اسكندر حبش

نصيّف الناصريمسارات طويلة هي التي قطعها الشاعر العراقي نصيّف الناصري، حياة وشعراً، كانت مليئة بالتحولات الجذرية التي أنتجت العديد من الكتابات الشعرية والنثرية. مطلع هذا العام صدرت أعماله الشعرية عن دار «مخطوطات» في هولندا كما كتاب سيرة ذاتية. حول ذلك هذا اللقاء:

من «مدرسة محو الأمية» التي «أرغمت» على دخولها، إلى رحلة الكتابة وعوالمها، مروراً بالحرب كجندي مشاة. كيف تبدو لك اليوم مسارات كل تلك الرحلة؟
^ مسارات متعرّجة وفيها من العذاب الكثير، لكنّ رهاني الدائم على الكتابة والإخلاص لها، منحني القدرة على أن أواصل مشروعي دائماً. عشت حياة عاصفة ولا إنسانية في الماضي. 12 سنة كنت جندياً إجبارياً هربت فيها مرات عدة وعشت حياتي متخفياً. 3 سنوات بعد تسريحي من الجيش أمضيتها ببغداد على الرصيف في الصعلكة والكحول من دون وظيفة معينة. 4 سنوات تشرد في العاصمة الأردنية عمّان التي لم أستطع أن أكتب فيها سوى قصيدة واحدة عن موت صديقي الشاعر المرحوم رياض ابراهيم. في مدينتي السويدية هذه التي يعيش فيها بشر من 179 دولة. استطعت أن أجد الوقت الكافي للتأمل والقراءات العميقة وتطوير مشروعي الشعري عبر العزلة التي حرصت عليها دائماً. أغلق بابي ولا التقي أحداً باستثناء صديق أو صديقين من الكتّاب العراقيين. حاولت التخلص دائماً من الماضي المؤلم الذي دمّر حياتي في الحب والحنين والأشواق، وأستطيع القول إنني أنجزت 12 كتاباً خلال 15 عاماً هنا، أشعر بأنني أصبحت أكثر دقة في عملي الشعري وتنظيمي الحياتي. كنتُ وما زلت أطمح إلى أن تكون القصيدة ذات محتوى فكري عميق وتعالج المسائل الكبيرة في الحياة والوجود، بعد أن شوّهت مفاهيم الشعر وقيمه الأهداف الإيديولوجية للقوى التي هيمنت على واقعنا الثقافي والسياسي منذ عهود طويلة.

تقيم في السويد منذ فترة طويلة، وهذا يقودني أيضاً إلى سؤال المنفى. هل تشعر بحنين ما إلى العراق؟
^ لست رجلاً يجلس في مكتبة ويكتب الشعر. شعري هو حياتي وعادة ما يكون هناك حافز ما لكتابة القصيدة، حارّ جداً. من المعلوم، وهذا رأي معروف، أن كل تفكير في القصيدة يقتلها. لا نستطيع كتابة القصيدة عبر التفكير فيها. أغلب نتاجاتي الشعرية طوال حياتي كانت تجارب حقيقية معيشة، وهذا لا يعني أنني أكتب وقائع أو أسرد أحداثاً يومية. القصيدة التي أكتبها تشبهني، لطالما بحثت في شعري عن الماوراء وعن الحيرة في متاهات الوجود واللاوجود. ليست هناك بيئة معينة تشغل قصيدتي. ماذا يمكنني أن أكتب عن مقهى «حسن عجمي» أو ساحة «الميدان»؟. هذه المهمة ليست مهمتي. طوال 34 سنة أمضيتها بالعراق كنت أشعر دائماً بالاستلاب والاغتراب الروحي والجسدي ولم أشعر بإنسانيتي قط. طوال 30 عاماً كرّست حياتي كلها من أجل الشعر الذي لا يعنى بقضايا وموضوعات الايديولوجيا.

عسكرة المجتمع

بين المكان الأول والمكان الثاني، هل تغيرت الكتابة عندك؟ هل للمكان أي تأثير في لغتك؟
^ اكتشفتُ الشروط الحقيقية لمواصلة مشروعي الشعري وتجاربي مع الكتابة حين غادرت العراق في اتجاه المجهول، وحين قذفت نفسي في البركان. عشت حياتي الماضية في قلب الفوضى واستلبتني مرارة الواقع العراقي دائماً. حين أنظر الآن إلى صورة حياتي الماضية أشعر بالاشمئزاز والقرف بسبب تأديتي للخدمة العسكرية الإجبارية التي كنت أهرب منها دائماً وعيشي متخفياً من عيون السلطة الغاشمة وخوفي من القتل وضياع أيام شبابي في جبهات الحرب والمعسكرات والبارات والمعتقلات. العام 1980 قبل بداية الحرب العراقية الإيرانية كنت أستلم راتبي من وزارة النفط وأذهب مع صديقي الشاعر ناصر مؤنس إلى «اورزي باك»، ونشتري الاسطوانات الموسيقية ونحلم في مستقبل أفضل. جاءت الحرب وتمت عسكرة المجتمع العراقي وأغلق الـ«اورزي باك» ومنُعت الكتب التي تصدر في القاهرة وبيروت ودمشق من دخول المكتبات العراقية وتحولت دور السينما إلى مسارح لتقديم العروض التهريجية. هنا وجدت نفسي شأني شأن بقية العراقيين أعيش في الفوضى والخواء الروحي وظلام الثقافة التي أوجدها نظام صدام حسين. الآن بعد أن توفرت لي الشروط الإنسانية لمواصلة مشروعي الكتابي. عدتُ إلى اقتناء ما حرمت منه في الماضي. بيتي الآن مليء بالكتب والاسطوانات الموسيقية الكثيرة واللوحات التشكيلية والأفلام التي حلمت دائماً في مشاهدتها. من خلال صديقتي آنّا تعرفت على جوانب مختلفة من الثقافة الأوروبية في مناحيها الروحية السامية.

أصدرت مطلع هذا العام، «الأعمال الشعرية» في مجلدين. هل تعتبر أن ثمة زمناً وانقضى تريد أن تؤرشفه في عملية النشر هذه؟
^ نعم انقضى زمن طويل وأردت التخلّص من أعمالي السابقة ودفنها بمجلدين. كنت بحاجة إلى عوالم ومُناخات ولغة أخرى. صدرت أعمالي وكتاب سيرة، ثم باشرت كتابة ثلاثية شعرية لعلها الأولى في شعرنا العراقي، صدرت المجموعة الأولى منها قبل شهرين بعنوان «في إنشاده لموته»، وستصدر المجموعة الثانية بعنوان «الموتى والأحياء» خلال الأسبوع المقبل، وأواصل الآن كتابة المجموعة الثالثة التي أنجزت منها 28 صفحة. لا أدعي إنني وجدت ضالتي حتى الآن لكنني أطمح إلى أن أتلمس طرائق جديدة للتعبير الشعري في هذه المتاهة التي تتشابه وتتكاثر فيها الطحالب والأشنات. ما العمل الآن من أجل ترك الشعر يحلق بعيداً عن الأقفاص التي يحاول البعض حشره فيها؟ تبقى القصيدة غير مكتملة حتى وان نشرت في صحيفة أو مجلة أو كتاب. لا تكتمل القصيدة التي هي مشروع محو وإعادة كتابة دائمة إلاّ بموت الشاعر.

شعور بالإحباط

تقول في «معرفة أساسية الحرب الشعر الحب الموت»، وهو سيرة ذاتية تروي فيه ثمانينيات العراق وتسعينياته: «لم أفعل شيئاً يستحق إقامة نصب لي بحيث يخسر بعض المسؤولين يوم عمل من أجل تدشينه». ألا تعتقد أن النصب الحقيقي الذي نبنيه هو الكتابة؟ بعد كلّ هذه «الأعمار» ماذا تعني لك الكتابة؟
^ حاولت في المجموعة الأخيرة أن أقدم شعراً تكون مناخاته المطلق بشكله السري والعميق. الموضوعات وهي تسمية لا أحبذها هنا، موجودة على الدوام. لا نستطيع أن نقدم قصيدة ونتحدث فيها عن المطلق بلغة صحافية. ينبغي خلق أشياء جديدة من أجل التخلص من الكتابة وفق العادات والركاكة والتقليد. يتملكني شعور بالإحباط وأنا أرى أغلب الشعراء العرب والعراقيين يكتبون بلغة وأنساق وأساليب متشابهة. وبالنسبة إلى القارئ فأنا أودّ دائماً طرد القارئ من قراءة القصيدة، لأنه بصراحة غبي ويود أن يفهم، وإذا مهدنا له مهمة الفهم فأنه يدمر عمل الشاعر. في جميع العصور كان جمهور الشعر الحقيقي قليلاً. وهنا تكمن قداسته وجذوته المستمرة أبداً. الموضوع المعين والواضح في القصيدة الراهنة انتهى منذ زمن طويل. لا يمكننا التفكير في كتابة القصيدة. التفكير يقتل كل شيء. الكلمات لا الموضوع هي التي تخلق القصيدة كما يقول بول فاليري. ليست هناك قوانين معينة في الإبداع عبر الألم والسرور وسواهما من الأحاسيس. الألم الذي تحدثت عنه في كتابي «معرفة أساسية الحرب. الشعر. الحب. الموت» عاشته غالبية الناس والشعراء الذين ابتعدوا عن المؤسسة الثقافية الرسمية في عراق الثمانينيات. من الصعب الآن قراءة الواقع الذي عشته في الماضي. كل كتابة تحتوي على عاطفة أو انفعال غير مسيطر عليه. لا عمق فيها وتشبه تلك المنحنيات المعوجة وغير المتناسقة في فن عمارة عصر الباروك. الانفعال يهدم «التوازن التماثلي» لجمال اللغة ويضفي طابعاً دينياً على النص. يجب التخلص من هذه الدمامل حين نرغب في تقديم ما يتوق إلى الظهور ونحن نغطس في الأعماق السحيقة للحلم أثناء لحظة الكتابة.

السفير- 6- 8 - 2013

أقرأ أيضاً: