اسكندر حبش

باسم عباسيستعيد باسم عباس في "ليس موتاً.. إنه نعاس غريب" (دار الفكر اللبناني)، لغة المرثاة، ليدخل بها في تساؤلات عن الوجود والحياة والموت بعد رحيل ابنه جاد. أمام هذا الحدث، لم يكن هناك – ربما – سوى هذه اللغة التي تجعل من الكتابة متنفساً وبديلا من أشياء أخرى، وبخاصة حين تستعيد ذكريات جميلة لا تزال حاضرة. حول مجموعته هذا اللقاء.

* نبدأ من مجموعتك الأخيرة "ليس موتاً.. إنه نعاس غريب"، سأبدأ أولا من العنوان، هل الموت حياة أخرى بالنسبة إليك؟
- ولد هذا العنوان من حالتي الوجدانية التي رفضت أن تقتنع بأن ولدي جاد قد مات. هذا الموقف مبني على مساحات داخلية تعيش فيها ذكريات جميلة جداً، حيث أن هذا الشاب اليافع كان شعلة ذكاء وملاكاً بكل ما تعني هذه الكلمة، وكل الأصدقاء الذين عرفوه لاحظوا هذه القيم التي أتكلم عنها. أرفض أن أسميه موتاً، ولذلك أسميته "نعاساً غريباً"، معتبراً أنه سيستيقظ في لحظة ويعود إليّ. وأنا أرفض أن أكون تقليدياً في فهم الموت، وبكل صدق أقول إنني يومياً أتحدث مع جاد صبحاً ومساءً وأقترب من صورته، ألاعب أصابعه، أشمه كالعادة في عنقه وأطبع قبلة على جبينه كما كنت في حياتي معه دائماً. إذاً العنوان مستند إلى خلفية أنه ما زال حيّاً وقد يعود، هكذا تعاطيت مع الحدث الزلزال الأول حين فقدت ابنتي ريان التي كانت في السادسة من عمرها.
أنا عادة لا أزور المقابر، خلافاً لما اعتاده الآخرون، وهذا مشهد آخر من تفاصيل حياتي التي أصر على أن لا تكون تقليدية. أذكر في الحدثين – وفاة ريان ثم وفاة جاد – أن الكل توقع إما أن انتحر وإما أن أصاب بالجنون، لكن الكتابة جعلتني أتنفس وأحول الموت إلى لغة. قد تكون قضية الشعر منقذاً فعلياً من تبعات الموت، وشعرت بأنني من خلال الكتابة أستطيع أن أجعل من الموت حالة حافلة بالحياة، لذلك قلت في إحدى المقطوعات القصيرة "سأهزم هذا الموت بالحب".

* لكن اللغة ستبقى لغة إزاء الغياب الفعلي وبعيداً عن "هذا التنفس" الذي تحدثت عنه، هل يمكن للشعر أن يكون بديلا من شيء ما؟
- أعتقد أن الشعر بما يحمل من لغة وفكر وإيقاع نفسي عميق يستطيع أن يعوض الكثير ممّا في الحياة، كما يمكن أن يعوض نسبياً – وأقول نسبياً لا كلياً – الكثير مما نفقد، لكن بعض الحالات المأسوية الكبرى تحفر في الداخل وتفجر حالات فيها الكثير من التشظي النفسي، فيأتي الشعر ليلملم هذه التشظيات، وبهذا المعنى يكون قد قام بدور إعادة التوازن إلى الشاعر أو إلى الكاتب عموماً، لأن الشاعر أو القصصي أو الروائي أو حتى الرسام الخ، عبر نتاجه، يبدع عوالم جديدة قد تعطيه الكثير من تعويض الخسارات التي يتعرض لها. وثمة نماذج كثيرة في التاريخ وقفت كتاباتهم حارساً أميناً لتداعياتهم النفسية ومنعت أصحابها من الانهيار أو الانتحار أو الجنون. يبقى أن أشير إلى أن اللغة خلق، وبهذا المعنى أيضا تجعل الكاتب يتجدد، ينسى أشياء كثيرة ويبدع لوحات تحمل إليه بصيصا لأمل جديد.

تجارب مدمرة

* على الرغم من هذا البصيص بأمل جديد، تنحو المرثاة عندك إلى أكثر من حديث عن شخص عزيز فقدته، أقصد ثمة مرثاة للحياة بأسرها، هل ثمة حياة اندثرت، وثانياً هل الفقدان سمة من سمات الكتابة؟
- مررت بتجارب مدمرة إذا صح التعبير على المستوى النفسي، أذكر أنني فقدت والدي وكنت شاباً يافعاً، بعدها بفترة قصيرة فقدت أخي وكان في ذروة شبابه أيضا، وبعدها هذان الزلزالان ابنتي وابني، لكن هذا التدمير النفسي كان يواجَه بإرادة في داخلي، لدرجة أنني قلت مرة إنّ في داخلي نهرا من العاطفة وجبلا من الإرادة، لذلك صمدت في وجه كل هذه النكبات وبقيت مصرا على المواجهة، وتجاوزت مرة بالكتابة ومرة بالحب ومرة بالحلم، معتقدا بأن الحياة كلها حلم. وعليه لم تكن النكبات سوى بؤر إضاءة ساعدتني ربما في تفجير طاقات على مستوى الكتابة، لكن هذه المراثي لم تكن وحدها الحاضرة في كتاباتي، إذ ثمة الكثير من قصائد الحب والتأمل والانصهار بالطبيعة، ودائما أنسنة الأشياء تحضر بقوة في قصائدي، الريح تصبح صديقتي، والنهر موسيقى روحي، والصخر صورة عن عزيمتي في هذا الوجود، وأعترف بأنني قلق دائما، لكن هذا القلق يصبح نبضا في حبري وعلى أوراقي، ويتحول إلى علاقات لغوية لينسجم مع ما قاله الجرجاني بأن الشعر علاقات لغوية. طبعا هذا قد يدخلنا في التنظير لمفهوم الشعر.

* ما مفهومك للشعر إذاً؟
- انطلاقاً من هذه العلاقة الأخيرة أقول إن الشعر أكبر من أن يحدد بدراسات أو تنظيرات ومطولات، الخ... الشعر حالة، عندما أقرأ نصاً أو أتلقى نصاً من خلال الاستماع، إذا استطاع أن يولد في داخلي حالة من الارتياح أو الإحساس بمتعة النص، معنى ذلك أن الشاعر تمكن من أخذه إلى مساحات من عالمه الخاص، وهذا يكون مؤشرا على نجاح الشاعر في الوصول إلى المتلقي بيسر، وبالتالي يؤكد أن كل النظريات تبقى دون مستوى الشعر الحقيقي. بعيدا عمّا قال النقاد العرب القدامى والمحدثون، النص الشعري يبقى متقدما على كل النظريات النقدية وأعتقد أن تجربتك أنت شخصيا بصفتك شاعرا وناقدا لا بدّ أن تكون قد اكتشفت أن النقد هو إضاءة على جوانب من النص، قد يلامسها أحيانا بشكل دقيق، وقد يلامس أشياء بسيطة منها، وأعتقد أكثر بأن الشاعر المثقف نقديا يستطيع أن يكتب في النقد أكثر وأهم من ناقد لا يمتلك روحا شاعرية.

* تشير إلى قضية كبيرة نعرفها اليوم في ثقافتنا، هل أن النقد مواكب فعلا للحركة الإبداعية الشعرية؟
- بكل صراحة لو كان النقد مواكباً للحركة الشعرية كما يفترض أن يكون لكانت حركة تطور الشعر أقوى، إلا أن الشعر بقي، بحسب قناعتي الشخصية، متقدماً جداً على حركة النقد. وهذا لا يمنع من أن يكون هناك بعض النقاد الذين تركوا بصمات في ميدان النقد الأدبي، إلا أنها لم ترق إلى مستوى الإبداع كما كان الشعر. لذا قد نقرأ أحيانا نقدا انطباعيا هنا أو هناك قد نسر به أو نغضب منه، والملاحظة العامة أننا حتى الآن، نادرا ما نقرأ نقدا يؤسس لتغيير ما في حركية الشعر، يبدو في المدى المنظور أن الشعر سيبقى سباقاً.
في كل العصور التي مرت لا نذكر أن هناك ناقدا استطاع أن يتجاوز شاعرا كبيرا، بمعنى أن كل النظريات لا تعدو كونها كلاما قد يكون مبنيا على أسس إلا أنها تبقى دون مستوى النص الشعري الإبداعي.

السفير- 21-3-2013

أقرأ أيضاً: