ثورياً، وسبيل حياة".

ثلاث نساء عربيات

وعلى نحو ذكيّ وبالغ اللباقة، تأبى روزمونت إعطاء الصدارة للنساء السورياليات "النجوم"، مثل فريدا كاهلو وليونورا كارنغتون وميريت أوبنهايم ودورا مار، واللواتي نجحن لأسباب عديدة في اختراق الأسوار الذكورية وحيازة موقع بارز في المشهد العالمي. كذلك ولا يفوت روزمونت تذكير العالم بأنّ عدداً من النساء السورياليات كنّ وراء كبار المبدعين: التشكيلية دوروثيا تانينغ وراء ماكس إرنست، والناقدة والتشكيلية غريتا كنوستون وراء تريستان تزارا، والمفكرة والمسرحية سوزان سيزير وراء الشاعر إيميه سيزير، والتشكيلية الإسبانية ريميديوس فارو وراء بنجامين بيريه...

وبين سورياليات العالم تختار روزمونت ثلاث نساء عربيات: جـويس منصور (1928 1986) التي ولدت في إنكلترا لأب وأمّ مصريين، وانتقلت إلى باريس في عام 1953 لتلتحق بصفوف السورياليين و"تسبغ على حياة الحركة عنصراً فريداً لا يعوّض"; وإقبال العلايلي، حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي وزوجة جورج حنين، والسيدة التي لعبت دوراً بارزاً في تنشيط الحركة السوريالية في مصر منذ الثلاثينيات، ثم في رعاية "حركة السورياليين العرب في المنفى" بعد انتقالها نهائياً إلى باريس حيث توفيت سنة 1984; والقاصّة والتشكيلية العراقية هيفاء زنكنة، التي ولدت في بغداد وغادرت العراق عام 1975 إلى دمشق ثم لندن، حيث شاركت بنشاط في موادّ "الرغبة الإباحية"، المجلة السوريالية العربية الفرنسية التي صدرت أعدادها من باريس، بالإضافة إلى مجلات سوريالية أخرى مثل "ميلموث" و"فريدوم".

وهكذا فإنّ كتاب بنيلوبي روزمونت عمل بالغ الأهمية، سواء لجهة توثيق صفحات حافلة (كانت حتى الآن مجهولة) من تاريخ النصّ السوريالي إجمالاً والنصّ السوريالي المؤنّث بصفة خاصة، أو لجهة تسليط الضوء الساطع على دور المرأة في تأسيس حركة بدأت إشكالية، وهكذا تتواصل اليوم هنا وهناك في العالم.

Surrealist Women: An International Anthology. Edited with Introduction by Penelope Rosemont. University of Texas Press, Austin. 516 p.

ملحق النهار
الأحد 24 آب 2003


إقرأ أيضاُ: