يرى نقاد أن تجربة اسكندر حبش الشعرية هي تجربة واحد من اكثر المنشغلين بالشعر قراءة وترجمة وتفكيرا ولكنها تتم بالصمت.
ويؤكدوا أن حبش قد بلور شعرية مفردة ومستوحدة، وكأنه كان في صدد صناعة جوهرة صغيرة.
ويلفت آخرون الى أن قصائد حبش ليست غنائية كثيرا لكنها لا تغادر الغناء وانها ليست ليست يومية لكنها مكتوبة مع ذلك على حدود اليومي. وانها ليست غامضة لكنها موحية وإيمائية. وانها ليست فضيحة لكنها ليست وقحة، وانها ليست عاطفية لكنها رقيقة.
وحبش: شاعر ومترجم وصحافي لبناني يعمل في صحيفة "السفير" اللبنانية. أصدر على صعيد الشعر جملة من المجموعات الشعرية منها: "بورتريه لرجل من معدن" (1987) "نصف تفاحة" (1994) "أشكو الخريف" (2002) اضافة الى مجموعته الاخيرة "الذين غادورا" (2009) اضافة الى ترجماته اللافتة للشعر العالمي وكتاباته في نقد الشعر ومعظم الفنون الأخرى.
"الغد" التقت الشاعر اسكندر حبش وكان هذا الحوار الذي تطرق فيه الى تجربته الشعرية من حيث المبنى والمعنى وكذلك الاقتراح الجمالي الذي تنهد باتجاهه من بدايتها إلى الآن.
* في تجربتك الشعرية تنوع يطال المبنى والمعنى برأيك هل يتم عن قصد أم انه كان ينطوي على التلقائية البحتة؟
- لا أعرف إن كنت وقفت على اقتراح واحد في القصيدة التي كتبتها، فمنذ مطلع المجموعة الأولى التي صدرت في العام 1988 وجاءت بعنوان "بورتريه لرجل من معدن"، وأنا أحاول صوغ جملة جافة قاسية رغبت في أن تكون بعيدة عن الانصهار الكلي مع ما اسميه يومها اللغة المنتصرة. كنت أرغب في شعر يحمل في طياته نقداً للشعر السائد، واعتقدت يومها أنني وجدت طريقة وأسلوباً ومقترحاً جماليا على صعيدي المبنى والمعنى، لكني سرعان ما اكتشفت أن كل ذلك لم يكن سوى نوع من أيديولوجيا كانت تحركنا في فضاء الكتابة اللبنانية.
ومع استمراري في الكتابة بدأت أكتشف أن لا وصفة جاهزة للشعر، وأن كل ما اعتقده منجزا لم يكن إلا محاولة سقطت أمام افكاري الأخرى حول القصيدة. اليوم وبعد هذه السنين اكتشفت أن لغتي الشعرية تميل أكثر الى الغنائية الداخلية وان هذا الفضاء الجاف الذي سيرني منذ أكثر من عشرين سنة لم يعد سوى ذكرى، وأريد القول إني لن استكين إلى اللغة التي اقترحتها في مجموعتي الاخيرة "الذين غادروا"، أجدني أحاول تخطيها في ما اكتبه الآن، وبخاصة في النص الطويل الذي نشرته أخيرا في جريدة السفير وجاء بعنوان "لا شيء اكثر من هذا الثلج".
ما أريد قوله عبر ذلك كله -واظن ذلك- أن لا اقتراح نهائياً في القصيدة، فعندما تصل إلى عالم متكامل تكون قد توقفت عن التجربة ودخلت في مرحلة السكون. أن تكتب يعني أن تبقى مستمراً في الحياة، والحياة علمتنا انها لا نتوقف عند نقطة معينة.
* ماذا تقصد باللغة المنتصرة؟
- ما أسميه اللغة المنتصرة هي اللغة الشعرية التي تدعي أنها تملك الحقيقة كاملة، وليس السبب بالتأكيد الشعر بل في كون هذه اللغة هي الوعاء الأساسي لطريقة معينة في التفكير في مجتمعاتنا؛ بهذا المعنى كنت أريد أن أكتب لغة لا تدعي أنها تستطيع فعل أي شيء، كنت أريد أن أكتب لغة تكون بحد ذاتها نقداً للغة الشعرية السائدة. لقد جئت من جيل تفتح على قصائد السبعينيات، وعلى خطاب المقاومة والوعي السياسي وحركات التحرر.. أي كانت هناك لغة منجزة ظهرت عند العديد من الشعراء. كنت وزملائي يومها نرغب في الابتعاد عن هذه التجربة، اليوم وبعد هذه السنين اكتشف فعلاً أن القراءة التي شكلت تجربتنا الشعرية والايديولوجية، لم تكن سوى قراءة أيديولوجية أخرى.
اليوم أقرأ هذا المنجز الشعري، وأتكلم تحديداً عن المنجز اللبناني بعين أخرى، فمن اصطلح على تسميتهم عندنا بشعراء الجنوب كتبوا الكثير من الشعر الجميل، وإن وقوفنا ضدهم كان نابعاً عن سوء قراءة ايديولوجية. الشعر الحقيقي يبقى شعراً مهما كان المناخ الذي يتواجد فيه.
* هل يمكن انك تشير الى امكانية كتابة قصيدة النثر التي تعتمد على الغنائية الداخلية؟
أولاً، لا أعرف إن كنت أكتب قصيدة نثر بالمعنى المتعارف عليه أكاديمياً. أحاول في ما أفعله وأدعيه أن أترك مجالاً وفسحة لحرية مشتهاة. كل التجارب برأيي لها الحق في الوجود، ولا أستطيع أن ألغي واحدة لصالح أخرى. الكتابة برأيي شكل آخر من أشكال الحياة. من هنا لا تستطيع أن تلغي حياة آخرين. أجدني أميل اليوم إلى هذا الخيط الهرموني الذي يشد القصيدة من الداخل, الذي يوحد في النوتة بين الكلمات، شئنا أم أبينا، فالشعر هو لغة بالدرجة الأولى لذلك أتيح لهذه اللغة في عملي أن تتشابك وتتناغم في غنائية داخلية، أي في ربط هذه العلاقة بين مختلف فضاءات الكلمات. لا أخفيك جئت إلى الكتابة من شعر آخر، كنت أعتقد أنه الأفضل، ولا أخفيك أن ما يسمى اليوم بالشعر الآخر يثير عندي الكثير من الأسئلة؛ علينا أن نعترف, لقد ارتكبنا الكثير من الحماقات باسم هذا الشعر.
* ماذا تقصد بالشعر الآخر؟
- كنت أفهم في البدايات أن الشعر الآخر هو ذاك الشعر الذي يريد أن يحطم كل هذا الميراث - أي أن تكتب قصيدة لاغنائية تملك الكثير من نقد الشعر عبر لغة جافة قاسية- ولا أنكر أن هناك الكثير ممن كتبوا وفق هذا المنوال، لكن في العمق أجد اليوم أن هذه التجربة أساءت للشعر أكثر مما خدمته، بمعنى أن عديدين وجدوا فيها استسهالاً كبيراً، لذلك أقول إن العديد من تجارب اليوم بحاجة فعلاً إلى قراءة نقدية جادة، ولا أخفيك أن الكثير منها سيسقط مع مرور الزمن.
* كأنك تلتقي مع النقاد العرب في ضبابية المشهد الشعري؟
أولاً، لا أعول كثيراً على رأي النقاد إذ أجد أنهم أقل اطلاعاً على التجارب الشعرية الراهنة. نقاد الشعر الحقيقيون والمثقفون في عالمنا العربي هم الشعراء أنفسهم. حقيقة مرة ولكن علينا الاعتراف بها. غالباً ما أتساءل اليوم لماذا قصيدة الأخطل الصغير تثير فيّ دهشة وحبورا أكبر من مما يثيره ديوان شعر صدر حديثاً. علينا الاعتراف بأن قسماً مما يكتب اليوم لاعلاقة له بالشعر على الأقل كما افهمه. ضجرت من أصابع القدمين والمؤخرات في القصيدة. أريد شخصياً أن أقرأ مقترباً آخر للحياة يطرح عليّ أسئلة فعلية حول هذه الكينونة بكل ما تحتويه، ولكن لا يعني ذلك أنني أعدم كل ما يكتب اليوم. هناك كثيرون يدهشونني بجمالهم، ولا أعني أيضاً أنني أريد استعادة طريقة كتابة العصر العباسي. كل ما أطرحه أنني أرغب في شعر يقدم لي رؤية، ومقترباً للحياة ويثير عندي الأسئلة.
* لماذا تريد هذه الرؤية أو المقترب الآن تحديدا؟
- لم لا؟ قلت لك يا صديقي؛ الشعر هو الشعر كيفما جاء وبأي طريقة كتب. أريد أن اقرأ شعراً. أريد أن أعيش في هذا الشعر. ربما الحق معك في أن تسأل لماذا الآن؟ ولكن لا أريد أن أقول أنني قد تقدمت في السن، بل أقول إنني أتقدم في التجربة.. لا تجربة الكتابة فقط بل تجربة القراءة أيضاً. كل هذه القراءات والأسئلة التي أطرحها علي تقودني اليوم إلى هذا السؤال الكبير.. ولكني أعيد وأكرر لا أقصد الرجوع إلى الوراء ولا استعادة التجارب المنتهية. أريد من شعر اليوم أن يترك عندي حرقة وجودية إذا صح التعبير، فهناك الكثير من تجارب اليوم لا تترك أثراً ولا حرقة، ربما تغيرت وربما تبدلت، وربما أصبحت حياتي الماضية بعيدة عني.
* من يقرأ مجموعاتك الشعرية يلمس أنك تكتب بحزن واضح، هل يمكن للحزن أن يكون مشروعا للكتابة؟
- بالتأكيد أنت لا تقصد في سؤالك أني ابحث عن هذا الحزن في الكتابة، لأنني بالتأكيد لا أدعي البحث عن ذلك. لقد ولدت في مدينة تجتاحها الحروب حتى غرقت دماراً وقتلاً، وقد غادر العديد من أصحابي وأصدقائي، إما موتاً وإما هجرة. لقد ولدت ايضاً من مناف عديدة. من ناحية أبي هناك فلسطين، ومن ناحية أمي هناك المجازر التي ارتكبت بحق الأرمن. أنا ابن بيئي وبهذا المعنى أول ما سمعته هذه الأغاني الحزينة التي ستعيد بلادا ضائعة كان من جدتي لكن حين بدأت الكتابة كنت أريد أن لا تفضحني الكلمات، أي أن لا تشير إلى هذا الجزء المخفي مني. اليوم وببساطة تصالحت مع هجراتي ومنافي أهلي لأكتب منفاي الخاص على طريقتي.
أعتقد أن هويتي الحقيقية في الشعر، ومن الشعر اكتسبت هذا الحق في أن أكون موجوداً، بالتأكيد ثمة أوهام كبيرة في ذلك، ولكن أليست الحياة بأسرها هي هذا الوهم الذي نركض خلفه.. الركض خلف وهم الحياة، وهو بالضبط الركض خلف وهم الشعر. عند العرب القدامى نجد أنهم أطلقوا تسمية البيت الشعري. أريد أن أعيش في البيت الشعري لا أكثر ولا أقل، لكن المصادفة أنه بيت كئيب وحزين.
* هل لك ان تحدثنا عن تجاور الشاعر مع الصحافي مع الناقد مع المترجم في مجمل تجربتك الابداعية؟
- ربما كنت أتمنى أن لا أكتب سوى الشعر، ولكن لا أستطيع إلا أن أقر بأن أنواع الكتابات الأخرى أفادتني كثيراً، ورفدت تجربتي الشعرية. الصحافة علمتني الذهاب مباشرة إلى عمق المسألة أن لا أطيل الثرثرة. النقد الصحافي جعلني أفكر أكثر في النص الذي أمامي. الترجمة إلى العربية علمتني كيف أفهم اللغة العربية أكثر، بل أستطيع أن أدعي أنها علمتني اللغة وخفاياها.
أنا مصنوع من ذلك كله.. إنها جوانبي المختلفة التي أحياها كل يوم، سأستعيد هنا ذكرى شاعر أحبه وترجمت له الكثير من القصائد، وهو الشاعر البرتغالي فرناردو بيسوا. لقد كتب بيسوا بأسماء مختلفة، لكنها لم تكن أسماء مستعارة، أي أن كل اسم استعمله كان بمثابة شاعر مختلف تمام الاختلاف عن الشاعر الآخر. النقاد اسموا ذلك أقنعة تيمناً بأقنعة المسرح القديمة لأن اسم بيسوا بالبرتغالية يأتي من كلمة "بيرسونا" أي القناع في المسرح القديم. نقاد آخرون قالوا بحالة البدلاء أي أن كل شاعر عن بيسوا كان بديلاً من شاعر آخر، ولكن هؤلاء البدلاء كلهم شكلوا شخصاً واحداً. وأقول أخيرا إن المترجم والصحافي والمدرس والشاعر الذين فيّ يشكلون في النهاية الجوانب الأخرى المجتمعة والمتفرقة من اسكندر حبش.
الغد
17 ابريل 2009