لم يستعجل عواد ناصر، النشر يوماً. دائماً تشعر أن الكتاب عنده مؤجل لأسباب كثيرة، وإن كان هذا الأمر لا يمنع أبدا، أن القصيدة لا تتوقف من أن تأتي ومن أن يكتبها. وبالرغم من ابتعاده الطوعي (إذا جاز التعبير) عن عملية النشر، إلا أن اسمه لم يتوقف عن الاتساع على خارطة الشعر، إذ عرف كيف يبني حضوراً جعلته واحداً من الفاعلين في المشهد.
مؤخراً أصدر «أحاديث المارة» (دار المدى). كتاب ضم العديد من إنتاجه في العقدين الأخيرين، كما ضمنه بعضاً مما نشره في مجموعتيه الأوليين، إذ كان آخر كتاب نشره في العام 1991. مجموعة تستعيد بالضرورة بعض شروط المنفى وهو الذي غادر العراق في نهاية السبعينيات، ليتجول في عدد من العواصم العربية قبل أن يحط الرحال في لندن التي يعيش فيها من سنين طويلة. بهذا المعنى أيضا، يحضر المكان الجديد في قصيدته، فقصيدة عواد ناصر، لا تشذ بتاتا عن شروطها المكانية التي تفرض حضورها. بهذا المعنى تبدو الكتابة على أنها جغرافيا لا تاريخ، مثلما قال ذات يوم الروائي المكسيكي الراحل كارلوس فوينتس.
مؤخرا، قام بزيارة إلى بيروت التي لم يعد إليها منذ رحيله عنها في بداية الثمانينيات، لذلك كان لا بدّ أن يتطرق هذا الحديث إلى بيروت، بداية، لكن أيضا لم ينس الشرط العراقي، فالكاتب ليس في النهاية سوى شرطه التاريخي. بيد أن الحديث هنا، لم يتوقف عند هاتين النقطتين، بل ذهب أيضا إلى مفهوم الكتابة، ومفهوم اللغة الشعرية، مثلما حاول أن يستنطق بعض عوالم الشاعر. في بيروت كان هذا اللقاء
.
^ سنبدأ حديثنا هذا عن مدينتين، الأولى بيروت التي تزورها للمرّة الأولى منذ العام 1979. ثمة زمن مرّ، وقد عرف العديد من التحولات. كيف تجدها اليوم؟
{ رأيي لا يُعتدّ به لأجيب على هذا السؤال لأني أراها بعيون عابر، لكني أحسها وكأنها في فترة نقاهة. وبيروت تبقى بالنسبة إليّ من المدن الرحيمة. حتى الحرب الأهلية التي عشت سنتين منها، كان فيها جمالات على هامش المراكز المتناحرة، أكاد أشمّ في بيروت عطرا خاصا وأرى لونا خاصا. أزعم أن بيروت اليوم لها معنى آخر وسط ما يُسمى بالحراك العربي وبالرغم من أنها مدينة هشّة إلا أن في هذه الهشاشة رقة تستعصي على السياسي المدرّع. لي في بيروت أصدقاء ومعارف عثرت على بعضهم في عجالة العابر وما زلت أبحث عن الباقين
.
^ المدينة الثانية بغداد، غادرتها باكرا وجبت منافي كثيرة. لكنها بقيت حاضرة في النص. ألم تفكر للحظة بالعودة إليها نهائيا؟
{ بغداد بالنسبة إليّ لا تخرج عن محاولة استعادة المكان الأول وهذا المكان الأول هو المنبع حيث أوائل الأشياء. الكتاب والمرأة والمقهى والخطوات الأولى التي كانت في مرحلة التدريب لبلوغ المنفى. كنت أهجس مبكرا أنها ليست مدينتي وهذا يعود إلى الجانب السياسي في تجربتي. أحسست الاغتراب المبكر في هذه المدينة التي يحكمها العسكر، حتى المدنيون فيها كانوا مسلحين (الحرس القومي عام 1963)، لكنها بقيت حلما جميلا يتكسر أو يتشظى عبر الزمن، لكنها تحتل ركنا حميما في ذاكرتي. يمكن أن يدخل هذا في باب النوستاليجا، بيد أنها نوستالجيا منتجة، تحضر في أحلامي وفي كتاباتي وما زلت أبحث عنها مثل إيثاكا عراقية تنوس عبر الإيميل والفايسبوك وما أنشره في صحافتها البغدادية. لكنني في الوقت الحاضر لا أفكر في العودة إليها أبدا طالما أنها لم تعد وطنا صالحا لمواطن بسيط مثلي لا يحلم إلا بالسلام: سلامه الشخصي وسلام العالم.
بغداد مدينة تطرد أبناءها المشاكسين وأنا لا أعرف أُمّا تُعامل أبناءها بهذه القسوة. أول زيارة قمت بها لبغداد بعد 2003، هرعت نحو أماكن لا يعرفها أحد، أماكن وجودي الشخصي ومغامراتي واكتشافاتي وحماقاتي، ذهبت مثلا إلى عمارة غريب جان في الشورجة أبحث عن امرأة أو عن ظلالها لأنني لم أتجرأ على أن أصارحها بحبي عندما كنت شابا، لكني لم أعثر عليها بالطبع وذهبت إلى مدرستي في كبابة مريم فوجدتها قد غابت لأن صدام حسين حول المنطقة إلى محمية عسكرية وساحة احتفالات حيث لا يحتفل أحد غيره.
بغداد اليوم بعد أن حطمت التمثال الشهير في ساحة الفردوس حولته إلى تماثيل صغيرة في الدولة ومؤسساتها في الشارع والبرلمان وفي غرف نومنا
.
^ ولكنك لا تتوقف من العودة إليها عبر النص الشعري. هل أصبحت القصيدة «منفاك» الأخير؟
{ من الطبيعي أن أتراسل مع بغداد ومكوناتها، مع أناسها الطيبين عبر النص والقصيدة تتناوب المكانين: الوطن والمنفى. وأحبّ أن أضع كلمة الوطن بين قويسات. لكن القصيدة في النهاية هي وطني بمعنى أن الوطن يعني الحرية. وأنا خارج القصيدة كائن متلعثم لا يفقه قولي إلا فيها. بهذا المعنى فأنا أتحقق داخل النص وأتعثر خارجه. النص بالنسبة إليّ على الأقل هو جداري الأخير، فإن سقط سقطت بالرغم من أنني شاعر بلا طموحات تُذكر، فأنا كمواطن، مهزوم وهزيمتي ليست شخصية ولم أحقق أيّ انتصار في حياتي. انتصاري الوحيد هو عندما أحسّ بأنني كتبت قصيدة أعتقدها ناجحة وغير ذلك لا وطن ولا مواطن.
هناك قصيدة لي أقول فيها:
«عاد الشيخ إلى وطنه
ليلقّن أحفاده
تعاليم المنفى المقبل».
القصيدة الضائعة
^ لكنك تعتبر في «القصيدة الضائعة» أن القصيدة ببساطة.. ضائعة. هل ينسحب هذا الضياع على كلّ شيء؟
{ نعم نحن ضائعون بمعنى من المعاني، لكنني عنيت بالقصيدة الضائعة «القصيدة الضائعة» حقا لأنني كلما كتبت قصيدة لم تكن هي القصيدة الموعودة التي وعدت بها نفسي طبعا. أيّ أن ثمة ما هو مفقود وهذا الفقدان أو الضياع إذا شئت نعمة فلولاه لما كتبت قصيدتي التالية التي هي فخ جديد في الطريق إلى العثور على ما ضاع
.
^ ربما أجمل ما في الكتابة هو الإحساس بعدم الوصول وإلا فقدنا المعنى والرغبة. أتوافق على ذلك؟
{ طبعا الوصول يمثل بالنسبة إليّ وربما إلى الآخرين هو خيبة أخرى، فعندما تصل يعني أن تتوقف وأن تمكث وأن تتجمد. الطريق بحدّ ذاته كما قيل «أجمل من إيثاكا».
كتابة القصيدة هي عملية بحث مركب عن الذات والآخر عبر ما يتيحه الجمال من المشاركة الخلاقة مع أطراف متعددة بدءاً من الله أعظم النحاتين عبر التاريخ وانتهاءً بي شاعرا مهمورا أحيانا أقرر السفر بلا هدف ولا منفعة غير أن أحقق السفر نفسه. هكذا مثلا جئت إلى بيروت هذه الأيام. أحيانا قليلة جدا يفاجئني بحثي عن مسرّات صغيرة حتى لو كانت لا تُرى بالعين المجردة أن أسترخي في شرفة وأتمتع بالليل وهو ينثر علينا النجوم.
^ هذه المسرات الصغيرة موجودة في نصك الذي يعيد تأليف هذه التفاصيل على الأقل كما هو واضح في تجربتك الأخيرة؟
{ أولاً أنا أحب الحياة أكثر من الثقافة، التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية هي ما تؤلف يوماً كاملا أو عمراً. أنا أتمتع بها كحقائق ضرورية جداً لأستعيد المتعة في مختبري الخاص أثناء الكتابة. وما يشاع الآن في الكتابات عمّا يسمى بـ«التناص»، خداع لغوي وإذا كان ثمة من تناص على شيء من الصدق فهو ما يحدث على مدار اليوم أمام حواس الإنسان كلّها والتناص الحقيقي هو بين هذه الحواس وتلك المسرات الصغيرة التي لا تُرى بالعين المجردة
.
من يقرأ هذه الأيام
^ لو عدنا إلى تجربتك، لوجدنا أن ما نشرته يبدو قليلا بالنسبة إلى عمرها.. هل تشعر بهيبة أو خوف من النشر؟ لماذا هذا الإقلال؟
{ نعم أنا خائف أزلي وإن أحببت تخفيف المعنى فلنقل أنا هيّاب فما الذي لأضيفه إلى شعر العالم وإذا أضفت من سيلتفت إلى هذه الإضافة غير المنظورة. من يقرأ الشعر يا صديقي هذه الأيام؟ إن رغيفا حتى وإن كان بائتا لهو أجمل وأكثر ضرورة للمواطن العربي من كلّ شعرنا. قلت مرة في عمود صحافي «سوف أبقى أفتش عن الناشر/ الشاعر لا الناشر/ التاجر» فلم أجده وإني لأضحك على الكثير من الشعراء الذين يدفعون أموالا كي يطبعوا كتبهم. هل يعقل أن يدفع الشاعر مالا لينشر مكابداته القاسية وكدحه وألمه أثناء الكتابة؟ فوق هذا لا أعول كثيراً على أي مردود جمالي أو فكري للشعر بين الناس المشغولين بالركض نحو فرن الخبز لا نحو المكتبة إلى الحدّ الذي صرنا فيه نحن الذين يطلق علينا المثقفون مثل حواريي المسيح. لا يسمع بحواراتهم أحد وبتنا أقلية الأقليات. هذا هو شعوري وأعتذر عن تشاؤمي المفرط بشأن جدوى الشعر في العالم العربي. إن سعادتي القصوى إذا تلقيت بضعة آراء من بضعة أصدقاء حقيقيين أعجبتهم قصيدة لي، هذا ما أنتظره ولا أنتظر شيئا آخر.
^ سأعود إلى فكرة المكان الذي خبرته في تنقلاتك، هل مارس أيّ تأثير على كتاباتك؟ لغتك؟
{ طبعاً. المكان حاضنة أفكار. المكان هو الخلطة العجيبة بين الفكرة وتجسديها. في لندن مثلا لا بدّ أن يعبر البرد من نافذة القصيدة وأن تحس ببرودة المكان على الوسادة. والعكس صحيح فلا يراودك هذا الخاطر وأنت في بغداد التي كانت مكانا لتكّون المكان أو المصدر وإن كان بصيغة غائمة. وفي دمشق أثر المكان في قصيدتي لتحاول الخروج من شواربها العراقية. وفي بيروت تعلمت أثناء إقامتي خلال الحرب الأهلية أن «الدردارة» قصيدة حسن العبد الله مثلا، يمكن أن تكون قصيدة مقاومة لأن الدردارة كما أتذكر وأتخيل هي بيروت شجرة تضرب عميقا وفرعها في السماء. في لندن أحاول التماس مع الشعر الانكليزي فاكتشف أن كل الأفكار صالحة لتشكل بنية تحتية لأي قصيدة، فتحة تنوع هائل في الموضوعات والرؤى والأشكال وتعلمت أيضا أن غالبية الشعراء البريطانيين كتبوا دواوين عدة للأطفال بينما يستنكف شعراؤنا من هذا، لأنهم يعتقدون أن الشعر منذور إلى السرديات الكبرى حسب.
المكان عندي زمان، لأنه يحمل التحولات كلها بدءا من سحنتي حتى وعيي. هذه التحولات لا يمكن أن تتبلور من دون أن يكون المرء موجودا في ركن أو خزانة. لا يمكنني أن أتحدث كثيرا خجلا من صديقنا الراحل غالب هلسا الذي ترجم أجمل الكتب في هذا الشأن: «جماليات المكان» لغاستون باشلار.
^ تذكرني هنا بجملة لباشلار وهي أن القصيدة «وقفة في حركة الزمن»، هل بهذا المعنى تبدو قصيدتك؟
{ أعتقد أن باشلار في هذه العبارة صدر عن ثقافة مختلفة جدا عن ثقافتنا. فالقصيدة الغربية يمكن أن تكون وقفة ومن المؤكد أنه يقصد شعراء محددين جدا. قصيدتنا زمن واقف، هذا جزء من ركودنا العربي فنحن ناسخون ومقلدون بشكل فج لما ابتكره غيرنا في الغرب وما قصة الحداثة وما بعدها في ثقافتنا إلا مثال واضح وهي قصة معقدة من دون نهايات سعيدة.
إن علاقتنا بحداثة الآخرين وهي حداثتهم حقا ليست سوى انعكاس جامد في مرآة أو إذا سمح لهذه الجملة بالنشر، تشبه استمناء أبديا على صورة مارلين مونرو. كانت لنا حداثة قبل أكثر من عام. بينما كان الآخر يغط في الظلمة ومن العار أن أجدادنا حتى في العصر الجاهلي كانوا أصحاب حضارة ومسارات حرية أكثر بكثير مما نحن عليه الآن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. وهنا أسأل ليس إلى أين ذاهبون بل إلى أين متقهقرون؟
^ تربط هنا الكتابة، وحتى وجودنا، بالشرط التاريخي الذي نحن فيه؟
{ طبعا وهل نعيش الكتابة خارج شرطها التاريخي؟ إذا كانت الكتابة موعدا في المستقبل فمنبعها التاريخ. أظن أن لكل مفردة تاريخا. من دون هذا التاريخ ستبدو الكلمة مولودا سِفاحا. بمعنى أن أي فاعلية إنسانية لا بدّ أن تتحرك ضمن شرطها التاريخي. التاريخ بما هو صراع وجودي من أجل البقاء حتى على مستوى الفرد الواحد. فأن تكون أنت ينبغي أن تظهر من تاريخك. الإنسان / الشاعر كائن تاريخي بهذا المعنى. فمثلا أدفع عمري ثمنا لو تذكرت لحظة خروجي من الرحم. أو أستمع إلى صرختي الأولى ضد أن يقذفني أبواي إلى هذا العالم من دون رغبتي. التاريخ للأسف في مثل هذه الحالة مزور لأنه لم يكتبني سوى اسم وصورة في بطاقتي الشخصية. وبدلا من ذلك كتبه من يمتلكون السلطة.
درويش وبولص
^ بعيدا عن السلطة بمفهومها العام، لنعد إلى «سلطة القصيدة»، أقصد أين أنت اليوم من هذا الحراك الشعري؟ كيف تنظر إلى الشعر العربي الراهن؟ كيف تتابعه من لندن؟
{ أتابع الشعر العربي مضطرا لسببين: أولا لأنني مشرف على صفحات ثقافية كمحرر والثاني بحكم فضولي النقدي كي أعرف ماذا «يُخربط» الشعراء العرب. الشعر العربي يشبه العرب بالضبط، أنت تعرف يا اسكندر صورة العرب اليوم وصورة القصيدة هي تفصيل من صورتهم التي لا تسرّ صديقا ولا عدواً. أقرأ الكثير من الشعر فلا يخلف في نفسي تلك اللسعة التي تخلفها نحلة حتى لو كانت عاطلة عن إنتاج العسل. صار الشعر، أعني أغلبه، شكلا من «البريستيج» أما قلته فهي قليلة. ثمة قصائد لشعراء من أجيال تالية تشي بوعود شعرية لكني لا أقول إن هذه الوعود ستتحقق وربما تتحقق. أكاد أضع الكثير من القصائد في خانة واحدة وإذا تساهلت ففي خانتين: قصيدة تدعي النثر ليتاح لكاتبها أن يبرر جهله في العروض وشاعر ينسخ مفردات مثل الغياب والبياض ويحاول تكسير الجملة الشعرية من دون دراية، وشاعر وجد أن الشعر هو أسهل أشكال الكتابة وشاعر وهذا هو المهم يكتب مثلما يتلمس الأعمى طريقه ولا يملك سوى عصاه التي يهش بها على .. ألم.
أما شعراؤنا الذين يطلق عليهم الكبار فصاروا مثل رؤساء جمهوريات الموز، كلّ يحلم في جزيرته ويصدر بضاعته سواء قبض ثمنا ما أو لم يقبض. (إيه حلوا عنا). قرأناكم وعرفناكم ومللناكم.. ما زلت أحب محمود درويش وسركون بولص لا بدّ أن يكون حاضرا هذه الجلسة.
^ أين تتقاطع مع محمود درويش وسركون بولص؟
{ لا أتقاطع معهما فأنا أعتبرهما من بين أساتذتي. محمود درويش لأنه قبض على خيط الحرير الرهيف بين الشاعر والشارع وسركون بولص لأنه نقل القصيدة العربية من الزخرف والرنين إلى الحكاية. أنا متأثر بهما لأنني متأثر بجميع الشعراء في العالم. وأن أكون متأثرا فهذا يعني أنني كائن سوي..
------------------------------
السفير- 10-5-2013-