ربما تناسينا قليلا ما شهدته العهود السابقة من حرب في ايرلندا الشمالية. كانت إحدى القضايا الكبرى في العالم، وتبدو اليوم كأنها تذهب في غياهب التاريخ على الرغم من أن لا حلول فعلية لغاية اليوم لتلك المشكلة.
سام ميلار أحد أعضاء الجيش الجمهوري الايرلندي، كان سجن وتعرض للتعذيب لمدة 8 سنوات في «لونغ كيش»، وبعد خروجه من السجن هاجر إلى الولايات المتحدة، ليعود بعد سنوات إلى بلفاست. وبين هذه الفترة، بدأ كتابة روايات بوليسية عرفت صدى ونجاحا.
اليوم ينشر ميلار سيرته الذاتية، التي يستعيد فيها الكثير من التفاصيل عن تلك الفترة المرعبة التي قضاها في السجون البريطانية. صحيفة «لونوفيل أوبسرفاتور» أجرت حوارا مطولا معه، هنا مقتطفات لأبرز ما جاء في حديثه.
^ عرفت «معمودية النار» في إيرلندا الشمالية في 30 كانون الثاني 1972، وأنت في الرابعة عشرة من عمرك، خلال «أحد لندن ديري الدامي». كيف لكاثوليكي ذي دماء بروتستانتية (وذي اسم بروتستانتي) مثلك أن يلتحق بالـ IRA (الجيش الجمهوري الإيرلندي)؟
{ شكل الأحد الدامي بضحاياه الثلاث عشرة ومن بينهم سبعة مراهقين صدمة كبيرة بالنسبة إليّ: لقد جعلتني حادثة ديري أعي ما كان يدور حولي. لقد شرح لي والدي، الذي كان جمهوريا قديما واشتراكيا، الكثير من الأشياء، لكن توجب علي أن أرى بأم عينيّ كي أتحقق من أن مذبحة مماثلة يمكن لها أن تحدث في بلدي.
من تلك اللحظة بدأت تربيتي السياسية: أصبحت جمهوريا وانتسبت يافعا إلى الجيش الجمهوري الايرلندي كي أطرد البريطانيين من إيرلندا. في تلك الحقبة، كنت أعتقد ولا أزال أعتقد، أن القوة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك، لأنهم استولوا على بلدي بالقوة. لكنت أحببت أن أعيش حياة طبيعية وألا أفكر إلا بالفتيات، بالموسيقى وبالسعادة، لكن للآسف لم يكن بوسعي القيام بأي شيء آخر إلا النضال من أجل الحرية.
^ أمضيت 8 سنوات في سجن «لونغ كيش»، في «البلوك H « المرعب لأنك رفضت أن ترتدي زيّ «الحقوق المشتركة». عرفت كل التعذيب الممكن، الضرب، العري، الذل، التفتيش الجسدي باستمرار، الحرمان من النوم، الزنازين التي دهنت ببرازك.. أي التعذيب الجسدي والنفسي بشكل يومي.. كيف استطعت الصمود؟
{ نحيا ونحن نضع قدما أمام الأخرى قائلين لأنفسنا ان هذا الأمر لن يستمر إلى الأبد. بعد اسبوعين، قلت لنفسي إن باقي العالم لا يمكنه أن يسامح ما يحدث في السجن: لو كان ذلك يحدث في روسيا، لثار العالم بأسره. لكن بما أن الأمر يتعلق ببريطانيا العظمى، فلم يكن أحد يقول شيئا. كنت أحيا كل يوم بيومه: أحيانا أشتم الحراس، وأحيانا أطلب منهم أن يساعدوني. لست شخصا متدينا، لكن من وقت إلى آخر نشعر بحاجة لأن نتكئ على أحد. تحملت الأمر كيفما استطعت، يوما بعد يوم.
^ كيف تفسر قسوة السجون البريطانية وساديتها؟
{ أعجز عن شرح ذلك. كانت الجحيم. تشبه الغستابو قليلا: كيف يمكن لأناس القيام بأشياء مماثلة، وأن يعودوا إلى منازلهم لتناول العشاء مع عائلاتهم بعد أن يكونوا قد قاموا بعمليات تعذيب طيلة اليوم؟ كيف يمكنهم أن يمزحوا مع أصدقائهم بعد الذي قاموا به تجاهك؟ بيد أن هؤلاء الحراس كانوا بريطانيين ولم يظهروا سوى الحقد تجاه السجناء الايرلنديين.
أنكرت وجهي
^ خلال سنواتك الأربع الأولى من الاعتقال، لم يسُمح لك بأن تنظر في المرآة. أي شخص اكتشفته حين عدت ورأيت وجهك للمرة الأولى؟
{ خلال أربع سنوات، لم أر وجهي مثلما لم أر أحدا سوى الحراس، ولا حتى رأيت المحتجزين في الزنزانة إلى جانبي. وحين رغبت في النهاية في حلق ذقني لم أستطع رؤية وجهي بشكل كامل في المرآة لكثرة ما شعرت بالخوف. نظرت إلى «قسم» من هنا، إلى قسم من هناك واحتجت ربما إلى أسبوعين كي أتمكن فعلا من رؤية وجهي بالكامل. صدمني ما رأيت. كنت ولدا حين دخلت السجن وقد تغيرت ملامح وجهي كثيرا بعد تلك الفترة. بدا الأمر كما لو أني أرى شخصا آخر: «من هو هذا الشخص»؟ لقد تحطم قلبي حين رأيت ما أصبحت عليه.
^ شكل ذلك عذابا نفسيا حقيقيا؟
{ هناك الكثير من السجناء السياسيين لم يستطيعوا تحمل ذلك وانهاروا. لكل شخص درجة في الاحتمال: ولا أعرف ما هي قدرتي لأن البريطانيين لم ينجحوا في تحطيمي تلك الفترة، ربما لو قاموا بأشياء أخرى لانهرت، من يدري؟ في أي حال هناك العديد من السجناء انهاروا وبعضهم انتحر لأنهم شعروا بالذنب، ذنب أنهم تخلوا عنا وذنب أنهم لم يستطيعوا المقاومة تحت التعذيب.
^ لمَ بقيت الكنيسة الكاثوليكية ورجال السياسة صامتين؟
{ لم يكن الجميع موافقا على فكرة النضال. من بين الطبقات الوسطى والطبقات الأعلى كثيرون كانوا يعرفون ذلك، لكنهم رفضوا أن يشتركوا بهذا الأمر لأنهم لم يرغبوا بقلب حيواتهم الصغيرة. لحسن الحظ كان هناك الكاردينال توماس اوفيياك ليعبر عن ذلك. لست معجبا كبيرا بالكنيسة، بيد أنه كان شخصا مؤمنا، وقد صدمه الأمر فعلا. قام بزيارة السجن في تلك الفترة وقد هاله ما شاهده. لكن ما ان بدأ التصريح علانية حتى جعله البريطانيون ينحني أمام الأمر إذ أطلقوا عليه الإشاعات من كل حدب وصوب، كأن قالوا على سبيل المثال انه لوطي. لكن بقية الكنيسة فضلت أن تبقى صامتة بخجل. عديدون ظنوا أن الأمر ليس سوى قضية دينية. البريطانيون ودعايتهم هم من حاولوا أن يأخذوا هذه الحرب باتجاه أزمة بين الكاثوليك والبروتستانت.
^ هل تعتبر نفسك شخصا متصلبا؟
{ أبدا، لم أضرب أحدا في حياتي. الشجاعة أمر يأتي من الداخل.
^ هل كنت شجاعا في السجن؟
{ لا، لا أعتقد. ربما كنت عنيدا لكن لم أكن شجاعا بشكل خاص.
^ بعد كل المعاملة السيئة التي تعرضت لها هل يبدو لك من المستحيل أن تسامح؟
{ يا الهي. أتمنى أن أكون نزيها في إجابتي. يمكن لي أن أقول إني سامحت الجميع، لكن هذا ليس صحيحا: لا يمكنني مسامحة حراس السجن الذين عذبوني.حين أعلم بأن واحدا منهم مات في حادث سيارة أو أنه قتل، أقول: «لقد استدركه الأمر أخيرا».
^ عدت لتعيش اليوم في بلفاست، في إيرلندا الشمالية. ما هو الوضع الحالي هناك؟
{ حين تمّ توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة، كان الجميع متفائلا. لكنه تبدى في النهاية على أنه لم يزد عن ضرب احتيال، أي ما يسميه الايرلنديون «زيت أفعى المحتالين». من الصعب شرح ذلك، لكن من الواضح أن الاتفاق ليس سوى قماشة من الأكاذيب قياسا إلى أن الوضع الراهن أتعس بكثير من السابق.
الجمهوري السابق جيري أدامس، هو اليوم جزء من المؤسسة المرتبطة بالبريطانيين وأناس مثلي يعبرون عن أفكار منشقة يمكن لهم أن يوضعوا بالسجن مرة أخرى. هناك العديد ممن يختفون والجميع يشعرون بالخوف. يمكن لك أن تعتقل وأن توضع في سجن سري وأن تختفي لسنين. ماريان برانس، وهي مناضـــلة ســـابقة من السبعينيات مسجـــونة حاليا منذ ثلاث سنوات لأنها قرأت فقط خطابا في مقبرة بمناسبة دفن.
--------------------------------------
السفير- 3 مايو 2013