اسكندر حبش
(لبنان)

زاهر الغافريبعد سنين عديدة من الهجرات والتنقل، عاد الشاعر العماني زاهر الغافري، إلى مسقط رأسه (منذ سنوات قليلة)، حاملا معه كتاباته التي تبدو كأنها مسكنه الوحيد. كتابة عرفت كيف تصنع من شرطها الكتابي، شرطا إنسانيا ليفتح أمامه العديد من أبواب الإقامة والترحال. كتابة جعلته أيضا واحدا من أبرز الذين يحاورن أشكال الكتابة الجديدة. منذ أيام مر على بيروت، آتيا من لندن، حيث شارك هناك في مهرجان لندن الشعري، الذي سبق الأولمبياد، وكانت فكرته استضافة شاعر من كل بلد مشارك في الأولمبياد البريطاني. وفي بيروت كان هذا الحوار

لا أعرف لِمَ أشعر دائما أن القصيدة عندك، تغيب لفترات قبل أن تعود. ما اقصده هو إقلالك في النشر ربما ليس في الكتابة ولكن ما تصدره يبقى قليلا إزاء تجربتك التي تمتد اليوم على سنين طويلة؟

هذا صحيح، يبدو لي أن ذلك بسبب التنقل الدائم في حياتي بخاصة إلى بعض الدول البعيدة. كان هناك نوع من الابتعاد عن النشر في العالم العربي، أي أنني كنت وفيا دائما للكتابة ولتجريب أشكالها. في الآونة الأخيرة، بعد أن عدت إلى عُمان، أنجزت مجموعة من النصوص يمكن أن تشكل ثلاث مجموعات دفعة واحدة. بعض هذه النصوص كتبت في فترات متباينة وعمّا قريب أفكر بنشرها، ربما هنا في بيروت أو في مكان آخر وفق الظروف المتاحة. غير أن شاغل الكتابة وشاغل القصيدة يظل دائما حاضرا، ليس فقط على صعيد الكتابة بالمعنى الإجرائي وإنما حاضر أيضا على الصعيد الحياتي والنمط التأملي فيها. أنا متابع ليس لأشكال القصيدة الحديثة وإنما أيضا لمجموعة من الفنون الأخرى التي تتماس مع الكتابة الشعرية بما في ذلك السينما والفنون التشكيلية على سبيل المثال.

قبل أن أدخل إلى موضوع الكتابة، ثمة سؤال يفرض نفسه: لِمَ كانت الهجرة، إذا صحت التسمية ولِمَ العودة الآن إلى عُمان؟

^ إشكالية الهجرة لم تكن دائما خيارا ظرفيا، إنما أملته ظروف تتعلق بالبعد الشخصي أولا وأيضا بالبعد الحياتي في البلد الذي نشأت فيه. فأنا هاجرت من عُمان سنة 1968 باتجاه العراق، بغداد تحديدا، كان ذلك بسبب الدراسة بالمقام الأول، ومن المفارقات على الصعيد الشخصي التي سهلت عليّ عملية الانتقال وفاة والدتي، فكنت كمن يبحث عن مكان آخر يمتلك حس الأمومة وهذا ما أحسست به خصوصا في السنوات الأولى من حياتي في بغداد. بدا هذا الانتقال من مكان إلى آخر أشبه بالمرض بمعنى أصبح جزءا من تكويني لذلك عشت في المغرب وباريس ونيويورك، وطبعا مراحلي الأخيرة التي امتدت لسنين طويلة كانت في السويد وتحديدا مالمو، وهي المدينة الثقافية لذلك البلد. هذه الانتقالات دفعت تجربتي الكتابية إلى مدى أكثر رحابة.

سأقاطعك، أي تأثير كان لهذه الأمكنة على كتابة القصيدة؟

أحد التأثيرات هو البحث عن أشكال جديدة من الكتابة، بمعنى آخر علاقتي بالمكان وبأشكال الفنون كالسينما والمسرح إلى حدّ ما التي دخلت بشكل خفي لنقل إلى النص الشعري كاستخدام الصورة والمونولوغ وأشكال أخرى تعرفها هذه الفنون. لذلك يبدو لي أن تجربتي الشعرية لم تكن تطارد المكان كبعد جغرافي وإنما كبعد فني وجودي، في كل نصوصي لم أكن أكتب في حاشية النص اسم المكان أو المدينة، لا أعرف إن كانت هذه المسألة تتعلق بطول هذه الهجرة التي امتدت لأكثر من 35 عاماً.

وكيف تأثير المكان الأول اليوم على الكتابة، هل ثمة بعد حنيني مثلا؟

بالتأكيد، عادة أشتغل على موضوعات أو ثيمات لها علاقة بمفهوم الحنين والغياب، ولكن الحنين ليس بمفهوم الماضوي فقط، هناك الآن فهم آخر ربما، يمكن إزاحة مفهوم الحنين إلى أن يقارب المستقبل أو أن يتجه باتجاهه. في نصوصي الحديثة يبدو لي المكان الذي انطلقت منه أكثر وضوحا. طبعا لا يمكن أن يكون مكاني الأول ثابتا، المكان دائما في تغير والإنسان أيضا. هناك قصيدة جميلة للشاعر الراحل سركون بولص يتحدث فيها عن المكان الأول الذي يشكل جرحا أبديا دائما ما يختفي أو يتلاشى عندما تحاول أن تتلمسه على الصعيد الواقعي.

وكأنك تقول بطريقة ما إن القصيدة أو الكتابة بشكل عام، تصبح هي مكاننا الأول والأخير؟

تماما، وأظن ليس فقط القصيدة هي المكان الأول والأخير وإنما اللغة أيضا وفق أطروحة هيدغر التي يقول فيها إن اللغة هي مسكن الكائن. بهذا المعنى تصبح اللغة أداة خطرة ولا ينبغي أن نتعامل معها بنوع من الاستسهال وإنما بتأمل حقيقي.الكتابة نفسها هي البيت الوجودي للكائن. استحضر هنا تجربة الشعر الجاهلي أو ما قبل الإسلام حول مفهوم القصيدة الذي كان يشكل مفهوما يتعلق بالكائن وعلاقته بالزمن المطلق والمكان.

الأمكنة

ولكن الكتابة عندك، لم تعد تملك حيزها الأول، أقصد تبدو قصيدتك اليوم وكأنها صنيع من كل هذه التجارب المكانية واللغوية؟

هذا صحيح، من الصعب دائما الإمساك بالمكان الأول على نحو مطبق فهو دائما هارب وهو عادة ما يختفي بين الحين والآخر. الإمساك بتجربة المكان الأول تحيلك دائما إلى أمكنة أخرى. كتبت مجموعة من النصوص في مدينة مالمو تتعلق بالمكان الآخر لكنها تتعالق مع المكان الأول. هذا الذي من الممكن أن نسميه نوعا من الرحيل بين ضفتين. المكان الأول والمكان الآخر. هذه المسألة تحيلني أنا شخصيا إلى نوع من الحوار والإنصات للداخل أي الذات وللآخر، إنه نوع من التثاقف السري بين هذين الشكلين.

وبين هذه المحطات كلها، تمر مؤخرا إلى بيروت.. أما زالت هذه المدينة تشكل «خرافة» ما للكتابة؟

علاقتي ببيروت المكان حديثة بمعنى زرتها مرتين أو ثلاث فقط على عكس أبناء جيلي الذين ربما عاشوا فيها فترات زمنية طويلة ولكن على صعيد متابعتي لها ثقافيا وفنيا كانت منذ فترات طويلة. لا أعرف إن كانت بيروت تعرف نفسها بهذه الصيغة: الخرافة. غير أن المكتسبات الثقافية في بيروت وضمنها أثرت على نحو ما بالتجربة العربية بشكل عام وأنا أعرف مثلا على صعيد القصيدة الكثير من الشعراء العرب مروا من بيروت، كلّ لأسبابه الخاصة. يبدو لي كانت بيروت في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، كانت تشكل زخما ثقافيا وبعدا للحرية: كمجتمع منفتح على أشكال وصيغ جديدة في ذلك الوقت. الآن لم تعد أي مدينة عربية تشكل مركزا كما كانت في السابق، لم يعد هناك أي مركز في الأصل في العالم العربي. ومن خبرتي وجدت أن المركز كان على الدوام في الغرب بصيغ متعددة. نحن عانينا في بلدان متعددة من فكر المركز والهامش وأظن أنه ينبغي الخروج من هذه الصيغة التي لم يعد لها أي معنى على الإطلاق.

أظن أن الكتابة هي المعنى الوحيد؟

الكتابة هي الموئل الوحيد وهي التي تشكل الحالة الوحيدة الخصبة بالنسبة إلى الشاعر.

السفير- 1- 8-2012

أقرأ أيضاً: