«الخروج من أور»، عنوان المجموعة الشعرية الجديدة (منشورات الغاوون) للشاعر العراقي صلاح حسن، وفيها عبر بعض الإسقاطات التاريخية والدينية كتابة سيرة شاعر يعود إلى الأرض الأولى بعد هجرة وتجوال في أصقاع العالم. هنا لقاء حول الكتاب.
بين العراق وهولندا وبيروت، يبدو أنك اخترت البقاء في بغداد هذه الأيام، لمَ هذا الاختيار؟ ^ العالم يتهدم من حولنا.. اشعر بأن الأمكنة بدأت تُمحى من الخارطة.. هولندا تتقهقر اقتصادياً وبالتالي إنسانياً، وبيروت تتدهور على كلّ الأصعدة بسبب الأزمة السورية والأزمة العربية. أما العراق وهو على وشك الانهيار فقد اخترته كي أكون شاهداً على هذا الانهيار حتى لو تطلب ذلك أن ادفع حياتي ثمناً.. البارحة مساء أصبحت بحالة من الحنين إلى بيروت لأنها هي المدينة الوحيدة التي أجد نفسي فيها، لكن بيروت لم تعد مثلما كانت، غير أن ذلك لن يغير في الأمر شيئاًَ... انا انتظر بيروت كي أعود إليها.
تعود إلى العراق، بينما كتابك الأخير، الصادر حديثاً، يحمل عنوان «الخروج من أور». كيف تفسر هذا التناقض، إذا جاز القول؟ ^ في القسم الأخير من النص وعنوانه «جسر بين مقبرتين» يقرر الشاعر أو النبي أو المنفي، سمِّ ذلك ما شئت، العودة إلى الأرض الأولى ويبدو أن هذه النبوءة قد تحققت الآن من دون أن اخطط لذلك.. النص كلّه يدور حول هذه القضية - العودة إلى النبع الأول - عندما خططت الخطوط الأولى لهذا النص الطويل وضعت في بالي أن عملية النفي القسري أو الطرد من الجنة، كما في القسم الأول من النص، لن تدوم إلى الأبد، ولا بدّ من عودة حتى ولو كانت رمزية، لكن هذه العودة تحققت بالفعل. التناقض هنا بسيط إذا عدت إلى النص نفسه، لأنني انتهيت من كتابته عام 2006، ولم انشره إلا قبل سنة. العنوان كنت قد وضعته عام 1999 وهناك فارق زمني كبير بين تاريخ كتابة القسم الأول وتاريخ صدور الكتاب، لكن هذه اللعنة كما أحب أن اسميها الآن تضعني قريباً من حافات جديدة قد تكون خروجاً آخر لا اعرف متى سيحصل.
النبي
ولكن النص يضعنا أيضاً في مقارنة ما. في لحظات، تشعر كأنك تستعيد في سيرة الشاعر التي تكتبها بعض ملامح إبراهيم الخليل، أول الأنبياء. هل ثمة وعي لهذه المفارقة؟ ولمَ نحوت إلى ذلك؟ ^ بالضبط اسكندر، لقد كنت واعياً تماماً لهذه القضية، بل إنني عندما فكرت في كتابة هذا النص قمت بقراءة عشرات الكتب عن سيرة إبراهيم الخليل، لأن قصة خروجه من أور تشبه قصة خروج الشاعر بشكل غريب، لكنني لم أتمسك بهذه السيرة، ولم اعد كتابتها كما هي، إذ جعلت الشاعر والنبي يتبادلان الأدوار على طول مساحة النص، ولم أتمسك بالخط الزمني التقليدي بل سعيت إلى تحطيم مفهوم الزمان والمكان من أجل بناء يوتوبيا جديدة مفترضة تحمل أزمنة وأمكنة جديدة قديمة، وتشي بالقصة الأولى لخروج إبراهيم لكنها تركز بقوة على خروج الشاعر الذي تكرر بعد آلاف السنين.
بالتأكيد ليست سيرة نبي، ما تكتبه، لكنك بذلك تعيد طرح إشكالية، لم تنته في الشعر العربي، وهي أن الشاعر غالباً ما يكون نبي عشيرته. بهذا المعنى، كم بقي من هذا المفهوم في خلفية الكتابة؟
^ أظن انه بدأ يترسخ كثيراً بعد الخراب العربي وعودة العشيرة إلى السلطة، خصوصاً في العراق، بعد وجود أحزاب دينية في السلطة الجديدة تحتاج إلى صوت الشاعر كمبشر بها.
هل ما زلت تؤمن بأن الكلمة يمكن لها بعد أي شيء في هذا الزمن؟ ^ نعم. بدليل أني عشت هذه الحالة مرتين، الأولى عندما نشرت قصيدة ضد الطاغية المقبور صدام حسين في العام 1992، وصدر بحقي حكم الإعدام، والمرة الثانية عندما عدت إلى العراق عام 2010 وكتبت بعض المقالات عن الميليشيات الطائفية، حيث وصلني تهديد بقطع اللسان إذا استمررت في الكتابة عن هذه الميليشيات. تبقى الكلمة كما هي حال كلّ الكتب المقدسة اقصر الطرق إلى قول الحقيقة وفضح الزيف.
قد نحمل الكتابة تلك أكثر مما يمكن لها أن تتحمله في الواقع؟ ^ ربما لكن هذا هو الواقع على الأقل في العراق.
هل من عراق واحد بعد؟ للأسف يبدو أن كل شيء في انحداره المزمن، على ما يبدو. من هنا، هل تأتي الكتابة كبديل من أي شيء آخر؟
^ لا يوجد شيء الآن اسمه العراق، لأن العراق قد بيع بالجملة والمفرق منذ 2003، ولم يعد لدى المثقف الحقيقي في العراق غير الكتابة بوصفها خلاصاً ضد كل أشكال الظلم والتعسف والعنف، والإقصاء الحاصل اليوم لم يعد لدى الكاتب أو الشاعر سوى الكلمة التي قد تغيب ولا يسمعها احد بسبب الضجيج العالي في كل مكان.
لنعد إلى المجموعة، تبدو القصائد، وبخاصة حين تبدأ بلازمة واحدة، وكأنها أشبه برسالة أو خطبة، كتلك التي عرفناها في العصور العربية القديمة. لمَ نحوت إلى هذا الأسلوب؟
^ كما تعرف أنا درست المسرح، وقد استثمرت معرفتي في كتابة هذا النص، غير أن لي فلسفة خاصة وظفتها في هذا النص تعتمد على إلغاء المايكرفون والمنصة، لأن الذي يعتلي المنصة يكون صاحب خطاب والخطاب سلطة.. أنا سعيت لإلغاء المايكرفون والمنصة من اجل إلغاء هذا الخطاب والحديث إلى الناس مباشرة بدون حواجز أو سلطات. لذلك فكرت بهذه التقنية التي يمكن لها أن توصل الرسالة بشكل مباشر وواضح لا يقبل اللبس، وقد جربت ذلك في أكثر من مناسبة ونجحت نجاحاً كبيراً، لأني جلست مع الجمهور وحاورته وجهاً لوجه في هولندا ومصر والعراق وكانت تجربة ناجحة للغاية. المهم من كل ذلك هو إلغاء سلطة الخطاب، كي يشعر الجمهور بالحرية وهو يستمع إلى الشاعر.
ولكن كل كتابة هي سلطة في النهاية، كما قال رولان بارت؟
^ بالضبط، الكتابة سلطة، لكن كيف يمكن استخدام هــذه السلــطة بالنــسبة إلى الشاعر بالتحديد؟ هذا ما حاولت في هذا النص، أن اجعل هذه السلــطة تنتقل إلى السامــع أو الجمــهور، أن امنحــها له كـــي يستطيــع أن يكــون مشـاركاً فـي صــنع الخطاب الذي أقدمه له بوصــفي شاعراً. سلطة الكتابة مثل أي سلـطة تكون قامعة وشرسة، وفعل الكتابة من جانب آخر فعل في الحرية. لذلك كنت أحاول أن ألغي هذه السلطة التي للكتابة وأمنحها إلى الجانب الآخر.. إلى فعل الحرية.
أجرى الحوار: إسكندر حبش
السفير- 9 -10-2013