اسكندر حبش

حسن داوود«لا طريق إلى الجنة»، رواية حسن داوود الجديدة (دار الساقي)، تأتي لتضيف طابقا آخر في هذه العمارة الروائية التي ابتدأت في الثمانينيات، والتي ترتفع عاما بعد عام، لتصبح وارفة وحاضرة في قلب المشهد.
عن رجل دين، يصاب بالمرض، ما يدفعه إلى تغيير الكثير من قناعاته والتخلي عنها، يدور الخيط العريض لأحداث الكتاب. لكن بالتأكيد، ما ذلك كله سوى «الحجة الكتابية»، إذ ندخل من خلالها على شخصيات وأمكنة، «عزيزة»، على مناخات الكاتب اللبناني، إذ غالبية أعماله كانت تطل من هذا المقترب الروائي، ليحدثنا عن أشياء غابت أو عن أشياء في طور اندثارها. فالكتابة هنا، في استعادتها، لا تريد أن تخلدها، بل أن تساهم بدورها في إخراجها من «الأسطورة» الشخصية والجمعية، لكي تدفع بها إلى رحيلها.
حول كتابه الأخير هذا، كان اللقاء مع حسن داوود.

ما زلت أذكر ذاك اليوم الذي صدرت فيه «بناية ماتيلد». كان القلق بادياً عليك وأنت تهديني الكتاب. مؤخراً، حين وقعت لي «لا طريق إلى الجنة،» لمحت ذاك القلق عينه. هل القلق سمة للكاتب عامة؟ أم إنه خاصية عند حسن داوود؟ هل بعد هذه الرحلة الطويلة، لا تزال تنتظر ردود فعل القارئ؟

القلق ما زال ملازمي في كلّ ما يتصل بالكتابة. لا يتعلق ذلك بالكتاب وحده بل أيضا بالمقالة التي أكتبها. برغم السنوات التي تنوف عن الثلاثين قضيتها في الكتابة، أجدني ما زلت أرغب في التكاسل عنها وفي قولي لنفسي الأحسن لي أن أبقى الآن في السرير.
ألكتابة أمر لم أعتده. لم يسهّل الوقت الأمر عليّ. في ذلك مثلا أحتاج إلى استعداد كبير لكي أكتب عشرة أسطر وهذه أعيد قراءتها كأنني، مستمتعاً، أهنئ نفسي بما أنجزت. في أحيان أنظر في عدد من الكتب التي أصدرتها وأقول هل يعقل أنني سوّدت كل هذه الصفحات، ولأضف طبعاً هذا العدد من المقالات التي ما زلت أكتبها منذ العام 1975.
أنتظر ما زلت ردود فعل القارئ، بفضول وشغف. ربما بات حالي في ذلك أقلّ مما كان في السابق حيث كنت ألحّ على كلّ من أعرفه أن يستفيض في الكلام عمّا قرأه مني. الآن قد أجدني أضرب صفحاً عن ملاحظة تقال، وهذا مردّه إلى التعب غالباً وليس إلى قلّة الفضول.

كأنك تفصل، بمعنى ما، بين قارئين: القارئ القريب منك، والآخر البعيد الذي لا تعرفه. في النهاية لا نكتب للجميع، بل ربما لأنفسنا بالدرجة الأولى. هل وأنت تكتب، تتساءل أحياناً، كيف سيتم استقبال عملك، فيما لو قلت كذا أو كيت؟

فكرة أن الكاتب يكتب مستهدفاً جماعة أو جماعات، أحسبها فكرة مخطئة، ربما الآن أكثر من أي وقت مضى. في ظني أننا نكتب من دون أن يكون في ذهننا أحد ما. ذاك لأن الكتابة هي التي تقودنا. أقصد أنها تطلع من حيث لا ندري وتذهب إلى حيث لا نعلم. ربما كان هذا شأن الكتاب القديمين وأنا أجد نفسي واحداً منهم. لا أعرف كيف يمكن أن ينتج كاتب كتابة يعرف مآلها ومصدرها. ما زلت لا أثق بأولئك الذين يرسمون خطة لروايتهم أو لمسرحياتهم بناء على معطيات قوامها الجمهور الناظر إلى الخشبة أو قرّاء الكتب. في أفلام أميركية كثيرة رأينا كيف يقترح المنتج على كاتب السيناريو إضافات أو تعديلات قائمة من تقصّي رغبات المشاهدين وميولهم. ما زلت أرى أن كلّ تدخل مشابه من شأنه أن يجعل الكتابة مهنة أو حرفة، وهذا ما ينافي كلياً ما أعتقد أنه الكتابة.
ما زلت إلى الآن لا أعرف معنى عبارة أن الكاتب يكتب لنفسه، أقصد ما زلت لا أعرف ماذا تعنيه تماماً، في أحيان أظنها من قبيل احتفال الكتّاب بأنفسهم أو من قبيل استعارتهم لأدب شفهي يقيمه هؤلاء الكتّاب حول ما يفعلونه. أما إن شئت أن أصوّب معنى هذه العبارة فأرى أن لا سبب محدّدا يدفع الكاتب إلى أن يظل كاتباً. إنها بالطبع، في بلدان مثل بلداننا، هواية مهلكة وعائدها قليل. لا أقصد العائد المادي طبعاً بل أقصد التشكيك المستمرّ بما أوصلتْ إليه الكتابة. إنها حصيلة غائمة، مشوّشة وفاقدة لأي وضوح، إذ ليس هناك من شيء يقف بثبات مثل أن تقول إن هذا المخترع أنجز اختراعاً هو كذا وجرى الاعتراف به على قدر أهمّيته حقيقة، أو أن رجل الأعمال هذا بات مليونيراً بعد أن حقق نجاحاته. أما في الكتابة فأنت حيناً كلّ شيء وحيناً لا شيء وأنت في نظر نفسك متراوح بين الشعور المرهق بالعظمة والإحساس المذلّ باللامعنى.
لم يعد الكتّاب رواداً لجماعات تتعدّى من يشاركونهم هواياتهم، أقصد أن محيطهم ضاق إلى أبعد الحدود، ولنضف إلى ذلك أن هذه الجماعة الصغيرة باتت متناكفة مع بعضها البعض وليس بينها ذلك الشيء الذي يشبه عنوان ذلك الفيلم «جمعية الشعراء الموتى».

الأنبياء والكتّاب

لأنتهي من هذه الفكرة، بعد هذه السنين الطويلة، وانطلاقاً مما قلته الآن، سأسأل: أين أوصلتك الكتابة؟

الآن أستطيع أن أقول إنني علقت في شيء لا أستطيع الخروج منه. لا أعرف إن كان واحدنا يستطيع أن يأتي بجديد ويتجاوز ما سبق له أن أنجزه. فكرة الجديد فكرة محبطة لشدّة إلحاحها، خصوصاً أن التجربة الطويلة تعلّم أن الكاتب لا يستطيع أن يكون إلا نفسه. الآن، كما في كلّ مرة، أبدأ بمشروع كتابة جديد، أقول إنني سأكون جديداً هذه المرة، مختلفاً عما كنته في محاولاتي التي سبقت. لكن من أين نأتي بما يخالفنا.
أوصلتني الكتابة إلى ما قلته أعلاه، إلى الحيرة إزاء ما أكتب وإلى الشعور بأن التقدّم خطوة إلى الأمام بات صعباً وهذا ما يستنزف لأن الاعتراف بفقدان القدرة هذه، دافع على التوقف ولا أستطيع أن أتوقف. كأنني أقول لنفسي إنني أتممت ما حملت نفسي عليه وها أنني أطوي أوراقي وأقعد لا افعل شيئاً إلا النظر في هذه الأوراق..
وإذ ينبغي لي ألا أفرط في التشاؤم أقول إن هناك غبطة ما تتأتى من بعض النظر إلى الخلف. لكن كما ذكرت، ذلك لن يستمر كثيراً فمدته قصيرة وناقصة وهناك خوف من أن تكون تلك الغبطة مجرد احتفال زائف للنفس.
ما زلت أصنف الطموحين إلى فئتين: فئة الملوك وفئة الأنبياء. الملوك هم الساعون إلى السلطة، إلى المال، إلى القدرة، إلى كلّ شيء متعين متحصّل يمكن رؤيته ولمسه وحسابه. الأنبياء، وبينهم الكتّاب، هم الآن في أسوأ أزمانهم على ما أحسب، إذ لم يعد من فائدة ولا من مكان ولا من معنى للنبوّة.

يجرني كلامك هنا إلى تخّيل المشهد التالي، وأنت تكتب أجدك لا تطرح السؤال إلا عن الكتابة نفسها، هل هذا ما يشغلك أكثر من غيره؟

غالباً ما يصير الكاتب معلّم نفسه، أعني أنه يصبح أسير ما كان كتب. أجدني على الدوام ساعياً إلى التخلّص من ذلك القيد المتمثّل بخروج الجملة من المكان ذاته الذي تألّفت فيه الجمل الكثيرة السابقة. ذاك قد يسميه البعض الاستسهال، أي أنك لا تنازع ما يأتيك تلقائياً وسلساً. في أحيان يبلغ بي مقتي حدّ أنني لا أعود أطيق الكلام نفسه، اللغة العربية الفصيحة التي لا أعرف أي سبق أدخلنا أنفسنا فيه، في ما نحن نذهب في معرفتها قدماً صاعدين بها إلى الأعلى فالأعلى فالأعلى. هذا سؤال يتصل أيضاً بتلك الحاجة الملحة إلى التجديد.
ربما أن الكاتب يكتب أكثر مما ينبغي له، كتابان أو ثلاثة، عدد معقول لأن يكون إنجاز حياة.

لو عدنا إلى رواياتك كلها، لوجدنا أنها تتأرجح بين مكانين: الريف والمدينة، مع حضور طاغ للمدينة، إذ كانت شخصياتك التي غادرت القرية تعيش في المدينة، ولا تتوّقف عن الرجوع إليها. في روايتك هذه «لا طريق إلى الجنة»، تعود إلى القرية كلياً. أولاً، لمَ هذه العودة؟ ثانياً هل هي رغبة في نزع كلّ الماضي وتركه ومغادرته حين تكتب عنه؟

هذا سؤال جميل ومهمّ لأنه مصداق لفكرتي أننا إذ نكتب عن شيء نكون نغادره، وإذا شئت بتعبير أكثر جلافة، نتخلّص منه. لا يعود تذكّر مشهد أو مرحلة خصباً وحنينيّاً بعد ان يُكتب. في أحيان يجد واحدنا نفسه كأنه كتب أكثر حياته، بل ما هو مهم وأساسي في حياته هو أنه من الآن فصاعداً عليه أن يكتفي بالأمور الأقل أهمية، تلك الأقل أساسية والتي لم ترسم خطوط حياته المهمة. أفكّر أنني لم أُبق لنفسي شيئاً فيما يتعلّق بالقرية أو بالريف. تلك الصيفيات التي أوقفتها وأنا في مطالع العشرينيات، كتبتها كلها، وإذ أجيء إلى تذكّر الشخصيات التي فُتنتُ بها وأنا في ذاك العمر أجد أنني استنفدتها واحدة واحدة وحالة حالة. الكتابة عما كنا نسميه محمد الأهبل أفقدتني محمد الأهبل، ذلك الرجل الطيب الذي لم يكن يحسن رواية أكثر من حادثة عابرة واحدة جرت له حين كان يعمل صبيّ فران في منطقة مار ميخائيل. لكن على رغم قلة ما يحفظه، وما يعرفه، كانت فيه طيبة لا تنتهي. محمد الأهبل هذا انتهى مع اثنين آخرين ألّفا معه تلك القصة القصيرة في كتاب «فيزيك» الذي طبعته من نحو عامين. وبالترافق مع ذلك أجد أنني لم أعد ريفيّ المنبت ولا ريفيّ الذكريات. تلك الأنحاء التي يسمّيها الأدباء مسارح الطفولة لم تعد موجودة لا في ضيعتي ولا في ذاكرتي. بيتي الذي هناك لا أستطيع المكوث فيه إلا إن رافقني إليه أصدقاء من بيروت. كلما كبرت ازددت تمسّكاً بالمدينة بيروت وازددت يقيناً بأن طفولتي كانت هنا، فيها.
ربما لأنها غير قابلة للاستنفاد كما هي القرية، ولأنها صعبة الإخضاع مثلها.

قسوة

سأحاول أن أصف فكرة، وستقول لي رأيك: غالباً، حين أقرأ رواياتك، وبخاصة حين تتحدّث عن القرية، أجدك في استنفادك الذكريات كأنك ترغب في أن تقول إنها ليست لك، بمعنى ليس التخلص منها بل إحالتها على شخص آخر. كأنك في هذه الكتابة تريد أن تذهب إلى أبعد من قطيعة، بل في تأسيس ذاكرة أخرى! لا أعرف إن كنت توافق على توصيفي هذا؟

ربما أخالفك فى ذلك، شخصيات القرية فيما أنا استحضرهم، كنتُ أقل حيادية مما أنا في العادة. ربما أحببتُ أو تهكّمتُ أو جعلتهم منفصلين عني، أو ربما أشفقتُ عليهم وعليهن، أولئك الفتيات اللواتي يلقين أنفسهن في الآبار منتحرات. هؤلاء كانوا يمثّلون الوعي الأول والعاطفة الأولى، ولا أعرف لماذا حين يروح واحدنا يبحث عن هذه المعارف والمشاعر الأولى يذهب إلى هناك، إلى الضيعة، مع أنه ابن بيروت ولد فيها وقضى فيها من طفولته ويفاعته عشرة أشهر في السنة. هم تلك الحياة الأولى التي لم تعد تكفي، الآن، لإثارة التأمل، وفي كلامي هذا قسوة أكاد أحسّها وأشعر بها. كأننا بتنا أكثر تعقيداً وأكثر ميلاً إلى إدخال المشاعر بعضها ببعض لكي لا تكون هناك هناءة خالصة أو «سرور كامل»، كما يقول المتنبي.

ولكّنك في هذه الرواية تقطع مع تاريخ كامل: ليس بلا معنى أن تجعل شخصيتك الرئيسية رجل دين، وتجعله في النهاية يتخّلى عن عمامته؟ هذا أولاً، من هنا أريد أن أضيف أني أجد أن روايتك هذه هي أكثر من رواية أخرى تغرف فيها، وكثيراً، من سيرة ذاتية وربما أيضا كانت رواية سياسية بامتياز؟

سأجيب عن سؤالك هذا إجابات متفرقة: فيما خصّ أنها «سيرة ذاتية» أجيب بأنني لم أكتب عن أيّ شخصية ممن كتبت حياتهم إلا وكنت أنا بعضاً منهم. ضمير المتكلم «أنا» الذي بدأتُ به معظم الروايات، هذه «الأنا» هي «أنا» مندمجة بالشخصية المسماة في الرواية. في كتابة هذا النوع من الروايات، لا تستطيع إلا أن تقحم نفسك. متعة الكتابة هي في تلك المحاورة الدائمة بين أنت وذاك الآخر الذي أنت بعضه وهو بعضك. حيناً تتمثله وحيناً تختلف عنه. صحيح أني في هذه الرواية الأخيرة كنت في أحيان كثيرة أنا «السيد» رجل الدين، على الرغم من أنني لم أكن هناك في الأماكن التي تنقل بينها وأقام فيها.
ثم أني لا أخفيك أنه أغراني كثيراً أن يمرّ زمنٌ في حياتي كان فيه العالم يفرغ من رجال الدين. أنا عايشت هذا في السبعينيات، وهذا زمن الرواية. كان أبي يقول لي «لم يعد أحد يرضى بالذهاب إلى النجف. سيأتي وقت لا نعود نجد أحداً يقرأ على الميتين». بطل رواية «لا طريق إلى الجنة» هو ضحية ذاك الزمن، بما أنه رجل دين. وما أغراني أكثر هو الطابع المأساوي لما آلت إليه حياة ذلك الرجل، على رغم نجاحه في أن يكون آخ رجل دين.
ربما كان في هذا سياسة وهذا ما قد يغري أيضاً. علماً أنني أعرف أن وجود سياسة بهذا المعنى لا يفيد الرواية في شيء.

رجل الدين في روايتك، يصطدم بلحظة ما، كأنها تشكّل لحظة وعي إذا جاز القول وهي حين يعرف أنه مصاب بالمرض. هل انتظرت طويلاً لكي تكتب عن المرض؟

في البداية، حين أصبتُ، كنت معتقداً أن المشاعر الحقيقية يصعب تحويلها إلى كتابة. ذلك شأن الغرام الحقيقي الذي أظن أنه من الصعب تحويله إلى كلمات وأفكار. ما فعلته في هذه الرواية هو أن أصف المرض وتبعاته بأقل قدر ممكن من الشعرية والمجاز. كأنني كنت أدوّن تدويناً ما يحدث لي في مرضي. ورجوعاً إلى سؤالك السابق أراني وقد أحلت هذا المرض إلى رجل آخر غيري، وهو رجل الدين. بذلك كنت راغباً في أن أحيّد نفسي، وأن أكون اقل تردّداً حيال ما أكتب. ربما سبق لي أن كتبت في «أيام زائدة» عن شيخوخة ذلك الرجل التسعيني، والشيخوخة مرض كما تعلم، أو أمراض. لكننا إزاء رجل في هذا العمر نحسب أن الألم والوجع والشعور بالترك والإهمال هي من عاديّ الأشياء وطبيعيتها: لكن على أي حال ذلك الأمر يختلف بين أن تعاني المرض أنت وأن تراقب معاناة الآخرين له.

شيعيتي

يشكل الشيخ، وهو رجل دين شيعي، عنصراً أساسياً في حياة القرية، لكنك تتناوله بعيداً عن أي فولكلور اجتماعي أو ديني، وهذا قليلا ما نجده في الروايات التي تناولت تلك الأمكنة العاملية؟

في أثناء ما كنت أحضّر لإعادة كتابة هذه الرواية، إذ أنها سبق لها أن فُقدت أو سًرقت كما قلت، قلت إن عليّ أن أقرأ كثيراً لأتزود بما يزيد فهمي للشيعة عمقاً. وقد سألت رجال دين عن كتب يمكن أن تكون مفيدة لي. لكنني، فيما كنت أقلب الصفحات، لم أعثر على ضالتي. ربما أعجبتني شخصيات معاصرة أو شخصيات تنتسب إلى مطالع القرن العشرين على الأقل فوجدت ما أبحث عنه في سيرتها أكثر مما وجدت في كلامها. لكن كانت هناك في ذهني مجموعة من الأفكار أو الأسئلة أو المشاعر تولّدت من كوني شيعياً أولاً، ومن تأملي في ما يمكن اعتباره المأساة الشيعية. هذا ما دفعني حقاً إلى كتابة الكتاب: أن أبحث في شيعيتي. وكانت هناك فكرتان، أولاهما أن الشيعة عموماً يعيشون في ما يشبه الحكاية التي يسمعونها وتتلى عليهم في عاشوراء وفي مجالس العزاء وفي مناسبات أخرى مختلفة، وأنه تبعاً لهذه الحكاية هناك حضور لما يمكن اعتباره الأهل الأعلى، أولئك الذين يمثّلون القربى الأصليّة. نحن نعيش في كنف قرابتهم مأخوذين بالإلفة التي تصل بين واحدهم والآخر. لا إلفة أقوى من تلك التي تجمع بين الحسين وزينب وبين زينب وسكينة مثلاً، وفي ما خصّ صلتي بهما، هما إما عمتاي أو احداهما ابنة أختي أو ابنة عمي، وأن الحسين هو أخي أو هو مزيج من الأب والأخ ومن أشخاص قريبين آخرين. الشعور حيال آل البيت هو شعور حميمي عائلي، وحين يكبر واحدنا يروح يسأل إلى أي حدّ كانوا قريبين ومجاورين وسريعي الحضور إلى التذكّر، وإلى تمثيلهم للأهل الفعليّين، هم الذين عاشوا من 1400 سنة. هذه واحدة من الأفكار التي كانت تحفزني على كتابة هذه الرواية.
أما الفكرة الثانية فشعوري بأني كشيعي أعيش في مكان قائم في الذاكرة وهو مختلف عن المكان الذي ولدتُ فيه ونشأتُ وعشتُ. كأنني ابن مكان قديم. صحراوي غالباً، متقشّف كثيراً. ولا أعرف إن كان ينبغي لي أن استخدم عبارات المعاصرة فأشبّه ذلك بالاغتراب المكاني، غير الضاغط، لكنه موجود في زاوية ما من زوايا الذاكرة.
حول أن بطل الرواية لم يكن فولكلورياً، أحسب لأنه فرد ومريض ومحبط. كما أنني لا أتذكّر صورة فولكلورية عن رجل الدين إلا تلك التي نقلتها السينما المصرية عن «المأذون» الذي هو عنصر فكاهي في الأفلام. وفي سنوات السبعينيات تلك، أقصد الزمن الذي ترجع إليه الرواية، كان يمكن تناول رجال الدين بقدر من اللامبالاة ومن قلّة الإكتراث. أما الآن، فكما تعلم، يرغب رجال الدين في أن يكونوا أشد الناس سطوة وبأساً.

هل هناك هدف أو غاية من وراء جعل إبني «السيّد» أبكمين في الرواية؟؟

قمت بما يشبه الإحالة من أولاد واقعيّين إلى ذينك الولدين في الرواية، أي أنني استبدلت التخلّف بالبكم. ذاك أن أحد الرجال الذين استلهمتهم لكتابة هذه الرواية كان لديه ابن أو ابنة تعاني من مشكلات من هذا القبيل.
لكن السبب الأساسي هو رغبتي في الكتابة عن ولد أبكم. ذاك أني في سنوات الفتوة عشت مع جودت في القرية وهو أبكم، لكنه كان مليئاً بالأحاسيس وكان يتلقى باستمرار عدوان الصبية الآخرين الذين كانوا يرشقونه بالحجارة معيبين عليه اختلافه عنهم. أنا ربما كنت وحدي في السعي إلى أن أستنطقه حول أشياء كثيرة، بينها مثلا إن كانت تنتابه مشاعر تجاه النساء، أو إن كان يسمع أصوات الانفجارات العالية التي كانت تأتي من سقوط القذائف على الضيعة أو حولها، ولماذا لا يبادر إلى ردّ الحجارة فيرشق الأولاد الذين يرشقونه. أحد الولدين في الرواية أو كلاهما، كانا جودت. أما الخوف على كبيرهما، واسمه أحمد، فراجع إلى السيرة المأساوية لجودت الحقيقي الذي، بعد أن تغلّب على إعاقته محققاً نجاحاً في عمله وتحصيله، توفي بالسرطان وهو في مطلع ثلاثينياته. الولدان الأبكمان في الرواية نوع من تذكر لجودت ورغبة في الكتابة عنه.

السفير- 15فبراير 2013

أقرأ أيضاً: